حكومة إصلاحية… أو مقتل العهد في المهد - بقلم محيي الدين الشحيمي
شارك هذا الخبر
Tuesday, February 4, 2025
تكمن مشكلة الثنائي الحقيقية مع هذا العهد في كونهم يقرأون في كتاب مختلف عن الذي يقرأ به كلّ من رئيسَي الجمهورية والحكومة المكلّف. يتقيّد العهد الجديد بالكتاب الوطني، أي بالدستور. يتّخذ منه سراجاً مضيئاً وحيداً. ويعتبره شعلة الخلاص الوحيدة. فيما يقرأ الثنائي وكثر غيرهم في كتاب الديمقراطية التوافقية التي تضرب الديمقراطية الحقيقية، وتضرب الفكرة العقْدية السياسية اللبنانية. فلماذا التمسّك بوزارة المال والثلث المعطّل؟ وما هي الميثاقية؟ وما هو شكل الحكومة المطلوبة؟
تعتمد الديمقراطية على حكم الأكثرية ومعارضة الأقلّية للحكم. فيما تتغذّى الديمقراطية التوافقية على الأعراف والاتّفاقات البينيّة المهمّشة للدستور. تجلّت هذه السردية في التسمية والتكليف. حاول البعض إظهار عدم ميثاقية التكليف بحجّة عدم موافقة الثنائي على تكليف القاضي نوّاف سلام لرئاسة حكومة. في حين تتجلّى الميثاقية بالمشاركلا سيما أنّ عدم التسمية هي تسمية بحدّ ذاتها.
ما هي الميثاقيّة؟
يكثر الحديث عن الميثاقية عند كلّ استحقاق سياسي. تستمدّ قوّتها من الدستور وركيزة العيش الواحد. تنطلق من مبدأ الشراكة في إدارة الشؤون التأسيسيّة للكيان اللبناني. تتمحور على جناحَي التكوين المسلم والمسيحي الرئيسيَّين في البلد. تعود جذورها إلى ميثاق الجمهورية الأولى في عام 1943. أضحت مع الطائف عام 1990 أصلاً حقيقيّاً في متن دستور الجمهورية الثانية ووثيقة الوفاق الوطني.
يتمّ تثبيت الميثاقية بين الطوائف فقط. ليست بين الأحزاب والمذاهب والبيوتات السياسية والشخصيات. وليست فعل تعطيليّ واحتكاري في تمثيل السلطة للطوائف.
ترجع جذور تأليف الحكومة الميثاقية إلى الدستور اللبناني، عبر نصّ المادّة 95 من الدستور. لا يتعلّق ذلك أصلاً بعمليات التأليف، وإنّما بالأداء والتعاطي. إذ تنطبق السياسات التنفيذية المصرّح عنها بالبيان الوزاري. فلا تفسّر الميثاقية على خاطر نفوذ الأمر الواقع. فهي عهد قائم بين المجموعتين الكبيرتين المؤسّستين في لبنان، وليست بين مذاهبها. فلا يجب حصر التمثيل بالأحزاب السياسة فقط، والقيام بحجب هذا الحقّ عن الآخرين بحجّة التمثيل البرلماني، حيث يحصر الثنائي الميثاقية بتمثيلهما الحزبي فقط، وهو أمر مخالف للميثاقية.
دأبت السلطات المتعاقبة بعد الطائف في لبنان، إبّان مرحلتَي الوجود السوري والإيراني، على تغيير مفهوم الميثاقية من كونه اتّفاقاً بين المسيحيين والمسلمين بشكل عريض، إلى استعماله لتعزيز طبيعة التمثيل المذهبي في فسيفساء الحكم. تشوّه معنى الميثاقية. استخدمت اجتهادات غير جائزة قانوناً بوجود النصوص. فلا تعني الفقرة (ي) من مقدّمة الدستور: “لا شرعية لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”، حقّ الفيتو المذهبي، ولا تعني السماح لأيّ حزب وجماعة مؤسّسة، أو حتى أيّ فريق وفرد، بربط لبنان بمحاور تتعارض مع كيانية لبنان المؤسّسة، وتؤذي صحّة التمثيل الحزبي والطائفي وكلّ التوازنات، بدوافع خاصّة بعيدة عن اللغة الوطنية.
إذ تنصّ الفقرة “د” من مقدّمة الدستور على أنّ الشعب مصدر السلطات، ويمارسها عبر المؤسّسات الدستورية، وليس عبر المؤسّسات الحزبية التي تشهد على توافر الميثاقية من عدمها، على حسب الحصص والمكاسب وما تشتهيه من شكل الحكم وطريقة التمثيل الخادشة للميثاقية.
وزارة الماليّة والثلث المعطّل
تقوم فكرة الديمقراطية على الحكم والمعارضة. نصّت الفقرة الخامسة من المادّة 65 من الدستور اللبناني على اجتماع مجلس الوزراء الدوري بمقرّه الخاص، وأنّه يحتاج انعقاده إلى نصاب أكثرية الثلثين، ويتّخذ قراراته المصيرية بأكثرية الثلثين. يدلّ ذلك على أهمّية تمسّك المعارضة بنسبة الثلث المعرقل (أو الثلث زائداً واحداً).
تهدف الأقلّية في ذلك إلى تكريس معادلة التوازن مع قوى الأكثرية، بطريقة غير قانونية ولا دستورية، من أجل تحقيق واقع سطوة الأقلّية المعطّلة، في مقابل الأكثرية الموالية والحاكمة. هذا النهج هو نتاج سلوكيّات الأمر الواقع، وفعل تدبير السلاح غير الشرعي، الذي كرّسه اتّفاق الدوحة بصفة دائمة، على الرغم من أنّه كان اتّفاقاً لمرّة واحدة. تمسّكت القوى الممانعة بهذه الخاصيّة منذ عام 2008، من أجل ضمان عدم قدرة الخصم على تمرير المراسيم التي لا توافقها، وصولاً إلى تعطيل عمل حكومات الوحدة الوطنية وإسقاطها بسطوة الأقلّية.
يتمسّك الثنائي بحقيبة الماليّة بحجّة مشاركة الطائفة الشيعية التنفيذية عبر التوقيع على المراسيم. فيما يوجد في العمق حاجات مغمورة يتوخّاها الثنائي. تتجلّى أولاً في السيطرة على الحاكمية، حيث يمر تعيين حاكم المركزي بمرسوم يتّخذ في مجلس الوزراء، بناءً على اقتراح وزير المالية.
يأتي الهدف الثاني في السيطرة على العديد من المفاتيح والملفّات، بما أنّ وزير المالية هو المسؤول عن مراقبة حسابات مصرف لبنان، التي ترتبط بشكل مباشر باستكمال التحقيقات والتدقيق الجنائي، إضافة إلى مهمّة توزيع العملات الصعبة، التي يتمّ تنسيقها مع وزير المالية والحاكم، سيما عندما تحتاج الدولة إلى شراء الدولار من أجل النفقات والتمويل. تلوح أيضاً إشكالية توزيع الخسائر، بما أنّ الوزير عضو في اللجنة التي تضع خطّة المعالجة، مع مسؤوليّته وفق القوانين عن مصير المصارف ورساميلها.
تعدّ وزارة المالية من الحقائب المهمّة ذات القدرة السياسية التنفيذية الموسومة. تشارك في التوقيع مع كلّ من رئيسَي الجمهورية والحكومة والوزير المختصّ. تشبك في خاصيّتها الحضور الحكومي الرابع والتوقيع الثالث، حيث تحتاج كلّ المراسيم المؤلّفة من موازنات خاصّة وأعباء مالية إلى موافقة وزير المالية. وبالتالي تتطلّب توقيعه على أيّ قرار.
لم ينصّ الدستور اللبناني على تخصيص أيّ حقيبة وزارية بالذات، وبشكل معيّن لأيّ مكون أو طائفة أو حتى مذهب لبناني. فلا توجد حقيبة وزارية حكراً على أحد، ولا هي ممنوعة عنه أيضاً. ولا تكون حماية الطائفة عبر تثبيت وزارة باسمها تحت ستار التوقيع الثالث. يتمسّك الثنائي بالمالية لأنّه لا مجال لأيّ تمويل في الدولة، مهما كان حجمه ومقداره، إلّا من خلالها.
مداولات الطّائف غير ملزمة
يقع كلّ ما تمّت مناقشته في الطائف وما تمّ تداوله في خانة الحوار وتبادل الآراء، ويتجسّد أيضاً ضمن خانة النقاش غير الملزم، ما لم يُصَر إلى إقراره بشكل رسمي. لم يقرّه المجلس النيابي اللبناني. ولم ينصّ الطائف في وثيقته على التوقيع الثالث، ولم يقرّ بحصر الوزارة باسم فئة محدّدة من اللبنانيين بشكل احتكاري.
يحتاج لبنان إلى نمطية جديدة في شكل الحكومة. تُسقط كلّ المعادلات القديمة. لذا المطلوب تكريس وحدة الدولة، وسيادتها غير المجتزأة، ضمن الميثاقية المؤسّسة المذكورة في الدستور بين المكوّنين الكبيرين للدولة اللبنانية، وكفاءة الإدارة. فحذارِ من إعادة إنتاج المعادلات الفاشلة السابقة. وحذارِ من عودة الأعراف الملتوية المفتّتة للدستور، والمعارضة للقانون. لا لحكومة المحاصصة، وإلّا يكن ذلك بمنزلة الرصاصة الأولى للعهد وهو في مهده.
لا مشكلة في أن تكون وزارة المالية للطائفة الشيعية من غير أن تكون حكراً مثبتاً للثنائي. تنطبق هنا عملية القياس الحاصل بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، التي ليست حكراً على الأحزاب. لذا على الوزارات أن تكون كذلك وفي سياق المداورة. يجب أن تكون الوزارات، وخاصة المالية، جزءاً من التضامن الوزاري، وأن لا تكون مشروع رأس حربة ضدّ الجمهورية والحكومة في مواجهة الديمقراطية، وأن لا تعطّل مفهوم الأكثرية وتذوّب المعارضة في العرقلة السلبية وتكرّس سيطرة الأقلّية على زمام الحكم.
يحتاج لبنان إلى نمطية جديدة في شكل الحكومة. تُسقط كلّ المعادلات القديمة. لذا المطلوب تكريس وحدة الدولة، وسيادتها غير المجتزأة، ضمن الميثاقية المؤسّسة المذكورة في الدستور بين المكوّنين الكبيرين للدولة اللبنانية، وكفاءة الإدارة. فحذارِ من إعادة إنتاج المعادلات الفاشلة السابقة. وحذارِ من عودة الأعراف الملتوية المفتّتة للدستور، والمعارضة للقانون. لا لحكومة المحاصصة، وإلّا يكن ذلك بمنزلة الرصاصة الأولى للعهد وهو في مهده.