سقفُ التسوية وسيفُها- إيلي قصيفي

  • شارك هذا الخبر
Thursday, February 9, 2023

كتب ايلي قصيفي في أساس ميديا:
إذا كان سقف الاجتماع الخماسي الذي انعقد في باريس الإثنين متوقّعاً قبل حصوله ما دامت توجّهات كلٍّ من المشاركين فيه حيال الأزمة اللبنانية معروفة، وكذلك ما يمكن أن ينتج عن تقاطعات وافتراقات هذه السياسات، فإنّ أهمّيّته القصوى تكمن في حصوله بحدّ ذاته، وبالتحديد انضمام كلّ من قطر ومصر إلى باريس وواشنطن والسعودية. ولا يمكن فصل عدم صدور بيان في ختام اللقاء عن انضمام هاتين الدولتين، وبالأخصّ قطر، إلى الثلاثيّ الآنف الذكر، فضلاً عن أنّ عدم صدوره حتى الآن ينطوي على رسالة مزدوجة مفادها أنّ الثلاثي هذا لا ينوي التصعيد فوق سقف بيانه السابق بشأن لبنان وفي الوقت نفسه لا ينوي التراجع عنه، وهذا يعني في نهاية الأمر تركه الباب مفتوحاً للتفاوض على شروطه.

والحال هذه فإنّ مشاركة قطر، فضلاً عن كونها تخلق دينامية إضافية للاجتماع باعتبار أنّ الدوحة قادرة على فتح قناة تواصل مباشرة مع إيران اللاعب الرئيسي على الساحة اللبنانية، تأتي في أعقاب انضمام قطر إلى تحالف النفط الفرنسي - الإيطالي الذي يستعدّ لبدء التنقيب في المياه اللبنانية.

يحيلنا هذا الأمر إلى العنوان العريض لمرحلة ما بعد اتفاق ترسيم الحدود مع إسرائيل بما هو عنوان الاستقرار الأمنيّ الذي من دونه تسقط مفاعيل هذا الاتفاق، أقلّه لبنانياً، باعتبار أنّ اهتزاز الوضع الأمني في لبنان يجعله بيئة غير صالحة للاستثمار الاقتصادي الذي وعد به الاتفاق إيّاه.

أولويّة الاستقرار

ليس قليلَ الدلالة أن تبدأ أوساط حزب الله، الطرف الأساسي في اتفاق الترسيم إلى جانب إسرائيل، بتسريب كلامٍ مفاده أن لا أولوية في لبنان تتقدّم على أولويّة الاستقرار. وهو ما يجعل من هذا الاستقرار الموعود اللبنة والسقف والدافع إلى أيّ تسوية خارجية - داخلية بشأن الأزمة السياسية، بدءاً من انتخاب رئيس جديد للجمهورية.

يذكّر عنوان الاستقرار هذا بعنوان السلم الأهليّ الذي شكّل العنوان الرئيسي لمرحلة ما بعد اتفاق الطائف، وتحديداً منذ سيطرة دمشق على نحو تامّ على الوضع اللبناني من دون أن ينازعها أحدٌ عليه بعدما حصلت على غطاء أميركي مباشر لسيطرتها تلك. لذلك يتحتّم النظر بعينين اثنتين إلى أيّ تسوية بشأن الأزمة اللبنانية، بحيث تنظر إحداهما إلى الخارج لفهم موازين القوى الخارجية لهذه التسوية، والأخرى إلى الداخل لفهم توازنات القوى المحليّة وتأثيرها على مجمل المشهد السياسي في المرحلة المقبلة.



المشهد الخارجيّ

على المستوى الخارجي ما يزال العالم والمنطقة يعيشان ارتدادات الاستقطاب الدولي والإقليمي الذي نشأ عن الحرب الروسية على أوكرانيا التي خلقت وقائع جيوسياسية جديدة في المنطقة، وبالتحديد لناحية السياسة الأميركية والأوروبية تجاه إيران التي دخلت على خطّ هذه الحرب من خلال تزويد روسيا بالمسيّرات فيما يجري الحديث عن زيادة التعاون العسكري بين الجانبين. يحصل ذلك في وقت يُفاقم الدعم السياسي والإعلامي الغربي للاحتجاجات داخل إيران من تصاعد التوتّر بين الدول الغربية، وبالتحديد فرنسا وأميركا، وبين إيران، وهو ما ينعكس حكماً على لبنان باعتبار أنّ باريس كانت تسعى إلى لعب دور امتصاصيّ للاحتقان الأميركي - الإيراني على الساحة اللبنانية فإذا بها تصبح طرفاً رئيسياً في هذا الاحتقان إلى جانب واشنطن. لكن على الرغم من ذلك، لا تمثّل المواجهة المفتوحة مع إيران استراتيجية طويلة الأمد بالنسبة إلى فرنسا، ولذلك لا يمكن اعتبار أنّ المواقف "المتشدّدة" الأخيرة، التي أطلقتها وزيرة الخارجية الفرنسية من الرياض، تمثّل اتّجاهاً فرنسياً لتصعيد مفتوح مع إيران. هذا فضلاً عن أنّ السياسة الأميركية تجاه طهران ما تزال تراوح مكانها، وإن مالت أكثر أخيراً نحو التصعيد على خلفيّة الحرب الروسية - الأوكرانية والاحتجاجات داخل إيران.

لا يغلق كلّ ذلك أبواب التفاوض الغربي، وبالتحديد الفرنسي، مع طهران بشأن لبنان، وما انضمام قطر إلى الاجتماع الباريسيّ سوى أحد الدلائل المهمّة على ذلك، ولا سيّما أنّ وزير الخارجية القطري قد سلّم لتوّه رسائل غربية إلى إيران. إلى ذلك يطرح حضور مصر للاجتماع الخماسي سؤالاً رئيسياً عن مقدار الربط الدولي والإقليمي بين ملفّات المنطقة، وبالتالي عن احتمالات ارتباط الحلّ في لبنان برؤية دوليّة وإقليمية لحلول أزمات أخرى في المنطقة. فمصر التي تتمتّع بديناميكية سياسية إقليمية، وبالأخص عربية، قادرة أكثر من سواها على بناء تقاطعات مهمّة بين هذه الملفّات، وبالتالي بين الحلول الممكنة لها. وقد يخوّلها قيامها بدور أساسي في التسوية الرئاسية في عام 2008 لعب دور فاعل في أيّ حلّ مقبل.

أمّا المملكة العربية السعوديّة فهي ملتزمة سقفاً محدّداً وثابتاً في تعاملها مع الملف اللبناني.

... والداخلي

لا شكّ أنّ هذا المشهد الخارجي المعقّد، لكن الواضح في خطوطه العريضة بشأن لبنان، ينعكس على المشهد الداخلي من دون أن يعني ذلك أنّ القوى الداخلية موزّعة الولاء على الدول الخارجية بالمقدار نفسه، وذلك بالنظر إلى الارتباط العضوي بين الحزب وإيران، وهو ما يجعل الحزب طرفاً رئيساً على طاولة المفاوضات التي تتلقّى القوى الأخرى نتائجها من دون أن تكون شريكة فيها فتقبل بها أو ترفضها، وهو ما سيحدّد حجمها في أي حلّ أو تسوية مقبلين.

إنّ عنوان الاستقرار الذي يشكّل سقف الحلّ أو التسوية الموعودة هو أيضاً سيفها، تماماً كما كان عنوان السلم الأهلي سقف تسوية الطائف وسيفها في آنٍ معاً، خصوصاً بعدما أمسكت دمشق وحيدة بقيود اللعبة الداخلية. والمقصود أنّ الحلّ أو ترجماته العملية قد يأتيان على حساب طرفٍ لبنانيّ أو أكثر في اللعبة الطائفية بحسب موازين القوى الجديدة على الساحة المحلية. فإذا كانت ترجمات تسوية الطائف قد أطاحت بـ"الحضور" المسيحي ضمن تركيبة الحكم، فإنّ المسيحيين قد يجدون أنفسهم مرّة جديدة، في ضوء التسوية المقبلة، خارج "النظام". وبالتالي فإنّ سقف الاستقرار الذي هو مطلب الداخل والخارج قد يكون هذه المرّة أيضاً سيفاً في عنقهم السياسي تماماً كما كان سقف السلم الأهلي سيفاً في عنقهم بدءاً من مطلع التسعينيات، حتّى إنّه تمّ التعاطي معهم سوريّاً ولبنانيّاً على أساس أنّهم يشكّلون خطراً على السلم الأهلي.

يطرح خلاف رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل مع حزب الله سؤالاً رئيسياً عن "المتانة الطائفية" لأيّ تسوية مقبلة في حال استمرّ هذا الخلاف ودفع بباسيل إلى معارضة التسوية والبقاء خارج الحكم مع أنّ الحزب يحاول إخضاع باسيل لشروطه، فإمّا أن يقبل بها ويدخل جنّة التسوية والحكم أو يرفضها ويبقى خارجهما. وفي المقابل لن يقبل الحزب بـ"القوّات اللبنانية" شريكاً مسيحياً أساسياً له في حال انخرطت بالتسوية وقبلت بشروطها. وفي جميع هذه الأحوال لن يكون المسيحيون طرفاً قويّاً في التسوية.



الوظائف المسلوبة

أمّا الطرف السنّيّ فيجب قياس حضوره في أيّ حلّ مقبل بناءً على حضوره في تسوية اتفاق الطائف، وهو ما سيُظهر تراجعاً هائلاً في هذا الحضور بين مطلع التسعينيات واليوم. يحيلنا هذا إلى نظرية توزيع دمشق الوظائف الاقتصادية والسياسية - الأمنيّة بين الطوائف، بحيث كان الاقتصاد وظيفة سنّيّة مع الرئيس رفيق الحريري فيما كان الأمن شيعيّاً مع حزب الله، وتبقى السياسة حكراً على الوصيّ السوري. أمّا الآن فيبدو أنّ كلّ الوظائف باتت مجمّعة حتى الآن بين أيدي حزب الله الذي "لا شريك له" إلا بمقدار ما يكون هذا الشريك مستعدّاً للانسحاق وتلبية شروط الحزب في "الغرف المغلقة" كما المفتوحة.


يطرح ما سلف ذكره سؤالاً أساسياً عن طبيعة المرحلة المقبلة في لبنان، حتى لو انتُخب رئيس وبدأت الاستثمارات النفطية: هل يمكن الفصل بين القطار السياسي والقطار الاقتصادي في البلد؟ أي هل يسير القطار الاقتصادي بدفع خارجي لا تؤثّر فيه الكوابح الداخلية المتأتّية من استمرار الأزمة السياسية بشأن المشاركة الطائفية في السلطة؟

هذا سؤال لا يمكن الإجابة عليه قبل معرفة مواقف الأفرقاء الداخليين من أيّ تسوية محتملة، لكن قد يسير لبنان في المرحلة المقبلة على سكّة باتجاهين متعاكسين: اتجاه الاستثمار الاقتصادي واتجاه الاحتقان السياسي - الطائفي المتفاوت في ظهوره وضموره!