ماكرون في بيروت… على حصان سعودي-بقلم محيي الدين الشحيمي
شارك هذا الخبر
Wednesday, January 22, 2025
حلّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ضيفاً في بيروت في رحلة عمل دبلوماسية، سعياً إلى تأكيد دعم لبنان في مرحلته الحسّاسة والمفصلية. كانت لهذه الزيارة أولويّات محدّدة طبعت سرعتها ودقّتها. كانت بروتوكوليّاً فرنسية، وخماسيّة في العمق، وسعوديّة الطابع في الجوهر العملاني. احتوت على مسلّمات بيان الخماسيّة الثلاثيّ.
تعوّل فرنسا على عودة الجمهورية في لبنان إلى سابق عهدها من البوّابة الدولية، والتعاون انطلاقاً من مبدئية الدستور والقرارات الدولية. تعتبرها فرصة باريسيّة مهمّة لاسترداد دورها، واسترداد ارتياحها في علاقتها التي ستكون مع الدولة فقط، وفق الأصول الإجرائية الثابتة والقوانين الجامعة، وليست مع الأشخاص وأحزاب “الأمر الواقع”، وبما يتناسب مع الأهواء والرغبات والأطماع. فما هي الخطوات الفرنسية المستقبلية؟
ركّز الرئيس الفرنسي ماكرون في زيارته على ثلاثة أنواع من المسلّمات والدعم:
– الدعم اللامتناهي للعهد الرئاسي الجديد، وتعزيز سيادة لبنان عبر احترام الدستور وتنفيذ القرارات الدولية، وتحقيق ازدهاره وصون وحدته بتشكيل حكومة تحاكي القيمة المنتظرة من المشهدية.
– الدعم اللوجستي والعسكري الكبير للجيش اللبناني والمؤسّسات الأمنيّة المختلفة، وتسليحهم بالعتاد اللازم من أجل ضمان الأمن والاستقرار على كامل الجغرافية اللبنانية، من بوّابة جنوب الليطاني إلى الحدود اللبنانية السورية. يعتبر موضوع حصرية السلاح بيد الدولة الفيصل والمدخل الأساسي في تطبيق القرارات الدولية، وجوهر التعاون بين الشرعيّتين الوطنية والدولية.
– الدعم التقنيّ في مسيرة الإصلاحات وإعادة ترشيق النظام اللبناني، عبر تحضير مؤتمر دعم ضخم يشبه مؤتمر سيدر.
حضور فرنسيّ مختلف
ليس المجيء الأوّل لماكرون إلى لبنان. لكنّه كذلك بعد نهاية الحرب على لبنان، وفي ظلّ بداية عهد رئاسي جديد. كانت الزيارتان السابقتان في عهد الرئيس السابق ميشال عون، عقب تفجير المرفأ، وفي مناسبة الاحتفال بمئوية لبنان الكبير الأولى.
كان لبنان ثائراً حينها، ورهن “السلبطة” الإيرانية، ومصادَراً قراره من “الحزب”. انحاز ماكرون وقتها كليّاً لـ”الحزب”، حين عمل على تقزيم دور الإدارة الفرنسية لمصلحة إيران، التي اختلفت كثيراً مع باريس بخصوص لبنان. إذ أرادت إيران التفاوض المباشر مع الإدارة الأميركية، وتقديم الهدايا إلى واشنطن لا باريس. في حين قزّم الرئيس ميشال عون دور الجمهورية. حوّلها إلى منصّة بريدية لـ”الحزب”، فأضحت الحكومات في عهده متصرّفة وناطقة باسم محور الممانعة، وجعل لبنان أرضاً بوراً من ساحات ولاية الفقيه. وأتت هذه الزيارة التي استمرّت يوماً واحداً، في سياق مختلف كليّاً مع دخول لبنان مرحلة استثنائية. جاءت مصحوبة بتأييد ودعم دول اللجنة الخماسية وليس فقط الإليزيه.
دعم تشكيل حكومة قويّة
يبشّر رئيس الجمهورية العماد جوزف عون الإدارة الفرنسية بخير كثير. يعتزم إرجاع الجمهورية إلى دورها المعهود التاريخي والدستوري، واستعادة لبنان لبنانيّته وحضنه العربي الضامن. يسعى مع الرئيس المكلّف القاضي نوّاف سلام إلى تأسيس نواة عمل تنفيذية مكرّسة لـ”الطائف” تكون المدخل العريض من أجل وضع لبنان على درب الشفاء المؤسّساتي، والبدء بورشة إصلاح هيكلية شاملة، ووصْل لبنان بالفلك الدولي بحسب ما يقول كتاب الدستور اللبناني ويحدّده الميثاق.
تدعم فرنسا مع الخماسية تشكيل حكومة قويّة. إذ شدّدت الإدارة الفرنسية على إشراك الجميع، وعلى عدم كسر أيّ مكوّن لبناني مؤسّس، وعلى رفض تامّ فرنسي وخماسيّ لإقصاء أحد. فالإدارة تشجّع على تشكيل حكومة ميثاقية بحسب الدستور اللبناني، وتنبّه إلى أنّ من غير المسموح لأحد أن يُفشل العهد، وخصوصاً المكوّن الشيعي. اطمأنّت الإدارة الفرنسية إلى حسن سير تطبيق اتّفاق وقف إطلاق النار، واستكمال كلّ مندرجاته على الرغم من كلّ العراقيل، وأكّدت أنّ هنالك انسحاباً نهائيّاً لقوات الاحتلال الإسرائيلية من الجنوب اللبناني.
مؤتمر دوليّ لحشد الدّعم للبنان
يتوخّى المؤتمر المقبل تحقيق هدفين قريب ودائم.
تعدّ إعادة الإعمار الهدف القريب، ضمن مناخ التعاون والشفافية والشراكة الدولية مع الدولة اللبنانية. فيما يتمثّل الهدف الدائم في تحقيق شروط التنمية الملائمة للإصلاحات والبدء بورشة بناء هيكليّة الدولة والإدارات الحقيقية، مع أولويّة دعم الجيش والمؤسّسات الأمنيّة الضامنة والجوهرية، من أجل تأمين استقراره وأمنه وسيادته، شرط بناء الحيّز التنفيذي الميثاقيّ الخالص.
إنّها الاستمرارية في دعم لبنان في مخاضه وعبوره نحو الجمهورية. ويأتي هذا المؤتمر تكريساً للدعم الفرنسي والدولي، مع بداية عودة مؤسّسات الدولة إلى ديمومتها وتداولها للسلطات والمهامّ المسؤولة، مع انتخاب رئيس يحوز الثقة المحلّية والإقليمية والدولية، وحكومة تؤلّفها شخصية لبنانية مرموقة تحوز أيضاً الاحترام والثقة العالمية والعربية واللبنانية .
يشكّل هذا المؤتمر المدخل لرفع قيمة ونوعيّة الاستثمار في القطاعين العامّ والخاصّ. ويساعد على تحسين الماليّة العامّة، تمهيداً لوصولها إلى التوازن الإيجابي. ويشكّل معبراً مهمّاً إلى تحقيق الخطوات العمليّة المناسبة لإجراء الإصلاحات المؤسّساتية المشتركة والمتنوّعة لكلّ المجالات المشاركة في توليفة الكتل الاقتصادية والصناعية والتجارية العامّة والخاصّة، المساعدة أيضاً في رسم سيناريو استراتيجيّ لتحديث القطاعات الهيكلية ونظم الإدارة الماليّة الدوليّة.
النتائج على مراحل
تعتزم فرنسا ودول الخماسية دعم لبنان عبر تنظيم مؤتمر دولي في باريس يشبه مؤتمرات باريس السابقة المخصّصة للتمويل. ستظهر نتائج هذه المؤتمرات على مراحل، وتعتمد بشكل وثيق على استمرارية سير المؤسّسات اللبنانية في الطريق الصحيح.
تبدأ أولى خطواته في دعم ورشة إعادة الإعمار، وتركّز على دعم الإصلاحات ومكافحة الفساد وإعادة هيكلة المؤسّسات اللبنانية وترشيق وترشيد القطاعات. تدعمه فرنسا والخماسية والدول الصديقة للبنان، من خلال دعم الصندوق الائتماني المزمع إنشاؤه مع البنك الدولي والاتّفاق مع صندوق النقد. ستتابع هذه الورشة الداعمة كلّ خطوات الدولة في مسيرة الإنقاذ بما يتماشى مع مسلّمات البيان الثلاثي في الاقتصاد، وضمن مظلّة الدستور والطائف في السياسة. يعتبر هذا المؤتمر عاملاً معزّزاً لتنمية البنية التحتية وإعادة تأهيلها مع أولويّة الخطّة الحكومية. وتتركّز كلّ خطواته على وضع مكتسبات تؤسّس لقانون مشاركة القطاعين العامّ والخاصّ. يعتزم التشديد على إجراء إصلاحات هيكلية وقطاعية من شأنها أن تجذب الاستثمارات المتنوّعة، وتحقّق إصلاحاً وتردم الفجوات وتسدّ الثغرات أمام السياسات الاستثمارية وتعزّز سياسات الحوكمة واستقلالية القضاء وتحفّز المساءلة، خاصة المالية، التي هي المدخل الأصلي في جهود مكافحة تبييض الأموال وإصلاح الجمارك . تُتوّج حتماً عبر إصلاحات طموحة لقطاعات الكهرباء والمياه والنفايات في تصنيف حقيقي لمفهوم اللامركزية الإدارية .
يعدّ مؤتمر الدعم تعبيراً عن شراكة جديدة مبنيّة على أرضية صلبة بين لبنان والمجتمع الدولي، ومدخلاً مساعداً لاستقرار لبنان وعبوره نحو استدامة الجمهورية وحماية النموذج اللبناني في السلم الأهليّ والعيش المشترك.
دور فرنسيّ
لم تكن كلمة فرنسا في لبنان هي الناهية في أيّ يوم، وهذا على مرّ الفترات والحقبات السياسية اللبنانية واختلاف ظروفها. حتّى في زمن الجمهورية ومرحلة ما قبل الطائف، لم تقرّر لوحدها في فترة تراكم المارونية السياسية. ولم تكن أيضاً بعد الطائف، في مرحلة الوصاية السورية و”السلبطة” الإيرانية. لكنّها احتفظت بحجم كبير من النفوذ الاستثنائي في مكان ما. وكانت إلى جانب الدولة اللبنانية التي هي نتاجها في هذا الشرق. تقلّب التأثير الفرنسي في لبنان وفق مقدار تبدّل الظروف الدولية والعالمية والفرنسية. تلوّن بأمر الأحوال الإقليمية والمحلّية اللبنانية. تغيّر العالم. بقيت فرنسا مع ذلك في لبنان تعمل لأن تكون صاحبة الفكرة واللبنة الأولى في أيّ مقترح وحلّ. امتلكت المكانة عند أيّ استحقاق. تعترف بأنّها لا تقوى على إنتاجه لوحدها وإنضاجه بمفردها. تعتمد في لبنان على التعاون والشراكة مع المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية. تمثّل الأولى حاضنة العرب الأساسية وضامنة المنطقة العربية المركزية. وتعتبر الثانية الدولة العظمى الأكثر تأثيراً على الكيان الإسرائيلي، ومحطّ أنظار النظام الإيراني الأب غير الشرعي لـ”الحزب” بعدما قرّر رميه في الساحة وحيداً من دون ممانعة، وقرباناً وهديّة للشيطان الأكبر في سبيل الاتّفاق معه.
حقبة لبنانية جديدة
إنّها حقبة لبنانية جديدة يعود فيها لبنان إلى جذوره. تغيّرت المنطقة والموازين الإقليمية والمحلّية. تبدّلت مفاهيمها بدءاً من بيروت، بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية على لبنان التي جرّه إليها “الحزب”، وبعدما أذعن الأخير لتسوية إنهائها مع تسليمه السلاح في لبنان (جنوبه وشماله وشرقه وغربه).
سقط النظام البعثي في سوريا وهرب “بشّاره”. كُسرت إيران وتعرّض نظام الملالي فيها لهزيمة استراتيجية مع تقسيم وحدة ساحاته وتقليم أذرعه. انتهت مرحلة تخريب طهران للشرعية العربية، التي دامت أربعة عقود.
بدأ عهد دونالد ترامب في أميركا. وانحسرت روسيا عن سوريا. وصلت التحوّلات إلى فرنسا وماكرون نفسه. إنّها البداية الحقيقية لاستقلالية الكيانية اللبنانية وروحية سايكس بيكو، بعد إضعاف “الحزب”، وسقوط النظام السوري، وبداية العودة الإيرانية إلى طهران.
تعمل فرنسا وفق شراكة استراتيجية مع المملكة السعودية. وتخضع المنطقة لموجة رمال متحرّكة من الترتيبات السياسية في أعقاب تغيّرات في موازين القوى في الداخل والخارج. يسعى ماكرون من خلالها إلى تعزيز دور فرنسا في منطقة الشرق الأوسط. ستستمرّ الخماسية حاليّاً وسيبقى جان- ايف لودريان مبعوثاً رئاسياً. ستعمل فرنسا على الحفاظ على مكانتها ودورها في هذه الفترة المغايرة في لبنان. نجحت فرنسا رئاسياً في لبنان بالشراكة مع المملكة السعوديّة والخماسية. تراقب وتشجّع وتساعد خماسيّاً من أجل نجاح حكوميّ لبناني. تجمع دائماً بين لغات الأفكار والأدوار والقرار. فهل يتغيّر دورها وقرارها في المستقبل؟