تصرّ “حماس” على سرديّة الانتصار وتقديم بروباغاندا كثيفة لتصوير ما حصل منذ 7 أكتوبر 2023 إنجازاً للمشروع الوطني الفلسطيني. وهي بذلك إنّما تسعى لمنع الأسئلة الصعبة، فلسطينياً وعربياً، حول الخسائر البشرية أو التخطيط العسكري أو مدى مسؤوليّتها عن إطالة أمد الحرب. فكيف يُساءل، من كان قائده، يحيى السنوار، يتجوّل في القطاع ببطّانية على الرأس وعصا باليد كأنّه موسى يقود بني إسرائيل في رحلة الخروج من مصر…؟
استحضار هذا الشريط الآن ليس أكثر من محاولة بائسة لخلق “أيقونة دينية” أو “مُخلّص مقدّس” يرسّخ فكرة الشرعية الأخلاقية والدينية للقائد المنكبّ على “إنقاذ شعبه”. بيد أنّ هذه المقاربة الدعائية تنطوي على نقصٍ جوهري في وعيها للتفاصيل التاريخية. فلا البحار أمام الفلسطينيين معدّة للعبور الآمن بعد أن يشقّها القائد بعصاه اليوم، ولا كان التحرّر من استعباد فرعون بدايةً لرخاءٍ سريع.
أربعون عاماً من سنوات التيه عاشها اليهود في صحراء سيناء بعد خروجهم من مصر، عانوا خلالها نقصاً في المياه والطعام، وفائضاً في التمرّد والقلاقل مع قبائل المنطقة. ومثلهم، يبدو الفلسطينيون على موعد مع التيه الذي قادتهم إليه حماس، في ظلّ الحديث عن نقلهم إلى مصر أو الأردن أو إندونيسيا.
هكذا تتجسّد المفارقة الكبرى في صورةٍ واحدة: انتصارٌ شفهي يُرافقه وعيٌ عميقٌ بأنّ الطريق من بعده ستكون أطول وأشدّ وعورة.
ساحة عرض وإخراج
كشفت حماس عبر عراضات تبادل الأسرى والرهائن في غزة، عن رؤيتها لليوم التالي في غزة. أُعدّت ساحة العرض بعناية شديدة، وبلمسات إخراجيّة تسعى للتعبير عن الانتصار والاستمرارية والصمود، “قرب هذا الدمار العظيم”… بحسب عبارة الشاعر الفلسطيني محمود درويش.
تصرّ “حماس” على سرديّة الانتصار وتقديم بروباغاندا كثيفة لتصوير ما حصل منذ 7 أكتوبر 2023 إنجازاً للمشروع الوطني الفلسطيني الحرب بحسب أخيم شتاينر، رئيس برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، في مقابلة مع وكالة الصحافة الفرنسية على هامش أعمال منتدى دافوس الاقتصادي، قضت على 60 عاماً من التنمية في القطاع، في حين أنّ جمع عشرات مليارات الدولارات لإعادة الإعمار سيكون أمراً صعباً. ثلثا المباني في القطاع دُمِّرت أو تضرّرت، وهو ما خلق كتلة أنقاض تتجاوز 42 مليون طنّاً، ستكون إزالتها عملية خطرة ومعقّدة. “الناس كانت لديهم مدّخرات. كانت لديهم قروض. استثمروا في أعمال تجارية. لقد ضاع كلّ ذلك”، يقول شتاينر.
حماس
المشهد الاستعراضي المنتج في غزة إذاً، ليس أكثر من محاولة لاختزال هذه النتائج، لحرب غير مسبوقة في تاريخ المحنة الفلسطينية، في فيلم دعائي مبتذل.
مقتل 20 ألف مقاتل
تريد حماس للعالم أن يغمض عينيه عن فداحة نتائج 7 أكتوبر 2023، وأن تعيد تقديم نفسها جيشاً منظّماً يفرض شروطه على “العدوّ”، وأن تطمس الفظائع التي ارتكبتها بحقّ الفلسطينيين أوّلاً، تحت شعارات “المقاومة الشرعية”.
الأهمّ أنّها عبر العراضة المسلّحة، وسيّارات الدفع الرباعي، والبزّات العسكرية، وعديد المسلّحين، تعد أهالي القطاع باستمرار ما يسمّى المقاومة. وإذ تشير التقديرات الإسرائيلية إلى أنّ 20 ألف مقاتل من حماس قُتلوا، فإنّ الحركة تعتمد الآن على تجنيد جيل أصغر من الفلسطينيين، وهو ما يستوجب إحياء سردية القوّة والصمود، والتأكيد أنّها لم تُهزم. وتحتاج أيضاً إلى تأكيد مكانتها أمام جمهورها، عبر إظهاره متمسّكاً بالاستعداد للموت في سبيل المشروع الذي تمثّله الحركة.
كشفت حماس عبر عراضات تبادل الأسرى والرهائن في غزة، عن رؤيتها لليوم التالي في غزة يرفض رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو البحث في تفاصيل عمليّة وجدّية لخطّة “اليوم التالي” في غزة، وتتربّع السلطة الفلسطينية في رام الله على عرش من العجز والفشل، لكنّ حماس ستجد طرقاً لإعادة إنتاج نفسها قوّةً قادرةً على فرض هيمنتها على ما بقي من غزة وأهلها.
نحن إذاً إزاء حلقة مفرغة من عروض القوّة المصمّمة لتغليف الهشاشة، والكافية فقط لتعطيل الحلول والتسويات من دون أيّ قدرة على بناء مستقبل مقبول للإنسان الفلسطيني. مرعب أن يكون تدمير حياة 2.3 مليون نسمة وانفضاض حلفاء حماس عنها وتحوّلها وفق كلّ المقاييس إلى حركة هامشيّة، مجرّد وجهات نظر تردّ عليها الحركة ببضعة فتية وبنادق وأشرطة مصوّرة، وأن لا يغيّر مسلسل الرعب طوال 15 شهراً سطراً واحداً في سرديّة ما يُسمّى المقاومة.
ما تريده حماس يظلّ كما هو: الحفاظ على سلاحها والتمسّك بسلطتها على القطاع، وتجديد شرعيّتها الداخلية والخارجية ما أمكن، مستغلّةً غياب ضغوط أو ترتيبات إقليمية ودولية حاسمة، تفرض انعطافة جذرية في المشروع السياسي والأيديولوجي للحركة. أمّا دماء الفلسطينيين فهي “تضحيات ضروريّة”، بحسب رسائل بعثها السنوار لقادة آخرين في حماس، وكانت كشفت عنها الصيف الفائت صحيفة وول ستريت جورنال.