كما يأبى القمر إظهار جانبه المظلم، ملتحفا بنور الشمس الساطع، ليظهر أجمل تفاصيله لمتأمليه، هكذا بالضبط نجح مطعم "قمر" اللبناني بجحب ظلام الأيام الصعبة التي تمرّ على لبنان عن زائريه من أين ما جاؤوا من مختلف البلدان، مقدّما الصورة البهية عن لبنان من لحظة دخولهم واستضافتهم حتى مغادرتهم. كل من زار هذا المكان يدرك جيّدا أن هذه السطور لا يُقصد منها المبالغة بل هي توصيف مُستحق لمسيرة طويلة بدأها السيد كارول عطالله إبن هذا البلد ومالك سلسلة مطاعم "قمر"، فكيف بدأ عطالله مسيرته وكيف نجح بجعل النجاح حليفه في أحلك الظروف؟
بداية، لا بد من الإشارة الى أن ارتباط الإصرار والعزيمة والمثابرة، باللبنانيين أينما حلوا ليس وليد اليوم ولا وليد الصدفة أو الحظ، فالكثيرون عبّروا وكتبوا عن قدرة هذا المجتمع اللبناني على التعايش مع الأزمات التي مرّت عليه منذ الحرب الأهلية عام 1975 والإجتياح الاسرائيلي والأزمات السياسية، وصولا الى انفجار مرفأ بيروت، وباء كورونا، الأزمة الإقتصادية وحاليا الحرب الدائرة في الجنوب اللبناني. عطالله إبن هذه البيئة الخصبة خير مثال، فهو الذي بدأ مسيرته المهنية في تجارة الألبسة عام 2012، الا أنه ورغم نجاحه في عالم التصنيع لسنوات، آثر إقفال مصنعه الذي اعترضته صعوبات كبيرة متربطة بعملية التصنيع والتي تطلب تأمين للكهرباء ومادة المازوت للمولدات وهو ما كان يصعب تأمينه في تلك المرحلة. اقفال هذا المصنع لم يكن بالنسبة لعطالله خطوة الى الوراء بل الى الأمام، وهنا بيت القصيد المرتبط برؤيته الثاقبة التي يتمتع بها والتي كانت وراء قراره الكبير بالانتقال الى قطاع المطاعم.
من هنا، طريق حريصا كانت وجهته الأولى، حيث مستندا الى إيمانه الثابت برعاية سيدة حريصا العذراء مريم، قرّر امتلاك مطعم على كتف هذا الجبل، بمعايير عالية وجودة مرتفعة، لا تشبه أي من المطاعم الأخرى الموجودة على هذا الطريق، وهنا كان التحدي لأن الكثيرين شكّكوا بصحة قراره خصوصا أنه منذ البداية أصرّ على اعتماد أعلى المعايير وبتكاليف باهظة تخطّت المليون دولار. ورغم إدراكه حجم المخاطرة، افتتح عطالله مطعم "قمر" عام 2013، متمسّكا بالدرجة الأولى برهانه على التأثير الإيجابي لموقع سيدة حريصا الذي لا يمكن لأي سائح من أي ثقافة ودين كان أن يأتي الى لبنان من دون زيارتها، وبذلك أصبح مطعم "قمر" الوجهة الأولى والمفضّلة لأي سائح أو مغترب أو مقيم يقرّر تناول طعاما لبنانيا لذيذا في هذه المنطقة. أدرك عطالله منذ البداية، كغيره من أصحاب المشاريع، أن المخاطرة خطوة لابد منها في بلد مثل لبنان لأنه يفتقد في معظم الأوقات للإستقرار الأمني والاقتصادي والسياسي، ورغم كل المشكّكين حوله، أصاب عطالله في رهانه ولم يلبث أن افتتح "قمر" حتى بدأ يحصد نجاحا كبيرا خلال أقل من سنة.
"قمر" - حريصا لم يكن رهانه الوحيد، فما إن ذاق طعم النجاح على كتف الجبل، حتى وقعت عينه بعد سنتين على مكان آخر مواجه للبحر في منطقة أنطلياس وحوّله من مكان مهجور الى مطعم فاخر أُنجز بحرفية وجمالية عالية وفريدة، وصولا الى الفرع الثالث الذي أبصر النور في قلب العاصمة بيروت الى جانب أشهر المطاعم هناك، علما أنه لم يكترث يوما للمنافسة بل وجّه تركيزه على كيفية الحفاظ على استمرارية وإنجاح "قمر" .
وتجدر الإشارة الى أن عطالله وفي أحلك الظروف التي خاضها لبنان مؤخّرا رفض التغيير في نوعية وجودة مأكولاته في سبيل تخفيض الكلفة، وهذا الأمر كان من شأنه أن يميّز قمر عن باقي المطاعم خصوصا وأن معظمها اعتمدت هذه السياسة لتتمكن من الإستمرار وعدم إقفال أبوابها كما أن الحركة في المطاعم انخفضت بحوالي 40 بالمئة بفعل الازمة الحالية مقارنة بالسنة الماضية. اندفاع عطالله والكثير من أصحاب المشاريع مثله الذين قرروا مواجهة كل الظروف واستثمار أموالهم وجنى أعمارهم في مشاريع تعود بالربح ليس فقط لهم بل للبلد، كان بمثابة الأوكسيجين الذي تزوّد به لبنان ليصمد في وجه كل المحاولات لخنقه على كافة المستويات.
القصة لم تنته عند هذا الحد، فنجاح "قمر" وصلت أصداؤه الى خارج الحدود وتحديدا الى أهل المملكة العربية السعودية التي لطالما كانت همّة اللبنانيين وصمودهم محطّ احترام وتقدير من قبلها. وفي هذا الإطار، "قمر" كان له النصيب الأوفر من مملكة حيث لاقى ترحيبا ودعما كبيرا له إذ تمكّن من إطلاق فرع كبير لـ "قمر" في جدة، حاصدا نجاحا كبيرا جعل منه خير ممثّل للبنان وهوية اللبنانيين الطموحين والشغوفين الذين لاطالما شكّلوا قيمة مضافة الى أي بلد استقروا فيه.
مسيرة عطالله وتألّق سلسلة مطاعم "قمر" في سماء لبنان والمملكة، أثبت بما لا شكّ فيه أن مهما حلّت العتمة لا بد للقمر أن يطلع وينير بنوره خيوط الأمل والحياة التي لا يزال اللبنانيون يصنعونها كلٌّ على طريقته، فيكون عطالله بإصراره ومثابرته عبرة لكل الشباب اللبناني بأن لا شيء مستحيل.