بهدوء وترو وبعيداً عن الأنظار، بدأ حزب الله مراجعة عميقة للفترة الماضية منذ جبهة الاسناد وإلى اليوم. مراجعة أقرب إلى تحقيق داخلي حول ملابسات كل ما واجه الحزب منذ عملية تفجير معدات البيجرز وصولاً إلى اغتيال أمينه العام السيد حسن نصرالله، ثم اغتيال رئيس المجلس التنفيذي السيد هاشم صفي الدين. في حياته كانت فاجعة البيجرز هي الأقسى على السيد نصرالله. الحقت به الأذى معنوياً وصحياً. الحادثة وما تلاها كانت تؤشر إلى أن حزب الله بات مكشوفاً. في آخر خطاباته، ألمح السيد إلى وجود شيء ما غير طبيعي وأن الحزب فتح تحقيقاً بجريمة البيجرز والاستهدافات الدقيقة، بدءاً باغتيال فؤاد شكر ثم ابراهيم عقيل ورفاقه. وأن هذا التحقيق يحصل ضمن حلقة ضيقة للغاية. في ذاك الخطاب بدا السيد في غاية الحزن، متأثراً لما حل بعناصر الحزب وعائلاتهم. يومها بدأ الخطر يكبر، والاستهدافات تتكرر لقادة الحزب من الصف الأول. رفض السيد نصرالله تمنياً بمغادرة لبنان حفاظاً على سلامته. العرض ذاته رفضه صفي الدين فيما بعد. كان يعتبر السيد نصرالله أن الحرب تقتضي منه أن يكون ملازماً لحزبه في إدارتها. وكان باشر التحقيق وإعادة النظر بأمور عدة لكن المنية لم تسعفه.
يوم انقطع التواصل يوم استشهد السيد، انقطع التواصل الداخلي بين قادة حزب الله ومسؤوليه، كما انقطع التواصل مع الشباب في الميدان. ساد التوتر والضياع لهول المصاب. غاب السيد، ورحل قادة الصف الأول من المؤسسين. انقلب واقع حزب الله رأساً على عقب، حصل التفاهم على وقف النار الذي بات حاجة ملحة لالتقاط الحزب أنفاسه. ألحق القصف أضراراً فادحة بضاحية بيروت الجنوبية وفي قرى البقاع والجنوب. كان ذلك من الأسباب التي عجلت على حزب الله القبول بالاتفاق.
لم يستعد حزب الله عافيته، ولما يملك حرية التحرك بعد. كل السيناريوهات التي وضعها، سواء منها العسكرية أو تلك المتعلقة بالوضع في المنطقة لم تنذره إلى التطور الدراماتيكي بالشكل الذي حصل. منذ أن فتح حرب الإسناد كان مطمئناً لقدرته على مواجهة إسرائيل، وعلى يقين أن إسرائيل أضعف من أن تخوض حربين في الوقت عينه. في واحد من الاجتماعات عرض أحد كبار قادته العسكريين لإمكانيات الحزب في حال وسعت اسرائيل حربها على لبنان. بدا في غاية الثقة من القدرة على التصدي والمواجهة. عرض خطة دقيقة بالوقائع والأرقام لإمكانيات الحزب العسكرية وقدراته، بما يجعل النصر واقعاً حتماً.
المجريات خالفت التوقعات غير أن مجريات الحرب خالفات التوقعات. بينت الوقائع أن لدى إسرائيل خرائط بكامل مستودعات الصواريخ، فاستهدفت منصاتها بشكل شل قدرات الحزب على قصف الصواريخ، لاسيما بعد استهداف نخبة من القادة العسكريين ممن يديرون الحرب مباشرة. تدريجياً بدأت تتكشف وقائع أبعد من قصة تفوق تكنولوجي لإسرائيل. الحديث يسري عن وجود عملاء من المقربين من الدوائر العليا، تملك قدراً من المعلومات. التحقيقات جارية. معلومات متضاربة حول توقيف عدد من هؤلاء واسعي الاطلاع داخل الحزب. وقد يكون أحدهم تمكن من الفرار إلى خارج لبنان. وفي موضوع البيجرز فتح حزب الله تحقيقاً موسعاً حول الصفقة ومن كان سببها وملابساتها.
بالموازة، يستعد حزب الله لمرحلة جديدة من عمله السياسي والأمني وحتى العسكري، لاسيما بعد التغيرات الكبيرة التي طرأت على سوريا وهروب بشار الأسد بالشكل الذي حصل وفاجأ حزب الله. مقبل على حزمة واسعة من التعيينات. لم ينضج منها بعد إلا ممارسة الشيخ دعموش لمهام نائب رئيس المجلس التنفيذي، وهو كان نائباً لهاشم صفي الدين في الأساس. وتكليف النائب محمد رعد إدارة الشؤون الحزبية والسياسية داخل الحزب، وتعيين مسؤول وحدة العلاقات العامة. ورشة كبيرة يستعد لها، لكن ليس قبل دخول الاتفاق في الجنوب قيد التنفيذ كلياً وانسحاب إسرائيل من كامل الأراضي التي احتلتها في جنوب لبنان.
واقع آخر مثار تساؤل يتعلق بالعلاقة مع إيران، وحجم تدخلها لحماية حزب الله قبل استشهاد السيد نصرالله وبعده. في المزاج الشيعي العام ثمة تشكيك بدور طهران وتغيّبها عن حماية السيد، وكيف أنها سارعت للتعاطي على قاعدة أنها "أم الصبي" بعد استشهاد السيد مباشرة. يقول بعض المراقبين إن رحيل السيد أربك إيران لبعض الوقت، لكنها سارعت إلى إنقاذ الوضع وتطويق ترددات الأزمة على حزب الله. وهي سبق وعرضت على السيد ونائبه لاحقاً السفر إلى طهران، ورفضا. لكن هذا لا يلغي أن إيران نفسها تعاني من توترات داخلية بين المستويين السياسي والحرس الثوري، كانت بدايته مع مقتل الرئيس رئيسي ووزير الخارجية. انعكس هذا الوضع على حزب الله في لبنان والمنطقة ككل.
لم يتعاف حزب الله بالشكل اللازم، وإن كان ينهض من أزمته تدريجياً. لغاية اليوم يعتبر في حالة انتقالية، إلى أن يحين موعد التعيينات والتشكيلات الداخلية، ويستعيد نشاطه السياسي فعلياً بعد انقضاء فترة الستين يوماً لتنفيذ الاتفاق، لأن استهدافه وارد في أي مكان يظهر فيه قادته. ولذا، فإن حركة مسؤوليه لا تزال مقيدة، والتواصل داخلياً لم يستأنف كالعادة لأسباب أمنية.
يستعد حزب الله لورشة على مستويين: مراجعة الفترة الماضية بكل ما حملته عسكرياً وحتى سياسياً وعلى مستوى العلاقة مع محور الممانعة وماهيته، وعلى المستوى السياسي الداخلي. لا يتعاطى بالشأن السياسي بشكل مباشر بعد. وكما في اتفاق وقف النار كذلك رئاسياً. القرار متروك لرئيس المجلس النيابي نبيه برّي. لكن هذا لا يلغي الفيتو على انتخاب قائد الجيش العماد جوزف عون. لم يحسم خياره خلفاً لدعم فرنجية بعد، وهو لا يزال ينتظر الموقف السعودي ليبني عليه.
العين على حزب الله في المرحلة المقبلة، بانتظار أن يبلور تعاطياً مختلفاً مع التطورات في المنطقة، بدءاً من القضية الفلسطينية ومستجداتها، والتغيرات في سوريا، وحاجته إلى الالتزام بمشروع الدولة بشكل مغاير عن الماضي. المقربون منه يتحدثون عن مرحلة جديدة من التعاطي، ستبدأ بالمراجعة وتحميل المسؤوليات وتعديل الكثير من الأوضاع التي كانت سائدة.