عدم ثقة المواطن بالدولة مؤشّر لإحتضارها- بقلم السفير جان معكرون
شارك هذا الخبر
Monday, January 20, 2025
لم يشهد لبنان في تاريخه السياسي مثل هذا الخطر المتمثّل في عدم ثقة المواطنين بحكامهم وبالدولة. فالجفاء والتباعد بين الشعب والحكام يدعو إلى القلق وينذر بعواقب وخيمة. إن عدم الثقة هو الارتياب والشّك في رشاد وأحقّيّة وملائمة أداء السياسيين وممثلي الشعب. و في معرض تشخيصنا لهذه الظاهرة نرى أنها تنكشف في الأحوال والظروف التالية: - الأداء الحكومي غير المهني والضعيف. - فشل الحكومات في تحقيق إنجازات تنموية والتقاعس في تقديم أفضل الخدمات والتقصير في الحفاظ على حقوق المواطن، مثل الأمن الاجتماعي والعدالة والمساواة. - عندما تُفرط الدولة في تقديم الوعود وتقصّر في الوفاء بها. - وجود مجموعات خارجة عن الإطار القانوني تنافس الدولة وتسلب دورها. - إفلات مرتكبي الجرائم والفساد من العقاب. - عندما يعمل الاقتصاد لصالح القلّة وليس لصالح الأغلبية. - توافر فرص العمل بالوساطة والمحسوبية والزبائنية على حساب الكفاءة. وإذا أجيز لنا أن نختصر هذه الحالات كلها فإننا ندرجها تحت عنوانين اثنين: فقدان الحكم الرشيد وانتشار الفساد. ولا نغالي إذا اعتبرنا الفساد المسبّب الرئيسي لعدم ثقة الشعب بالدولة. لقد عرّفت منظمة الشفافية الدولية الفساد بأنه " كل عمل يتضمّن سوء استخدام المنصب العام لتحقيق مصلحة خاصة، أي أن يستغّل المسؤول منصبه من أجل تحقيق منفعة شخصية ذاتية لنفسه أو لجماعته". وبكلمات أخرى نذكر أن الفساد هو خروج على القوانين والأنظمة و عدم احترامها في سبيل تحقيق مكاسب ومصالح سياسية واقتصادية ومالية وتجارية لصالح الفرد أو جماعة معينة، كما ويشمل أيضاً تلقي الرشوة والقيام بالإختلاس. وغنيّ عن القول أنه عند سيطرة المهووسين باستلام السلطة طمعاً بعسلها أو تولّي السلطة من قبل متوسّطي الكفاءة المهنية والخُلُقيّة، دون أي أدنى طوق إلى اعتبارها رسالة وطنية همّها الأول تأمين رفاهية جميع الطبقات الشعبية، فإن المواطن يفقد الثقة بالحكام لإدراكه أنهم لا يعملون للمصلحة العامة. وإن أسمى ما تحرص عليه المصلحة العامة هو خير وسلامة ورفاهية عامة الناس جميعهم دون أي تمييز. وفي هذا السياق عبّر جون كينيدي خير تعبير عن أهمية رعاية جميع مكوّنات الشعب: " If a free society cannot help the many who are poor, it cannot save the few who are rich" أي أنه إذا كان المجتمع الحر غير قادر على مساعدة العديد الذين هم فقراء فلا يستطيع حماية القلّة الذين هم أغنياء. ومن زاوية هذا المقترب يجدر بنا القول أن الحكام يظنّون أنه إذا توافرت لهم سبل العيش الكريم ووسائل الرفاهية فإنها متوافرة أيضاً للشعب بأكمله، وهذا خطأ كبير لأنه يتوجب عليهم أن يعوا ويدركوا أن ما هو متيسّر للطبقتين الوسطى و الفقيرة لا يضمن لهم حياة كريمة في حدّها الأدنى، وبالتالي فإنه يترتّب على الحكام، وهذا واجبهم، أن يسعوا جاهدين إلى تحسين قدرة الشعب على العيش بكرامة وبناء حياة مزدهرة. وما يهمّنا الإشارة إليه هنا والتشديد عليه هو أنه عندما ينتخب الشعب نوابه يكون بذلك قد منح ثقته إليهم وهم بدورهم يمنحون الثقة باسم الشعب إلى الحكومات لكي تحكم. و يستتبع ذلك القول أن الإثنين أي النواب والحكومات مؤتمنون على التخطيط لتأمين رفاهية المواطن والحفاظ على حقوقه وحرياته. ومن المفترض والمسلّم به والشائع أنه على المؤتمن على مصالح الشعب أن يكون قدوة في الالتزام بالقيم الواجب توافرها في كل حاكم مسؤول أمام الوطن والتاريخ. فالثقة لا تمنح للفاسد والمراوغ والظالم بل تمنح للشريف والصادق والعادل. بقي أمامنا أن نشير إلى أنه كلما فقد الشعب ثقته بالحكام وبالدولة ضَعُفت إداراتها ومؤسساتها وعندما تضعف، ماذا يحصل؟ تبيّن التجارب والواقعات أنه في هكذا حالة يسعى المواطن إلى استبدال مؤسسات الدولة والاستعاضة عنها بالهيئات والمجموعات الخاصة لحماية نفسه وتحصيل حقوقه. أي أن يستعين بالوسائل الخاصة المتاحة في ظل وجود قضاء غير فاعل وأمن داخلي غير قادر على تنفيذ القوانين والأحكام. وقد وصف البعض وفي دول عديدة هذه المجموعات الخاصة " بالمافيا". ومهما يكن من أمر فإنها مجموعات غير نظامية تعمل داخل الدولة وهي منافسة لها ولا تخضع لشرعيتها وقوانينها ولها تنظيمها الخاص. وهي تقوم بتأمين خدمات عامة وخاصة عجزت الدولة عن تقديمها. وغالباً ما تلجأ هذه المجموعات غير النظامية الى استعمال القوة والعنف لتحصيل حقوق أصحاب العلاقة. وهكذا يتحصّل لنا كم هو هام وملائم ومفيد أن تكون الدولة قوية بحكّامها الشرفاء والنبلاء وأصحاب الرؤية المستقبلية، وكم هو أساسي وضروري وصحّي أن تحتكر الدولة ومؤسساتها الشرعية سلطة الإكراه أي استعمال القوة بطريقة مقبولة اجتماعياً وحضارياً لكي تنفّذ القوانين والأحكام القضائية لضمان حقوق المواطنين وحرياتهم. وعندما تمارس الدولة سلطة الإكراه هذه فإنها في المبدأ تحرص على استعمالها استناداً إلى قوانين و أنظمة تحدّد طريقة استعمالها حتى لا تسيء التصرّف وتلحق الضرر بأصحاب العلاقة. وغالباً ما تكون أجهزة الدولة خاضعة لنظام تدريبي يتوخّى احترام المواطنين عند تنفيذ القوانين والأنظمة و الأحكام القضائية. وإن ما يضمن حسن تصرّف وسلوك أجهزة الدولة الأمنية لدى استعمال سلطة الإكراه هو خضوع أفرادها للمراقبة و المساءلة والمحاسبة من قبل رؤسائها التسلسليين والهيئات الرقابية في حال تخطّت وأساءت استعمال سلطتها. ومن الواضح أن هذه القواعد والشروط التي تحدّد سبل استعمال أجهزة الدولة لسلطاتها في الإطار الشرعي والقانوني خلال تعاملها مع المواطنين لا تتوافر في أي مجموعة خارجة عن دائرة مؤسسات الدولة، حيث غالباً ما تعمد هذه المجموعة أو المجموعات إلى ابتزاز المواطن الذي يحتمي بها لتحصيل حقوقه. وتجب الملاحظة في نهاية بحثنا هذا إلى أنه لا يجوز الإستهانة بفقدان ثقة المواطن بالدولة وهو النتيجة المنطقية والمباشرة لفقدان الثقة بالحكام، والحكام هم رموز الدولة والتي ينبغي أن تكون وتبقى مثالية وخالية من العيوب. قالت الحكمة: كلما تمايز الحكام بالصدق والأمانة والحكمة والرؤية ازدادت ثقة الناس بهم، وكلما تعاظمت ثقة الشعب بالدولة اشتدّ ساعدها ونمت و تطوّرت سالكة طريق التحديث والعصرنة، ولا يمكن التطرّق إلى تحديث الدولة من دون أن نشير إلى أهم مراميها وهي فصل الدين عن الدولة والعلمنة والتنمية الاقتصادية. نذكر ختاماً أنه عندما يفقد الشعب الثقة بالدولة وبحكامها فإن هؤلاء يخسرون هيبتهم أي الصفات التي جعلت من الحكام أسياداً، وهي الشجاعة والقدرة على اتخاذ قرارات حاسمة بحكمة من دون تهوّر. فالهيبة جوهرة ثمينة ينبغي الحفاظ عليها وعند فقدانها يصعب الإستعاضة عنها.