الأرقام تكشف تضليل "المركزي"... منصوري على نهج سلامة!-بقلم مهدي الحسيني
شارك هذا الخبر
Friday, January 17, 2025
تحدث حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري بالأمس، عن إعداد دراسة شاملة لعدد 1260000 حساب في القطاع المصرفي اللبناني، بإجمالي قيمة تصل إلى 86 مليار دولار. وبحسب منصوري تستهدف الدراسة، تحليل توزيع هذه الحسابات لتعزيز إدارة القطاع المصرفي بشكل أفضل وإعادة توجيه الأموال بما يسهم في تحسين الوضع الاقتصادي في لبنان. ورغم أهمية الدراسة من حيث المبدأ، إلا أن قراءة معمّقة للواقع المالي الحالي وللبيانات المتوفرة تكشف عن عدة تناقضات وثغرات في هذا الطرح، مما يدفع إلى التشكيك في جدوى هذه الدراسة وأهدافها الحقيقية.
تضليل بعرض الأرقام بحسب البيانات المنشورة سابقًا، حُددت نسبة 61 في المئة من هذه الحسابات المصرفية كحسابات تحتوي على أرصدة تقل عن 3333 دولارًا، وتمت تسويتها بموجب التعاميم الأولى التي أصدرها مصرف لبنان منذ بداية الأزمة المالية عام 2019. ما يعني أن ما يقارب 768600 حساب مصنف ضمن الحسابات الصغيرة، بينما تبقى 491400 حساب فقط ضمن الفئات الأكبر.
في 27 كانون الأول 2024، أصدر مصرف لبنان بيانًا حول التعميمين 158 و166، أشار فيه إلى أنه منذ بدء تطبيق التعميمين وحتى 30/11/2024، بلغ عدد المستفيدين 431448 مودعًا، بقيمة مدفوعة إجمالية قدرها 3 مليارات و241894179 دولارًا.
وبحسب هذه التعاميم، لا يستطيع المودع الاستفادة إلا من حساب واحد، مما يعني أن الحسابات غير المعالجة المتبقية لا تتعدى 59952 حسابًا. هذه الأرقام تستند إلى بيانات رسمية من مصرف لبنان وليست مجرد تكهنات.
من جهة أخرى، أصدر مصرف لبنان عبر الحاكم الأسبق رياض سلامة في 5 أيار 2021، أي منذ ما يقارب ثلاث سنوات، "إعلامًا للمصارف رقم 939، طلب فيه من المصارف تزويده بأرصدة ودائع الزبائن بالليرة اللبنانية وبالعملات الأجنبية كما في 31/10/2019، وأرصدة الحسابات ذاتها كما أصبحت في 31/3/2021، مع التأكيد على استثناء أي حسابات مفتوحة بعد تاريخ 31/10/2019 وأي أموال جديدة (Fresh Accounts) في الحسابات القائمة. كما طلب المصرف المركزي تزويده بأرصدة ودائع الزبائن بالليرة اللبنانية وبالعملات الأجنبية كما في 31/12/2015 و31/03/2021، على أن تشمل جميع الحسابات القائمة في التاريخين المشار إليهما باستثناء الأموال الجديدة (Fresh Accounts). وبذلك، يتضح أن تصنيف الحسابات وتحديد تفاصيلها كان واضحًا ومحددًا منذ عام 2021.
لذلك، يبرز التساؤل حول مدى جدية الدراسة المطولة التي أشار إليها المنصوري، والتي لم ينتهِ من إعدادها بعد، وهي لا تتعدى 59952 حسابًا. وهنا نتوقف عند تصريح المنصوري بأن هذه الدراسة ستساعد الحكومة ضمن أي خطة مرتقبة، إلا أن المنطق لا يقبل أن تحتاج هذه الحسابات المتبقية إلى كل هذا الوقت للتحليل والتصنيف.
الاحتياطي والتحايل المحاسبي تحدث منصوري عن ارتفاع الاحتياطي الأجنبي بمقدار 300 مليون دولار، لكن هذه الزيادة لم تأتِ نتيجة تدفقات نقدية فعلية أو إصلاحات اقتصادية، بل جاءت نتيجة إدراج سندات اليوروبوند ضمن الأصول السائلة بموجب التعميم الوسيط رقم 707. هذا الإجراء يُعد تحايلاً محاسبيًا يتعارض مع معايير بازل الدولية، إذ تُعتبر هذه السندات أصولًا متعثرة وغير قابلة للتسييل السريع. إدراجها ضمن الأصول السائلة يهدف إلى تضخيم الاحتياطي بشكل مصطنع.
من جهة ثانية، تواصل وزارة المالية اللبنانية إيداع إيراداتها الجبائية في حسابات مصرف لبنان، دون أن يتم توظيف هذه الأموال في تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين أو دعم الاقتصاد المحلي. هذه الممارسات تعكس سوء إدارة للأموال العامة، إذ يُفترض توجيه هذه الموارد لدعم النمو الاقتصادي وتخفيف الأعباء عن المواطنين، بدلًا من استخدامها لتجميل الوضع المالي للمصرف المركزي وتلميع صورة منصوري من خلال إطلالاته الإعلامية أو البيانات الصادرة عن المصرف.
من جهة ثالثة، دخل إلى لبنان ما لا يقل عن 2 مليار دولار من المساعدات الدولية خلال عام 2024، استقرّت في حسابات المصارف عبر الجمعيات غير الحكومية، دون أدنى معايير للشفافية أو الرقابة أو التدقيق، سواء على الصعيد الداخلي أو الدولي، في ظل غياب رقابة الأمم المتحدة على إدارة وتوزيع المساعدات الإنسانية.
بالتالي، فإن الزيادة في الاحتياطي الأجنبي التي تحدث عنها منصوري هي زيادة وهمية في احتياطي مصرف لبنان، ناتجة عن تضخيم قيمة سندات اليوروبوند المتعثرة عبر إدراجها ضمن الأصول السائلة بشكل مخالف لمعايير بازل الدولية، وتخزين إيرادات وزارة المالية في حسابات المصرف المركزي دون استثمارها في دعم الاقتصاد أو تحسين الخدمات الأساسية، بالإضافة إلى تدفق المساعدات الدولية التي تجاوزت 2 مليار دولار خلال عام 2024، والتي استُودعت في حسابات المصارف عبر الجمعيات غير الحكومية دون أي رقابة أو شفافية. هذه الممارسات مجتمعة أدت إلى تضخيم مصطنع لاحتياطي مصرف لبنان دون أي قيمة فعلية أو تأثير إيجابي على الاقتصاد الوطني.
لا سياسة نقدية فعالة على الرغم من التصريحات الشعبوية، لا يزال مصرف لبنان يفتقر إلى سياسة نقدية واضحة وفعالة. فالإجراءات المتبعة متفرقة وغير مترابطة، ولم تؤدِ إلى تحسين الوضع الاقتصادي أو تخفيف الأعباء عن المودعين. الواقع انه لا يوجد سعر صرف مستقر، بل هناك سعر صرف سياسي محدد عند 89500 ليرة للدولار، وهو سعر غير قانوني ولا يعكس الواقع الاقتصادي، بل يخدم مصالح المصارف على حساب أصحاب الحسابات بالليرة اللبنانية.
التستر على قضايا الفساد! ولا يمكن إغفال قضية أوبتيموم إنفست التي كشفتها تحقيقات القاضية غادة عون وتقرير شركة كرول، والتي تضمنت عمليات تضخيم وتزوير في بيع سندات اليوروبوند وتحويل عائداتها بطرق مشبوهة. ورغم خطورة هذه القضية، لا تزال هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان تتجاهل هذه الملفات، ما يعكس غياب الشفافية والمحاسبة.
مع الإشارة إلى أن المنصوري ليس ملزمًا بالتقيّد بتعميم صادر عن المدعي العام التمييزي، بل هو ملزم بتطبيق القانون الذي يُلزمه بعدم التستر على الجرائم المالية. وهو، أي منصوري، دكتور ومحامٍ مخضرم في القوانين والدستور، ويدرك تمامًا أن الالتزام بنص القانون يسمو على الالتزام بمضمون أي تعميم، إذ أن القوانين تُعتبر المصدر الأعلى والملزم في تنظيم العمل المؤسساتي، ولا يجوز التحجج بتعاميم وربطه بأصول المحاكمات، لتبرير أي تجاوز أو تقصير في تطبيق القواعد القانونية التي تلزمه عدم التستر على الجرائم المالية.
بالمحصلة، تصريحات وسيم منصوري حول إعداد دراسة شاملة للحسابات المصرفية لا تنسجم مع الواقع المالي في لبنان. فالأرقام المعلنة تُخفي تضليلًا واضحًا، ولم تتضمن الدراسة أي خطوات فعلية لمعالجة أزمة المودعين أو إصلاح القطاع المصرفي. كما أن إدراج الأصول المتعثرة ضمن الاحتياطي، واستمرار احتجاز إيرادات وزارة المالية دون توظيفها في خدمة الاقتصاد، كلها مؤشرات على سوء إدارة مالية وغياب رؤية اقتصادية واضحة.
لن نتطرق إلى تقرير مجموعة العمل المالي وربطه بتصريح منصوري، إذ إن الأمر يحتاج إلى تفصيل منفصل لتوضيح عدم دقة ادعائه بأنه كان أول من نادى بفكرة الخروج من "اقتصاد الكاش"، إضافة إلى النقاط المحددة ضمن تقرير مجموعة العمل المالي. فقد كثف المنصوري زياراته إلى الخارج في جولات متعددة بهدف إبعاد لبنان عن اللائحة الرمادية، لكن للأسف، كانت تلك الزيارات بلا أي نتيجة تُذكر.
لذلك، تبقى الحاجة ملحة لإجراء تدقيق شفاف ومستقل للحسابات المصرفية، مع تحديد الفئات المتضررة بدقة، وإلغاء التحايل المحاسبي عبر استبعاد الأصول غير السائلة من احتياطي العملات الأجنبية. كما يجب على وزارة المالية التخلي عن الممارسة الشاذة بتخزين الإيرادات، التوجه نحو استخدام الإيرادات العامة لدعم الاقتصاد الوطني والخدمات العامة، مع ضرورة محاسبة المتورطين في قضايا الفساد وتبييض الأموال بشكل شفاف وعادل.
لبنان بحاجة ماسة إلى إدارة مالية مسؤولة تعتمد على الشفافية والكفاءة، بعيدًا عن الحلول المؤقتة والمراوغات المحاسبية التي أثبتت فشلها في معالجة الأزمة المالية. لبنان بحاجة الى وزير مالية يتمتع بالكفاءة والقدرة على ممارسة وتنفيذ السياسة المالية للحكومة المرتقبة، وليس التستر على المخالفات والارتكابات المالية لمصلحة جهات سياسية، كذلك ننتظر بفارغ الصبر ان تتشكل الحكومة المرتقبة وتقوم بتعيين حاكم لمصرف لبنان بالاصالة بشكل قانوني، عوضاً عن الانابة غير القانونية، وذلك بهدف ممارسة سياسة نقدية فاعلة بعيداً عن الترقيع والفشل.