نتائج الحرب كارثية على القطاع الزراعي: الأمن الغذائي مهدد

  • شارك هذا الخبر
Monday, January 6, 2025

رغم انتهاء الحرب الإسرائيليّة الواسعة النطاق، لن يكون متاحًا أن يستعيد القطاع الزراعي اللبناني عافيته بشكلٍ سريع، ومن دون تدخّل حكومي جدّي. فالكثير من تداعيات هذه الحرب، ستبقى ماثلةً على المدى الطويل، ومنها الأضرار البيئيّة التي طالت التربة والمياه الجوفيّة، ونقص التمويل الذي يعاني منه المزارعون بفعل انقطاع دورة الإنتاج، بالإضافة إلى المشاكل المرتبطة بنقص اليد العاملة وصعوبات التصدير وتضرّر سلاسل التوريد والتسويق.

ولكل هذه الأسباب، سيكون من الصعب تجاوز تبعات الحرب الإسرائيليّة عبر التعامل مع الأضرار الماديّة وحدها، كما يجري اليوم. بل ثمّة حاجة لرؤية اقتصاديّة شاملة، تضع في صلب اهتمامها التعامل مع التحديات ذات الطابع الاقتصادي، ومنها تلك التي تواجه عمل القطاعات الإنتاجيّة.

واقع القطاع الزراعي قبل الحرب
منذ ما قبل الحرب الإسرائيليّة، كان القطاع الزراعي يعاني من ضمور تدريجي في قدرته الإنتاجيّة، بفعل مجموعة من العوامل الاقتصاديّة والسياسيّة. الورقة البحثيّة التي أعدّها مركز "بديل" لدراسة السياسات، بعنوان "حقول الدمار: حصاد المزارعين اللبنانيين المحترق"، أفادت بأنّ لبنان دخل الحرب الأخيرة باقتصاد زراعي غذائي يعاني أصلًا من ضعف الإنتاجية. ففي العام 2022، كان لبنان قد استورد حوالي 80% من السعرات الحرارية المستهلكة في لبنان، بينما كان معظم الإنتاج الزراعي موجهًا للتصدير، وغالبًا لصالح "جهات مرتبطة سياسيًا بالقطاع". وفي الوقت نفسه، كان نقص التمويل وسوء إدارة القطاع من قبل الحكومات المتعاقبة اتجاهًا ثابتًا، "حيث لم تتجاوز المخصصات الزراعية في الميزانيات المتعاقبة نسبة 0.5% من إجمالي النفقات الحكوميّة".

المشاكل التي عانى منها القطاع قبل الحرب تبدأ أولًا بترهّل البنية التحتيّة المخصّصة لخدمة القطاع، وعلى رأسها تلك التي تؤمّن الكهرباء والري للمزارعين، وهو ما رفع كلفة الإنتاج بفعل الاضطرار إلى التعويض عن نقص هذه الخدمات العامّة. وفي مقابل ارتفاع كلفة المواد الأوليّة محليًا، بفعل تدهور سعر صرف العملة المحليّة، عانى المزارعون من تزايد منافسة السلع الزراعيّة المهرّبة، وتردّي مستوى التخطيط الحكومي الذي يفترض أن يؤمّن الحماية الجمركيّة للمزارعين.

ومنذ ربيع العام 2021، كان القطاع الزراعي اللبناني يعاني من انقطاع طرق التصدير البرّي باتجاه دول الخليج العربي، بعد أن قرّرت المملكة العربيّة السعوديّة حظر دخول السلع الزراعيّة اللبنانيّة إلى أراضيها، "لحين تقديم السلطات اللبنانية المعنية ضمانات كافية وموثوقة لاتخاذهم الإجراءات اللازمة لإيقاف عمليات تهريب المخدرات". ومنذ ذلك الوقت، بات على المزارعين اللجوء إلى طرق التصدير البحري، الأعلى كلفة، للتمكّن من تصدير سلعهم نحو أسواق دول الخليج الأخرى. وبحلول الربع الأخير من العام 2023، شهدت عمليّات الشحن البحري نفسها ارتفاعات كبيرة في كلفتها، بفعل اضطرابات البحر الأحمر، التي فرضت على شركات الشحن البحري المرور بطرق بديلة وطويلة.

المشاكل المحيطة بالتصدير البحري، تقاطعت مع الأزمة الناتجة عن ارتفاع رسوم الترانزيت عبر الأراضي السوريّة، وهو ما كان يضرب تنافسيّة الإنتاج اللبناني عند محاولة تصديره برًّا إلى العراق أو الأردن أو تركيا. وتشير أرقام جمعيّة المزارعين اللبنانيين إلى أنّ الرسوم التي قرّر نظام الأسد فرضها سابقًا على عمليّات الترانزيت اللبنانيّة، خفضت تصدير السلع اللبنانيّة بنسبة 36%. وعلى مرّ الأعوام الماضية، كانت الاضطرابات الأمنيّة في العديد من المناطق السوريّة تحول دون توسّع المزارعين في عمليّات التصدير البرّي، بمعزل عن قيمة هذه الرسوم.

أخيرًا، كان القطاع يعتمد أساسًا –قبل الحرب- على اليد العاملة السوريّة بنسبة 90%، وهو ما عرّضه لمخاطر انقطاع اليد العاملة في حال حصول أي تحوّلات ذات طابع سياسي وأمني. وهذا تحديدًا ما جرى بعد بدء الحرب الإسرائيليّة، إذ لم يعد جزء كبير من العمّال السوريين الذين غادروا البلدات البقاعيّة والجنوبيّة حتّى بعد انتهاء الأعمال العسكريّة. وعلى سبيل المثال، تشير ورقة "بديل" (حقول الدمار: حصاد المزارعين اللبنانيين المحترق) إلى انّ تكاليف العمالة ارتفعت بشكل كبير بعد الحرب، حيث بدأ العمّال يتقاضون مليوني ليرة لبنانية بدلاً من 550,000 ليرة لبنانية (ما يعادل 22 دولارًا أمريكيًا بدل 6 دولارات)، مقابل خمس ساعات عمل، أي بزيادة تقارب أربعة أضعاف.

أضرار الحرب المباشرة على المزارعين
منذ البداية، كان واضحًا تركّز أضرار الحرب في مجموعة من المناطق التي تلعب دورًا كبيرًا في خارطة الإنتاج الزراعي اللبناني. فعلى سبيل المثال، تستوعب مناطق الجنوب والنبطيّة معاً ربع المساحات الزراعيّة الإجماليّة الموجودة على الأراضي اللبنانيّة، بينما يضم سهل البقاع وحده نحو ثلث هذه الأراضي.

ويشير تقرير البنك الدولي الأخير حول أضرار الحرب إلى أنّ النشاط الزراعي كان يمثّل 80% من الأنشطة الاقتصاديّة في بعض هذه المناطق، بينما احتوت محافظة الجنوب وحدها على 64% من أشجار الحمضيّات في البلاد و94% من مزارع الموز، بالإضافة إلى 44% من أشجار الفاكهة الاستوائيّة. أمّا سهل البقاع، فضمّ 70% من إنتاج العنب في البلاد، الذي دخل تاريخيًا في صناعة النبيذ اللبناني.

الجانب الأوّل من الأضرار التي تعرّضت لها هذه المناطق يتعلّق قبل كل شيء بالدمار المادّي، الذي طال الأراضي الزراعيّة. بحسب أرقام "الإسكوا" لغاية 12 أيلول 2024، أي حتّى ما قبل توسّع الحرب، كان القصف الإسرائيلي قد أدّى إلى حرق 1.88 ألف هكتار من الأراضي الزراعيّة، وهو ما شمل 47 ألف شجرة زيتون و93 بيتًا بلاستيكيًا، وما يقارب الـ 600 متر مربّع من مخازن الأعلاف. وفي الفترة التي تلت توسّع الحرب، وتحديدًا بين 23 أيلول والأول من تشرين الثاني 2024، قدّرت منظّمة الزراعة والتغذية للأمم المتّحدة (الفاو) حصول 336 ضربة جويّة استهدفت مرافق زراعيّة، من بينها 74 ضربة طالت أراضٍ مرويّة.

في نتيجة كل هذه الأحداث، قدّر البنك الدولي قيمة الخسائر الماديّة الناتجة عن الاستهدافات الإسرائيليّة بأكثر من 124 مليون دولار أميركي، يُضاف إليها 1.1 مليار دولار أميركي من الخسائر الاقتصاديّة الناتجة عن احتراق المحاصيل وتوقّف عجلة الانتاج وعدم قدرة المزارعين على بيع محاصيلهم أو حصادها. في المناطق الزراعيّة المحاذية للحدود وحدها، بلغت قيمة هذه الأضرار الاقتصاديّة أكثر من 601 مليون دولار أميركي، وهي تحديدًا الأراضي التي مازالت تتعرّض حتّى اللحظة لأعمال التجريف والحرق، من دون أن يتمكّن المزارعون من إعادة استصلاحها. كما وجد البنك الدولي خسائر مركّزة في قطاعات فرعيّة معيّنة، مثل زراعة الموز، التي عانت من أضرار اقتصاديّة بقيمة 353 مليون دولار أميركي.

انقطاع دورة الإنتاج الزراعي والأضرار البيئيّة
غير أنّ هناك حاجة للالتفات إلى جانب آخر من الأضرار التي طالت النسيج الاجتماعي الزراعي في الريف، والتي ترتبط تحديدًا بابتعاد المزارعين عن أراضيهم جرّاء أزمة النزوح والتهجير. فخلال فترة الحرب، وبحسب دراسة "الفاو"، أفاد جميع المزارعين في مناطق بنت جبيل ومرجعيون والنبطيّة وصور بتعذّر وصولهم إلى محاصيلهم الزراعيّة كليًا أو جزئيًا، ويُضاف إليهم نحو 85% من المزارعين في منطقة حاصبيّا، و 71% من المزارعين في قضاء صيدا، بالإضافة إلى 61% من مزارعي بعلبك و92% من مزارعي الهرمل. وبهذا المعنى، اضطرّت هذه النسبة من المزارعين لوقف نشاطها الإنتاجي، بمعزل عن مدى تضرّر او عدم تضرّر محاصيلها بشكل مباشر.

العارفون بالدورة الاقتصاديّة التي تحكم النشاط الزراعي، يدركون جيّدًا طبيعة التداعيات الكارثيّة التي ستنتج عن توقّف عمليّة الإنتاج لموسم واحد بهذا الشكل. فانقطاع دورة المحاصيل سيعني تلقائيًا تحميل المزارع خسائر الموسم الحالي، وفقدانه الرساميل المطلوبة لتمويل نشاطه خلال الموسم المقبل. وعدم توفّر التمويل أو التسهيلات من جانب القطاع المالي، بسبب الأزمة التي تعاني منها المصارف حاليًا، سيُخرج نسبة كبيرة من المزارعين من السوق.

فضلًا عن ذلك، ثمّة جانب آخر من الأضرار التي سيعاني منها القطاع الزراعي على المدى الطويل، والمتمثّلة بالتلوّث الكبير الذي طال التربة والمياه الجوفيّة، بفعل استخدام إسرائيل لمواد سامّة مثل الفسفور الأبيض. ومن المعلوم للمزارعين بأنّ هذه المادّة بالذات تتفاعل مع المياه أو الرطوبة الموجودة في التربة، بعد تسلّلها إليها، لتشكيل مادّة حمض الفسفوريك، وهو ما يغيّر من طبيعة التربة وخصائصها، بل ويجعلها –في حالات معيّنة- غير قابلة للاستصلاح. وتشير التقديرات اليوم إلى أنّ حجم المساحات المتضرّرة من الفسفور الأبيض يناهز الـ 2500 هكتار، وهو ما يطرح أسئلة عن كيفيّة التعامل مع هذا الخطر البيئي الطويل الأمد.

وبالمثل، تساهم اليوم الذخائر أو الشظايا غير المنفجرة في إعاقة استصلاح نسبة كبيرة من الأراضي الزراعيّة في الجنوب، وخصوصًا بعدما ساهمت الأمطار والسيول في إخفاء جزء من هذه المواد. ورغم تمكّن الجيش اللبناني بعد الحرب من إزالة 9800 قطعة من هذه الذخائر، في أكثر من 80 موقعًا قريبًا من الحدود، يبقى من غير الواضح مدى تفشّي الذخائر الموجودة في الحقول، والتي يصعب العثور عليها بالعين المجرّدة.

إجراءات حكوميّة طارئة مطلوبة
يمكن القول إنّ طبيعة التحديات التي تواجه القطاع الزراعي اليوم تنذر بأزمة أمن غذائي، مع تراجع الإنتاج المحلّي وتنامي الاعتماد على الاستيراد لتأمين حاجة البلاد من المواد الغذائيّة. مع الإشارة إلى أنّ هذا الواقع يتقاطع مع مشكلة ارتفاع كلفة الاستيراد نفسها، وتزايد المخاطر المحيطة بطرق الشحن البحري، وهو ما ينعكس في ارتفاع أسعار المنتجات الغذائيّة محليًا.

لهذا السبب، لخصت ورقة "حقول الدمار: حصاد المزارعين اللبنانيين المحترق" بعض الإجراءات الحكوميّة الطارئة، التي يمكن أن تؤمّن الحماية للمزارعين على المدى المتوسّط، ومنها على سبيل المثال توفير القروض المدعومة والمنخفضة الفائدة، لتأمين التمويل المطلوب لإنعاش القطاع ومنح المساعدات للمزارعين والشركات الزراعيّة المتعثّرة لتمكينها من تخطّي تداعيات الحرب. كما تقترح الورقة دعم المزارعين في عمليّة الانتقال إلى الطاقة المتجدّدة، وخصوصًا الطاقة الشمسيّة، لتجاوز الإشكاليّات المرتبطة بارتفاع كلفة مصادر الطاقة.

وإلى جانب هذه الإجراءات، يمكن للسياسات الحكوميّة أن تذهب أيضًا باتجاه إجراء أبحاث السوق، لدعم المزارعين في وضع إستراتيجيّات تنويع المحاصيل وتخفيض مخاطر تقلّب أسعار السوق. كما يفترض أن تسعى هذه السياسات إلى دعم المزارعين في تحديث تقنيّات الزراعة بشكل عام، لا سيما في مجالات الري واستخدام المياه، لزيادة فعاليّة الأنشطة الزراعيّة. ويمكن لأبحاث السوق أن تسعى كذلك إلى تحقيق توازن ما بين الأنشطة الزراعيّة المخصّصة لدعم التصدير إلى الخارج، وتلك الموجهة لتلبية الطلب المحلّي، وتحقيق الأمن الغذائي على المستوى الوطني.

في النتيجة، من المفترض أن تكون جميع هذه الإجراءات جزءًا من خطّة اقتصاديّة شاملة، لا تقتصر مفاعيلها على تعويض أضرار الحرب الماديّة، بل يفترض أن تستهدف إعادة بناء القدرة الإنتاجيّة للقطاعات الحيويّة، ودعم الفئات المنتجة الأكثر هشاشة كالمزارعين. وتطبيق هذه الرؤية، مستحيل من دون المضي بالسلّة الأوسع من الإصلاحات المطلوبة، على مستوى القطاع المالي والنظام النقدي، والتي تسمح بالحد الأدنى من الانتظام الاقتصادي العام.

علي نور الدين
المدن