يشكّل استحقاق تشكيل الحكومة الأولى في عهد الرئيس اللبناني الجديد العماد جوزف عون الاختبارَ الأولَ لمسارٍ دُشِّن في اليوم المشهود، 9 كانون الثاني، بطيّ صفحة فراغ الـ 26 شهراً في قصر بعبدا، على قواعد أرستْها «دول الرعاية» للبنان وتناغَمَ معها الداخلُ، بعضُه بإعلاء التوافق على أي «أحقّياتٍ» ذات طبيعة سياسية أو طائفية، وبعضُه الآخَر بالتسليم «اضطرارياً» بالموازين الجديدة التي باتت تَحكم منطقةً يُستولد فيها نظامٌ إقليمي ما زال في طور الاكتمال وعنوانه «عودة إيران إلى إيران» وربما… أكثر.
وفي رأي أوساط مطلعة في بيروت أن تشكيلَ الحكومة، الذي ينطلق غداً مع استشاراتِ تكليف الشخصية التي ستتولى رئاستَها والتي يُجْريها الرئيس عون مع النواب، لا بد أن ينسجمَ مع الخطِّ البياني الذي حَكَمَ إنهاءَ الشغور الرئاسي بـ «سحرِ ساحر»، خَرَج معه الحلُّ من «قبعة» أكثر من عاصمةٍ، وضعتْ اللبنانيين بين إما المضيّ في التقلّب على جَمر الأزمات والحرب المعلَّقة على صمود اتفاق وقف النار، وإما قفْل «أبواب الريح» وإرساء مَعالم نهج جديد، بدءاً من رئاسة الجمهورية، يقوم على بناء الدولة وسيادتها وتطبيق القرارات الدولية (1701 وأخواته) والتصدّي للفساد، تمهيداً لاستعادة ثقة المجتمعين العربي والدولي وترجمة اهتمامهما المستعاد بـ «بلاد الأرز» على صعيد إعادة الإعمار ومحو آثار نحو 10 عقودٍ من إدارة لبنان الظهر لنظام المصلحة العربية وأمن دول الخليج العربي.
وترى هذه الأوساط أن أهمَّ ما عبّر عنه انتخابُ العماد جوزاف عون، إلى جانب المواصفاتِ المُسْتَمَدّة من طبيعةِ المرحلة التي وَضَعَ معها لبنان «رِجْلاً» في الشرق الجديد، وهو ما عبّر عنه على طريقته خطابَ القسَم «التأسيسي» لرئيس الجمهورية، يتمثّل في أن خيارَ قائد الجيش ظهّر في العمق رغبةً عربية – دولية في ألا يكون الرئيسُ انعكاساً لمعركةِ اصطفافات سياسية بل عابِراً لها، على متن تَوافُقٍ جاء واقعياً نتاجَ التوازنات الجديدة الاقليمية بامتدادها الداخلي ولكنه لم يَحمل طابعَ «الكسْر» أو الغلَبة، وذلك حرصاً على «انتقالٍ نظيفٍ» للوطن الصغير من ضفةٍ إلى أخرى وبعيداً من أي مغالاةٍ في قراءة (أو ترجمة) المتغيّرات ومحاولة توظيفها بفائضٍ من سوء التقدير محفوفٍ بمَخاطر تعريض الاستقرار لاهتزازاتٍ لا جدوى منها، في ظلّ الانعكاسات التلقائية لوهج التحولات الهائلة في الاقليم على الواقع اللبناني.
ومن هنا تَعتبر الأوساط أن أي خيارات لرئاسة الحكومة تؤشر إلى مواجهة داخلية، وتحيد عن عنوان مواجهةِ الأزماتِ ونقْل لبنان «على البارد» إلى برّ الأمان، هي مستبعَدة، محاذِرةً التعاطي مع الأفضلية التي بدا أن الرئيسَ الحالي للحكومة نجيب ميقاتي يملكها حتى الساعة، على أنها تعبيرٌ عن تفاهماتٍ مُلازِمة للمسار الضاغط الذي أفْضى إلى إنجاز الاستحقاق الرئاسي والتحق بها الثنائي الشيعي (الرئيس نبيه بري وحزب الله) بعدما بات بين «كماشة» إجماع داخلي على قائد الجيش لا يمكن الخروج عنه وموازين إقليمية انقلبت رأساً على عقب ومعها دور الثنائي من «الفرض» إلى «عدم الرفض».
عودة ميقاتي!
وقالت هذه الأوساط إن أي إعادة تكليفٍ لميقاتي بحال حصلت، وهو ما ينتظر بلورةَ كل الكتل خياراتها في الساعات القليلة المقبلة، من دون استبعاد إمكان حصول تقاطعاتٍ على اسم آخَر في ضوء خطأ احتساب الـ 71 صوتاً التي نالها العماد جوزف عون في أول دورة انتخاب رئاسية «بلوك» ثابتاً، بل «ظَرْفياً»، لا بد أن تكون ارتكازاً على الثوابت التي أفضت إلى إنهاء الشغور الرئاسي وشروطه.
وفي رأي الأوساط نفسها، أنه أياً كان رئيس الحكومة، سواء وجهاً جديداً وليس إسقاطاً من «لبنان القديم»، أو ميقاتي فإنّ حجم المتغيّرات بات يفرض على أي رئيس وزراء أن يكون مثل المياه التي تأخذ شكل الوعاء الذي توضع فيه، والوعاء في هذه الحال هو التحوّلات الجيو – سياسية التي أمْلت حتى على الثنائي الشيعي تراجعاتٍ كبرى، في الرئاسة حيث كان الرفض كبيراً لانتخاب العماد جوزف عون حتى الأمس القريب، وقبْلها في تسليم «مفاتيح» الإشراف على تطبيق اتفاق وقف النار مع اسرائيل لجنرال أميركي «مقيم» في لبنان، ناهيك عن مضمون الاتفاق نفسه حمّال الأوجه والتفسيرات والذي عَكَس استعجالاً على إنهاء الحرب التي كبّدت «حزب الله» خسائر هائلة.
وتقرّ هذه الأوساط بأن عودةَ ميقاتي إلى رئاسة الحكومة، والتي تقابلها المعارضةُ باعتراضٍ كبير، هي التي يطرح أطراف فيها تسمية، إما الوزير السابق أشرف ريفي أو النائب فؤاد مخزومي، في مقابل تحبيذ الثنائي الشيعي والزعيم الدرزي وليد جنبلاط بقاءَ القديم على قِدمه انتقالياً في رئاسة الحكومة، تشكّل ما يشبه الانتكاسةً لانطلاقة العهد من بوابة أن التغيير المتعدد البُعد الذي تعهّد به العماد عون في خطاب القسَم يصعب أن يتحقق بأدواتٍ من المرحلة القديمة، معتبرة في الوقت نفسه أن رئيس الجمهورية لا دور له في مسار التكليف الذي يلتزم فيه نتائج الاستشارات النيابية الملزمة، وسط رصْدٍ لِما ستشهده الساعات المقبلة على صعيد الاتصالات الداخلية ومع الخارج في ظل التداول بأسماء كثيرة بينها نواف سلام.
وفي وقت تم التعاطي مع زيارةِ ميقاتي لدمشق أمس، ولقائه قائد الإدارة الجديدة في سورية أحمد الشرع، وهي أول زيارة يقوم بها رئيس وزراء لبناني لسورية منذ العام 2010، على أنها أحد مؤشراتِ ارتفاع حظوظ بقائه، كان الاحتضان الغربي والعربي – الخليجي للرئيس عون يتصاعد في شكلٍ عمّق الاقتناعَ بأن لبنان أمام فرصة ذهبية للتصالح مع عمقه العربي واستعادة مظلة الأمان بوضع نفسه على سكة الإصلاح، السياسي والمالي – الاقتصادي، وإستعادة الدولة سيادتها على كامل أراضيها، وأن تفويتها سيَقضي على حلم العودة إلى الخريطة الدولية والخروج من الحفرة السحيقة.
وبعد الرئيسين الأميركي والفرنسي جو بايدن وايمانويل ماكرون اللذين اتصلا مهنئين، وسيل من برقيات التهنئة، كان الأبرز تلقى عون اتصالاً من ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي أعرب له عن «تهنئة الملك سلمان بن عبدالعزيز وتهنئة سموّه بانتخابه رئيساً للجمهورية».
وإذ وجّه ولي العهد دعوة لعون لزيارة المملكة، أكد رئيس الجمهورية ان السعودية «ستكون اول مقصد له في زياراته الخارجية تلبية لدعوة سمو ولي العهد وإيماناً بدور المملكة التاريخي في مساندة لبنان والتعاضد معه وتأكيداً لعمق لبنان العربي كأساس لعلاقات لبنان مع محيطه».
ولم يقلّ دلالة اتصال رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، أمس، بالرئيس اللبناني، مهنئاً بانتخابه رئيساً للبنان، ومؤكداً دعم الإمارات كل ما يضمن أمن لبنان واستقراره، ويحقق تطلعات شعبه نحو التنمية.
وبحسب «وكالة أنباء الإمارات» فقد أعرب رئيس الدولة عن «تطلعه إلى العمل معاً بما يعود بالخير والنماء على البلدين وشعبيهما ويسهم في تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة»، كاشفة أن الجانبين اتفقا خلال الاتصال «على اتخاذ الإجراءات اللازمة لإعادة فتح سفارة دولة الإمارات في بيروت».
وكانت أبوظبي أعلنت أواخر أكتوبر سحب دبلوماسييها من لبنان ومنْع مواطنيها من السفر إليه دعماً للسعودية، في ظل ما اعتبرته «نهجاً غير مقبول» من مسؤولين لبنانيين تجاه الرياض، وذلك بعد تصريحات لوزير الإعلام حينها جورج قرداحي حول حرب اليمن والتي اعتبرتْها مسيئة ومتحيزة.
وفي السياق نفسه، ومع العدّ التنازلي لزيارة قريبة جداً سيقوم بها للبنان، أجرى ماكرون اتصالاً بالرئيس نبيه بري هنأه فيه بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، مثنياً على دوره وجهوده في «إنجاز الوعد الذي قطعه في سبيل إتمام الاستحقاق في لحظة تاريخية للبنان»، مؤكداً «التزام فرنسا الاستمرار بدعم لبنان في كل المجالات، لا سيما الجيش اللبناني والحرص على تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في جنوب لبنان»، وواعداً بزيارة لبنان في القريب العاجل.