في دستورية انتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية - بقلم المحامي زغلول عطية

  • شارك هذا الخبر
Tuesday, January 14, 2025

كلمتي هذه ليست في السياسة، بل هي مجرد بحث قانوني علمي في الدستور. أقول هذا، يقيناً مني أن البعض، وليس الكل، من الذين قالوا بعدم دستورية انتخاب العماد جوزف عون رئيساً للجمهورية، كان اعتراضه في السياسة وليس في الدستور، والكلمة هذه ليست رداً في السياسة، بل هي توضيح لوضع قانوني دستوري.

أما بعد،

لنعد إلى الدستور كلاً، فلا نقتطع منه نصاً من بضعة أسطر، فنقرأ فيه:

"لبنان ملتزم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (...)" (الفقرة ب من المقدمة)

"لبنان جمهورية تقوم على المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل (...)" (الفقرة ج من المقدمة)

هذه الحقوق التي تم النص عليها في المقدمة، تأتي في طليعتها الحقوق المدنية والسياسية أيضاً، ودون تمييز بين لبناني وآخر. وعلى ذلك نصت أيضاً المادة (7) من الدستور:
"كل اللبنانيين سواء لدى القانون، وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية، ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دون ما فرق بينهم".
يلاحظ في هذه المادة، أن المشترع الدستوري لم يكتفِ بذكر المساواة في الحقوق بصورة عامة، بل شدد على المساواة في الحقوق المدنية والسياسية أيضاً، والحقوق السياسية تشمل الحق في تولي الوظائف العامة وحق الترشح للمناصب العامة وإشغالها عن طريق الانتخاب. هذا ما أكدته المادة (12) من الدستور، بنصها:
"لكل لبناني الحق في تولي الوظائف العامة لا ميزة لأحد منهم علـى الآخـر إلاّ مـن حيـث الاســتحقاق والجدارة حسب الشروط التي ينص عليها القانون".

من هذا النص يفهم أن لا تمايز بين اللبنانيين في الحق السياسي، ولا ميزة لأحد منهم على الآخر إلاّ من حيث شروط الاستحقاق والجدارة التي يعينها القانون، أي أن القانون يعين ويحدد شروط الاستحقاق والجدارة، دون أي شرط آخر لا يتصل بالوظيفة اتصالاً وثيقاً، لازماً للقيام بها.

إن هذه القواعد الدستورية تمثل القيم الأساسية في النظام الديموقراطي، وتشكل أساس النظام العام في بنيان الدولة.

في المقابل، لجأ القائلون بعدم دستورية انتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية واعتبار ذلك يشكل خرقاً لأحكام الدستور، إلى اعتماد نص الفقرة الأخيرة من المادة 49 من الدستور المتضمنة عدم جواز انتخاب القضاة وموظفي الفئة الأولى وما يعادلها، مدة قيامهم بوظائفهم وخلال سنتين تليان انقطاعهم عن وظيفتهم فعلياً.

لكن هذا النص الوارد في ختام المادة 49 من الدستور يتعارض مع المبادئ الدستورية الأساسية، التي ذكرت سابقاً، ويتناقض مع مبادئ دستورية جوهرية ذات قيمة أسمى.

في البدء، لا بد من معرفة الأسباب الموجبة لنص الفقرة موضوع البحث، المادة 49 من الدستور، التي قد تلقي الضوء على وضعها.

نعود إلى سنة 1990، زمن إجراء التعديلات الدستورية التي أدت إلى وضع هذه الفقرة، وإلى المناقشات التي جرت في حينه، إذ يسأل النائب بطرس حرب عن مبررات هذا النص، لنسمع رد رئيس المجلس النيابي في حينه، الرئيس حسين الحسيني، بما مفاده، وليس حرفياً، إنه ليس مشروعاً أن يتمكن شخص أولاه القانون سلطة في القوات المسلحة أو التصرف بأموال عمومية، من التصرف فيها وفق أهوائه ومصالحه للوصول إلى رئاسة الجمهورية اللبنانية، وأن الهدف من النص ليس منع الشرفاء الذين يؤدون واجباتهم في الوظيفة العامة من الوصول إلى الرئاسة، بل هو الحؤول دون وصول الذين يتجاوزون القانون الذين يجب منعهم من استعمال موقعهم منصة ووسيلة غير مقبولة لتحقيق هدفهم.

إذاً، الهدف من النص واضح وجلي، وهو عدم إتاحة الفرصة لفئة من شاغلي الوظيفة العامة، استثمار مواقعهم ونفوذهم للتأثير في الناخبين، مع التشديد هنا على أن الناخبين هم أعضاء المجلس النيابي.

إن نص المادة 49 من الدستور، والهدف منه، يوجبان الملاحظات التالية:

إن الفقرة الثالثة من هذه المادة تضع شرطاً مانعاً لتولي فئة من اللبنانيين منصب رئيس الجمهورية. من المنطقي، لا بل من البديهي، أن الشروط التي يضعها المشترع من أجل تولي منصب عام أو مزاولة مهنة، لا يجوز تقريرها ووضعها إن لم ترتبط بمتطلبات القيام بمهام المنصب أو مزاولة المهنة، بل يجب أن تكون مرتبطة عقلاً ومنطقاً بما هو لازم للقيام بمهام المنصب، وأن يكون فرضها لازماً لأداء هذه المهام.

ومن الراهن أن لا شيء في القضاة أو في قائد الجيش من الصفات تحول دون قيام أحدهم بمهام الرئاسة، وليس أحدهم خلواً من الصفات المرتبطة عقلياً ولزوماً بأداء مهام رئاسة الجمهورية.

فالشروط المطلوبة إنما تحدد بما يفيد الاستحقاق والجدارة، وليس بأي أمر آخر، وبالتالي يكون الشرط المانع الوارد في المادة 49 من الدستور، مخالفاً لقيمة أساسية هامة من القيم الدستورية، أي حق اللبناني في الترشح والانتخاب.

واضح، كما سبق القول، أن الهدف من نص الفقرة الأخيرة من المادة (49)، هو الحؤول دون وصول المرشح الذي قد يكون استغل سلطات منصبه لمصلحته الشخصية من أجل الوصول إلى رئاسة الجمهورية.

ينتج عن ذلك القول إن هذا النص هو مجرد تدبير إجرائي، لا يتعلق بمواصفات تتحدد في ضوئها أهلية المرشح لتولي المنصب.

وفي الوقت عينه، هو تدبير سيئ إذ قد يحول دون وصول الأكثر كفاءة لتولي المنصب، وإن توفرت فيه ولديه كل الفضائل، الأمر الذي يحول دون ممارسة الحق السياسي العائد لكل لبناني، سواء بالترشح أو الانتخاب ودون تمييز بين لبناني وآخر، الأمر المخالف لأحكام المادتين 7 و 12 من الدستور.

أبعد مما تقدم، إن هذا الشرط المانع في المادة (49) من الدستور، لم يشمل الوزراء والنواب، وهم أصحاب نفوذ أكبر وأبعد تأثيراً من نفوذ القضاة وقادة الجيش، وبالتالي باستطاعتهم استغلال نفوذهم وسلطتهم في مواقعهم بشكل أكبر وأفعل مما قد يقدم عليه أي قاض ٍ أو قائد جيش. إن في ذلك كل التمييز بين اللبنانيين، الأمر المخالف للدستور في مواده المشار إليها سابقاً، والتي هي ذات قيمة أسمى، وعليها تستقر دعائم النظام الديموقراطي وحقوق الإنسان.

ومن هذا النص، وهذا الاستثناء، نستخرج قرينتين:

القرينة الأولى، أن الناخبين في انتخابات رئاسة الجمهورية، وهم نواب الأمة، إنما يخضعون لصاحب السلطة أو أنهم قد يتأثرون بخدمات يقدمها إليهم، فتكون بمثابة رشوة لهم، وبالتالي كان النص لحمايتهم منها. إن في هذا الافتراض ظناً معيباً.

أما القرينة الثانية، فهي أن رجال الجيش والقضاء مشكوك في نزاهتهم، في حين أن الوزراء هم مثل امرأة القيصر، فوق الشبهات، لا يستغلون سلطة ولا يستثمرون نفوذاً.

في الخلاصة:

إن في الدستور، في مقدمته وفي مواده وأخصها المادتين 7 و 12، قواعد أساسية ذات قيم هامة وجوهرية، تقوم وتستقر على دعائمها حقوق الإنسان، ومنها حقوقه السياسية، وفيها وجوب عدم التمييز بين لبناني وآخر، كما عليها يستقر النظام الديموقراطي.

في المقابل هناك نص الفقرة الأخيرة من المادة (49) من الدستور، وهي ذات صفة إجرائية، إذ تضمنت المادة أحكام إجراءات وأصول انتخاب رئيس الجمهورية، وفي ختامها ورد الشرط على عدم جواز انتخاب قائد الجيش لرئاسة الجمهورية. هذا فضلاً عن عيوب النص ومخالفته مبادئ وأحكام دستورية راسخة، كما سلف البحث.

في ضوء هذا التعارض والتناقض، وفي مقارنة بين نصوص الدستور بكليته، تكون الأرجحية للقواعد ذات القيم الجوهرية الحامية لأسس الدولة والمجتمع السياسية، فتحجب هذه الأرجحية كل نص مخالف أو مناقض، وبالتالي يتوجب حتماً استبعاد تطبيق أو الأخذ بأحكام المادة 49 المخالفة.

سنداً لكل ما تقدم، يكون انتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية، متمتعاً بالدستورية الكاملة، بعيداً عن كل زعم مخالف، لا يشوبه شك، ولا عيب فيه.