ما إن أبصر الاتّفاق السعوديّ-الإيرانيّ برعاية صينيّة النور، حتّى أعلن أحد المحامين والمحلّلين السياسيّين، وهو من مهندسي نظريّة «المشرقيّة»، أنّ منظومة «حلف الأقلّيّات» آخذة في لفظ أنفاسها، وربّما انتهت إلى غير رجعة. لعلّه كان يشير بهذا إلى فكرة «حلف الأقلّيّات» من حيث محمولها السياسيّ، الذي يتلخّص في ضرورة تكتّل كلّ من اعتبر ذاته أقلّيّةً عدديّةً في هذا الشرق ضدّ الإسلام السنّيّ، الذي اتّسم بنفوذ سياسيّ لا يمكن إنكاره بدءاً بظهور الدعوة الإسلاميّة على مسرح التاريخ إبّان القرن الميلاديّ السابع وصولاً إلى انهيار السلطنة العثمانيّة مع مطلع القرن العشرين. فإذا شرعت المملكة العربيّة السعوديّة اليوم، وهي المرجع الدينيّ، وربّما السياسيّ، الأبرز لأهل السنّة والجماعة في العالم، تنخرط في نوع من ربط نزاع مع إيران، التي باتت تقبض على الناصية السياسيّة لشيعة عليّ، وهم أقلّيّة في العالم الإسلاميّ، فإنّ دعوة الأقلّيّات الأخرى في الشرق إلى الالتفاف حول الشيعة في مواجهة الإسلام السنّيّ عادت لا تسوغ. ومن ثمّ، يجوز القول إنّ نظريّة «حلف الأقلّيّات» تعرّضت إلى نكسة كبرى، وربّما تكون آيلةً إلى التفكّك والزوال.
غير أنّ حصر مقولة «حلف الأقلّيّات» بالجانب السياسيّ هو ذرّ للرماد في العيون وتعمية عمّا تختزنه هذه المقولة من مغالطات بنيويّة ذات طابع ثقافيّ ومجتمعيّ. أولى هذه المغالطات تكمن في أنّ الذين اعتنقوها، عن قصد أو عن غير قصد أو إمعاناً في الخوف، ارتضوا أن يختزلوا الجماعات التي يدعونها إلى الانخراط في هذا الحلف عادّين إيّاها مجرّد أعداد في حسابات دفتريّة. والطامة الكبرى هي إسقاط منطق العدد هذا على منطق الحضور وصولاً إلى الاعتبار أنّ التناقص العدديّ يجب أن يفضي بالضرورة إلى انكماش مجتمعيّ وثقافيّ. طبعاً لا يسعنا إنكار الترابط بين الكمّ والنوع. فتناقص الكمّيّة يؤدّي، في معظم الأحيان، إلى تقهقر النوعيّة. لكنّ ثمّة دراسات سوسيولوجيّة تبيّن أنّ الأقلّيّات العدديّة كثيراً ما تلجأ إلى التعويض عن واقعها الكمّيّ عبر تمايزها النوعيّ، كالتماعها مثلاً في المجال الاقتصاديّ والفكريّ والثقافيّ. خلاصة القول أنّ اختزال الجماعات بأعدادها هو، في ذاته، مقاربة اختزاليّة وتسطيحيّة للواقع، ولا يأخذ في الحسبان تنوّع العناصر التي تتشكّل منها الهويّة الجمعيّة.
المغالطة الثانية لمقولة «حلف الأقلّيّات» تقوم في النزعة الواضحة إلى اختزال البشر الأفراد بالانتماء إلى جماعة من الجماعات تضفى عليها صفة الأقلّيّة. لقد عكفت العلوم الاجتماعيّة على تفحّص التوتّر بين الفرد والجماعة، وما يمكن أن يستتبعه هذا التوتّر من ضغط على الإنسان الفرد، وصولاً إلى سحقه باسم حقوق الجماعة والمحافظة على تماسكها و«السلم الأهليّ» فيها. وقد أمعن الأدب في تحليل الآليّات التي تستخدمها الجماعة في سبيل ترويض الفرد، أو تهميشه، أو حتّى تحويله إلى مجرّد كبش فداء يضمن موتُه استمرارَها؛ ولا غرو، فحكاية الإنسان الفرد هي مكان الأدب بامتياز: «خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمّة كلّها»، هذه كانت، بحسب إنجيل يوحنّا، كلمات رئيس الكهنة قيافا حين دعا بطاريق الأمّة اليهوديّة إلى المضيّ في تسليم المسيح إلى الرومان ليهلكوه. إذا كانت هذه هي حال الجماعات عموماً، فإنّ الظلم الذي يصيب الإنسان الفرد حين نقرّر مجرّد إلحاقه بالأقلّيّة التي «ينتمي» إليها، والتغاضي عن كلّ المعالم الفذّة التي تتضافر في صنع فرادته، إنّما هو ظلم مضاعف، لكونه يحصل في جماعة معرّضة أصلاً لاختبار التهميش على يد مَن تسوّل له نفسه أن يسكر بكونه أكثريّة. فكثيراً ما يكون تهميش الفرد في قلب جماعة مهمّشة، أكثر شدّةً وإيلاماً لكون هذه الجماعة تتحوّل، في طرفة عين، من ضحيّة تقاسي الظلم إلى جلّاد ينتقم من مظلوميّته عبر معاقبة مَن هم محسوبون عليه وينتمون إلى بطانته.
المغالطة الثالثة في نظريّة «حلف الأقلّيّات» هي اختزال البشر، أفراداً وجماعات، بالدين الذي ينتسبون إليه، إذ غالباً ما تكون الأقلّيّات موضوع البحث أقلّيّات دينيّة كالمسيحيّين والعلويّين والإيزيديّين (علماً بأنّ أصحاب النظريّة لم يُسقطوا الأقليّات الإثنيّة من حسابهم). في هذا السياق، شدّدت وثيقة «نختار الحياة»، التي أطلقها عدد من المفكّرين والمفكّرات المسيحيّين في أيلول/سبتمبر من العام ٢٠٢١، على أهمّيّة الديناميّة التي أطلقها البابا فرنسيس وشيخ الأزهر أحمد الطيّب عبر توقيعهما «وثيقة الأخوّة الإنسانيّة»، من حيث إنّها تقطع الطريق على استخدام كلّ من المسيحيّة والإسلام وقوداً للمتحمّسين لمقولة «حلف الأقلّيّات» على أساس دينيّ. وقد سعى البابا فرنسيس إلى ترسيخ هذه الديناميّة وتوسيعها عبر الزيارة التي قام بها للسيّد آية الله العظمى علي السيستانيّ، المرجعيّة الدينيّة الشيعيّة في العراق، وذلك إبّان زيارته التاريخيّة لهذا البلد العظيم. البشر، بكلّ بساطة، ليسوا أرقاماً في إحصائيّة دينيّة. ولئن كان الدين واحدةً من مركّبات هويّتهم أفراداً وجماعات، إلّا أنّه يتمظهر لدى كلّ واحد منهم بشكل مختلف ولا يستغرق هذه الهويّة أو يبتلعها.
نظريّة «حلف الأقلّيّات» لا بدّ من أنّها في طريق الاندثار لا بسبب حسابات السياسة فحسب، بل خصوصاً بسبب ما تنطوي عليه من ترّهات وسرديّات عقيمة في المقاربة الاجتماعيّة والثقافيّة والحضاريّة.