يبدو أن هناك جاذبية شديدة لمسألة إعادة ترتيب الشرق الأوسط، بل هي تعبير أو مصطلح متكرر على مدى تاريخ من التدخلات الغربية والسياسات الإسرائيلية، وفي الحقيقة أن هذه المحاولات إما أن تفشل أو تزيد من توترات وصراعات المنطقة، وهي عموماً مسألة تستحق الرصد والفهم.
وكعادة من يحولون المعارك إلى معركة وجود وفى ظل وجود تقاليد من استخدام الحرب النفسية بصورة أساسية، أخيراً أدلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتصريحات خلال مؤتمر صحافي قبل مغادرته نيويورك الأسبوع الماضي ممزوجة بمشاعر فخر وانتصار وكأنه حقق نصراً نهائياً بأنه سيكمل حربه في المنطقة لتحقيق كل أهدافه من القضاء على كل أعداء إسرائيل وبقدر من التعجل الواضح.
ما يقصده نتنياهو ليس صعب الفهم فهو يريد القضاء على "حماس" و"حزب الله" ويريد تصفية القضية الفلسطينية ولا يريد إقامة دولة لهذا الشعب، وتزيد بعض الشروح بأنه يريد القضاء على أي تطرف، وهي إضافة ليست مقنعة حيث لا تشمل مثلاً تطرف "داعش" ولا "القاعدة" وكذا من منطلق شيوع التطرف اليميني الإسرائيلي.
تاريخ من محاولات صياغة الأوضاع الإقليمية
لو تركنا جانباً مرحلة الحرب الباردة ومحاولات التأثير الخارجية خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وتوقفنا عندما حدث بعد الهزيمة العربية الكبرى في 1967، إذ ازدحمت الساحة الإسرائيلية بما سمي آنذاك مشروعات السلام الإسرائيلية التي ارتفع ضجيجها.
وكانت في الحقيقة مشروعات لاستسلام عربي بصورة أو أخرى حتى كانت حرب أكتوبر (تشرين الأول) وبدء معادلة جديدة سمحت بخلق ظروف أكثر ملاءمة لإقامة سلام مصري- إسرائيلي تلته خطوات أخرى مع الأردن، ثم أدت الانتفاضة الفلسطينية إلى ظروف سمحت بتوقيع اتفاقيات أوسلو المشوهة التي أربكت القضية الفلسطينية.
خلال ذلك طرحت مشروعات أوروبية- أميركية من أهمها عملية برشلونة للتعاون المتوسطي التي كان من أحد أبعادها ترتيبات إقليمية جديدة تكون إسرائيل بمقتضاها جزءاً من المنطقة، وسبقتها عملية مدريد لإقامة سلام يمهد لأوضاع إقليمية جديدة ولكن كل هذا تعسر على صخرة السياسات الإسرائيلية ورفض إسرائيل إقامة سلام حقيقي وتأسيس دولة فلسطينية يمكن أن تؤدي بالفعل لخطوات لاحقة وإعادة ترتيب المنطقة.
ثم في بداية القرن تحدثت كوندليزا رايس وزيرة الخارجية في عهد الرئيس بوش الابن عن شرق أوسط جديد ديمقراطي ومناهض للتطرف الديني متناسين الدور الأميركي الرئيس في إنشاء "القاعدة" ثم "داعش"، وأقيمت المؤتمرات واللقاءات الفاشلة بهذا الغرض حتى جاءت قوة دفع جديدة في ما يسمى ثورات الربيع العربي، ولكن ما تلى هذا هو انهيار عدد من الدول العربية وتوطن الخطاب السياسي الديني المتشدد والملتبس في كثير من أنحاء الإقليم، بل وتفكك هذه الدول بصور متباينة.
ولكن الشرق الأوسط تعرض لتغيرات بالفعل ليست كلها نابعة من إسرائيل، كان الهدف من العرض التاريخي السابق هو التذكير بأمرين، أولهما أنه كانت مشروعات ومحاولات إسرائيلية وأميركية منذ عقود لإعادة ترتيب المنطقة وتصفية القضية الفلسطينية وضم إسرائيل للإقليم وأنها نجحت جزئياً ولم تنجح في الكامل.
ومن ناحية أخرى، فإن مشروعات التأثير والتغيير أسفرت عن تشوه ملحوظ في التطور السياسي لعدد كبير من دول المنطقة، وهنا قد يقول البعض، إن هذه التشوهات تصب في مصلحة إسرائيل وضعف الموقف العربي وهذا صحيح، ولكن صحيح أيضاً أنها تحمل أخطاراً شديدة بالاضطراب وعدم الاستقرار السياسي فضلاً عن أن بعضها ترك مساحة لنفوذ إيراني، وليس مؤكداً ما هي مآلات هذه المجتمعات وأي تأثير لهذا مستقبلاً؟
ولكن حقيقة الأمر في النهاية أن ما نراه اليوم ليس المنطقة التي كانت قبل يناير (كانون الثاني) 2011، ولا هي نفس المنطقة التي حدث فيها قبول عدد من الدول العربية إقامة علاقات سلام مع إسرائيل من دون التزام مبادرة السلام العربية وشروطها بهذا الصدد، وإن كانت مسارات نمو العلاقات بين هذه الدول وهي الإمارات والبحرين وعمان والسودان والمغرب متباينة ومذبذبة في بعض الحالات.
ما يريده رئيس الوزراء نتنياهو أن يكمل تحولات المنطقة بالتخلص من القوى الممانعة لإسرائيل وبتقليص الإسلام السياسي الشيعي الذي تؤكد كثير من الشواهد أنه نما بقبول أطراف غربية وواشنطن تحديداً التي ينسب لرئيسها السابق باراك أوباما أنه قال إن هذا الإسلام السياسي الشيعي أكثر رشداً ويمكن التعامل معه خلافاً للتطرف السنى.
مع أن الأيادي الأميركية والغربية هي الأكثر مسؤولية عن صعود الإسلام المتطرف في مراحل سياسية سابقة، ولم يثبت زوال العلاقة حتى الآن، والدليل على ذلك أن هذه القوى ليس لها صوت في الحرب الإسرائيلية الحالية مما يثير كثيراً من التساؤلات حتى وإن كانت مفهومة لمن يعرف علاقة هذه القوى بالولايات المتحدة وإسرائيل باستثناء الفصائل الفلسطينية.
حدود واحتمالات التغيير
قبل أن يبدأ الرد الإيراني ربما كان مشهد الارتباك الكبير في صفوف "حزب الله" مغرياً لنتنياهو للتعجل في إعلان النصر، ومع ذلك فإن الحسابات المعقدة والضربات المحرجة التي تلقاها الحزب وكذا إيران ربما أيضاً تشير إلى أن احتمالات نجاح إسرائيل لها قدر من الوزن في تحقيق بعض أهدافها في حربها في هذه الجبهة الشمالية، مع ملاحظة أن بداية التحول الإسرائيلي شمالاً جرت الأمور بسرعة أكبر كثيراً مما حدث في غزة التي استغرقت عدة أشهر نجحت فيها في تدمير غزة وإضعاف "حماس"، ولكنها لم تحقق أهدافها المعلنة من استعادة الأسرى وقتل السنوار والتدمير الكامل للحركة وإيجاد بديل لمساعدتها في الاحتلال المباشر لغزة التي أكدت نيتها في القيام به، ولكن هذه السرعة والضربات الإسرائيلية الخطرة لا تعني أن مسار المعركة بالضرورة سيكون لصالح الأهداف الإسرائيلية، فالتوازنات العسكرية والطبوغرافية متباينة عن حالة غزة.
وفى ضوء بدء ردود الفعل من معسكر إيران يجعلنا هذا نميل إلى عدم التسرع في توقع ناتج هذه المواجهات. بالقطع ستكون مكلفة في الأرجح للشعب اللبناني، ولكنها قد تكون كذلك بالنسبة لإسرائيل أيضاً فضلاً عن التفاعلات المعقدة مع إيران والقوى الأخرى المرتبطة بها خلاف "حزب الله" لم تتبلور بما يكفي بعد وبالنسبة للأخير تحديداً، فكثير سيتوقف على مدى تماسك الحزب بعد الضربات التي تعرض لها.
من ناحية أخرى ما لم يضعه نتنياهو في اعتباره حتى الآن هو أن الشعب الفلسطيني صامد في غزة وأنه سيضطر قريباً لتحمل المسؤوليات القانونية عن إعاشة هذا الشعب الذي أعلن مواصلة احتلاله عسكرياً، ومهما طالت مناورات وتلاعب إسرائيل بالمجتمع الدولي الذي صار في أسوأ حالاته فإن معالجة نتائج هذا الاحتلال المباشر ليست بالأمر السهل، كما أن معركة الضفة الغربية لن تكون سهلة أيضاً، بل ربما تكون غير ممكنة بالنسبة لإسرائيل.
كما أن المشهد الدولي حافل بأسئلة عديدة واحتمالات متنوعة أبرزها نتيجة الانتخابات الأميركية ومصير الحرب الأوكرانية التي تراجعت أخبارها في الإقليم في محافل عديدة بتأثير سخونة الحروب والجرائم الإسرائيلية، ولكن سيكون لنتائجها تأثيرات عميقة في مستقبل الترتيبات الدولية خصوصاً أن هناك احتمالات أننا في مراحل فاصلة انتظاراً لما ستسفر عنه الانتخابات الأميركية وقد تتبلور مع بدايات العام المقبل وكل هذا ستكون له انعكاسات على كل العالم.
ثم ما يتناساه نتنياهو أن أهم طرفين عربيين وهما مصر والسعودية أكدتا موقفهما من رفض تصفية القضية الفلسطينية، وأزعم أن هذا الموقف جاد ولن يتغير لاعتبارات كثيرة.
كل هذه الاعتبارات تجعل من افتراضات نتنياهو أمراً غير متوقع وأن احتمالات التغيير نعم تتواصل في اتجاهات متعددة بالمنطقة، ولكن ليس بالضرورة في الاتجاه الذي يريده. وأخيراً فإن التاريخ والمستقبل أعقد من إرادة طرف واحد مهما كانت قوته النسبية ولم يثبت حتى الآن إمكانية تصفية شعب في العصور الحديثة، كما أن تاريخ المنطقة الحديث يكشف عن أن الأمور من التعقيد بمكان.