قراءة قانونية للأحداث الحاصلة بعد استئناف التحقيق بملف تفجير المرفأ- عبده جميل غصوب

  • شارك هذا الخبر
Monday, January 30, 2023


كتب عبده جميل غصوب:
أثار استئناف التحقيق بملف تفجير المرفأ عدة نقاط قانونية وواقعية يجب تناولها بفقرتين:

أولاً: في قانونية متابعة الملف من قبل المحقق العدلي

ليس صحيحاً ان المحقق العدلي القاضي طارق البيطار تنحى عن الملف أو رفع يده، ثم ناقض نفسه بنفسه ووضع يده مجدداَ على الملف، بل الحقيقة أن المحقق العدلي" تريّث" في متابعة التحقيق لحين معرفة مصير ما أطلق عليه تسمية " طلبات الردّ" التي ليست في حقيقتها طلبات ردّ بالمعنى القانوني للكلمة، بل هي في وصفها القانوني الصحيح طلبات إعاقة التحقيق.

هذه الطلبات مقدمة بصورة تعسفية، وهي لا تهدف الى طلب ردّ المحقق العدلي بل الى عرقلة متابعة أعمال التحقيق.

قاضي التحقيق العدلي كان في حالة " انتظار" دامت ثلاثة عشر شهراً ونيف والتحقيق معلق. فأصبح الزمن " ينهش العدالة " والهدف من ذلك كان " تنفيس" جريمة العصر ورميها في عالم النسيان.

بل أكثر من ذلك، حاول البعض صرف الأنظار عن جريمة التفجير وطمسها والتعمية عنها لإحلال قضية الموقوفين محلها، وكأن الهدف أصبح ليس اكتشاف المجرم المسؤول عن تفجير المرفأ، بل تخلية سبيل الموقوفين؛ علماً بأننا بصدد جناية، ولا محل لإخلاءات السبيل في القضايا الجنائية.

عطلوا التحقيق فبدلاً من أن يكون الهدف الأساسي متابعة التحقيق أصبح الهدف إخلاء سبيل الموقوفين.

قاضي التحقيق العدلي لم يرضخ لطلبات الردّ ولم يقر بصحتها في المبدأ، بل كان ينتظر نتائجها على التحقيق فاسحاً المجال لإيجاد حلول لهذه العرقلات التي تحولت الى مشكلات بذاتها، لا تهدد التحقيق وحسب، بل تهدد القضية بكاملها، فيتحول الملف الى طلبات ردّ متكررة ومتلاحقة. ويبقى الفاعل - المجهول المعلوم - متفرجاً على الملف، قابعاً في مكانه يسخر من العدالة المعطلة بطلبات الردّ.

ليس صحيحاً إذاً ان المحقق العدلي رضخ لطلبات الردّ ثم بدّل رأيه واتخذ موقفاً مخالفاً. الصحيح أنه انتظر وصبر، ولكن للصبر حدود.

إن استئناف التحقيق هو قرار يعود للمحقق العدلي وحده دون سواه، الذي انتظر ثلاثة عشر شهراً ونيف والملف على حاله من الجمود. فحصل ما حصل، في سياق قانوني صحيح يشكر عليه المحقق العدلي ولا يدان.

ثانياً: في مخالفات النائب العام التمييزي أمام المجلس العدلي.

1- تنص المادة 357 فقرة أخيرة أصول محاكمات جزائية أنه يمثل النيابة العامة لدى المجلس العدلي النائب العام التمييزي أو من ينيبه عنه من معاونيه. إن النائب العام التمييزي في الجرائم المحالة أمام المجلس العدلي يتولى مهام النائب العام امام هذا المجلس تحديداً، وهو هنا لا يتمتع بأي من الصلاحيات المعطاة له في المواد 13 الى 17 من قانون اصول المحاكمات الجزائية لأن صلاحياته هنا محصورة بتمثيل النيابة العامة أمام هذا المجلس. فهو هنا ليس نائباً عاماً تمييزياً، بل نائباً عاماً أمام المجلس العدلي. أي، وبعبارة أوضح، إن النائب العام التمييزي يتولى وظيفة النائب العام أمام المجلس العدلي، ولكن هنا ليس بصفته الأولى أي بصفته نائباً عاماً تمييزياً، لأن الصفة هنا تلعب دورها في تسميته فقط نائباً عاماً أمام المجلس العدلي، بدون أن ترافقه الى هذا المنصب صلاحياته المعددة في المواد من 13 الى 17 من قانون الأصول الجزائية.

أمام المجلس العدلي النائب العام التمييزي هو نائب عام وليس نائباً عاماً تمييزياً. بصفته هذه، يتولى حكماً منصب النائب العام أمام المجلس المذكور ليس أكثر. ويمارس الصلاحيات المعطاة له بموجب المواد 360 و364 و365 و367 أ.م.ج. ولكن ليس له إطلاقاً أن يمارس الصلاحيات المعطاة له كنائب عام تمييزي بمقتضى المواد 13 الى 17. وإلاّ لكان المشترع احال صراحة أو ضمنا الى هذه المواد، لكنه لم يفعل.

أمام المجلس العدلي النائب العام التمييزي هو نائب عام أمام المجلس العدلي وليس نائباً عاماً تمييزياً. وهو بصفته هذه يتولى حكماً منصب النائب العام أمام المجلس المذكور ليس أكثر ويمارس الصلاحيات المعطاة له بموجب المواد 360 و364 و365 و367 أ.م.ج ولكن ليس له إطلاقاً أن يمارس الصلاحيات المعطاة له كنائب عام تمييزي بمقتضى المواد 3 إلى 17 أ.م.ج.

2 – إنطلاقاً من هذا التوضيح الأساسي نؤكد :

- أنه لا يحق للنائب العام أمام المجلس العدلي إبطال القرارات والمذكرات الصادرة عن المحقق العدلي في جريمة تفجير المرفأ. فهو هنا يمارس الصلاحيات المنصوص عنها في المواد 360 و364 و365 و367 أ.م.ج دون تلك المعطاة له بالمواد من 13 الى 17 أ.م.ج (علماً أنه حتى المواد من 13 إلى 17 أ.م.ج لا تمنحه صلاحية إبطال قرارات ومذكرات المحقق العدلي!).

- نصت المادة 362 أ.م.ج أنه للمحقق العدلي أن يصدر جميع المذكرات التي يقتضيها التحقيق دون الطلب من النيابة العامة. وإن قراراته في هذا الصدد لا تقبل أي طريق من طرق المراجعة. وبالتالي لا يجوز للنائب العام أمام المجلس العدلي (المحدد فقط بالصفة النائب العام التمييزي أو من ينتدبه) أن يبطل قراراته، كما فعل النائب العام (المتنحي اصلاً) القاضي غسان عويدات عندما أبطل قرارات المحقق العدلي طارق البيطار.

- للنائب العام أمام المجلس العدلي وفقاً للمادة 363 فقرة 2 أ.م.ج أن يطّلع على ملف الدعوى وأن يبدي ما يراه من مطالعة أو طلب، وليس له في أي حال من الأحوال أن " يؤدِّب" المحقق العدلي وأن يبطل قراراته.

- ليس للنائب العام أمام المجلس العدلي سوى إبداء مطالعته في الأساس وفقاً للمادة 364 أ.م.ج، وبموجب المادة ذاتها يقرر المحقق العدلي إما منع المحاكمة أو الاتهام والإحالة أمام المجلس العدلي.

- وفقاً للمادة 365 أ.م.ج يبلغ النائب العام التمييزي قبل موعد الجلسة بخمسة أيام قائمة شهود الحق العام ويتبلغ نسخة عن شهود المدعي الشخصي.

- وفقاً للمادة 367 أ.م.ج ليس للنائب العام أمام المجلس العدلي أي صلاحيات في التحقيق ! بل له فقط أن يطلب من المجلس العدلي إجراء تحقيق إضافي في الدعوى بكامل هيئته أو بواسطة من ينتدبه من أعضائه لهذا الغرض. فليس إذن للنائب العام أمام المجلس العدلي أي صلاحية في الإشراف على التحقيق.

- قبل إحالة الدعوى أمام المجلس العدلي، ليس للنائب العام أمام المجلس المذكور سوى الادعاء لدى المحقق العدلي في الجريمة وإحالة الملف إليه للتحقيق به. وهذا ما حصل عندما ادعت النيابة العامة امام المحقق العدلي. وهنا ينتهي دور النائب العام أمام المجلس المذكور، فلا يعود له التدخل بالملف بعد إحالته للتحقيق أمام المحقق العدلي، بأي شكل من الأشكال (المادة 361 أ.م.ج). ووفقاً للمادة 364 يقتصر دور النائب العام أمام المجلس العدلي على إبداء مطالعة بالأساس بعد اكتمال التحقيقات.

- لقد خاطب النائب العام غسان عويدات المدير العام للأمن العام طالباً إليه وضع إشارة منع سفر بحق المحقق العدلي طارق بيطار ومبيّناً كامل هويته! هذه مجرد هرطقة قانونية أو
- إذا أردتم – ردة فعل عصبية لا مكان لها في القانون !

- ادّعى النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات على المحقق العدلي القاضي طارق البيطار بجرم اغتصاب السلطة! هذه أيضاً ردة فعل عصبية لا معنى قانوني لها!

- أعطى النائب العام غسان عويدات لنفسه صلاحية اعتبار يد المحقق العدلي مكفوفةً، بدون أن يكون له أي اختصاص، بل أي علاقة بهذا الأمر! فقد نصّب نفسه " مرشداً عدلياً" للقضاء اللبناني! إنها قمة المخالفات.

- تعاطى النائب العام أمام المجلس العدلي القاضي غسان عويدات مع قرارات إخلاء السبيل الصادرة عن المحقق العدلي طارق البيطار وكأنها منعدمة الوجود مخالفاً بذلك المادة 362 أ.م.ج التي تجيز للمحقق العدلي إصدار جميع القرارات التي يقتضيها التحقيق دون طلب من النيابة العامة. وأن قراراته في هذا الصدد لا تقبل أي طريق من طريق المراجعة.

إن النائب العام أمام المجلس العدلي (المتنحي أصلاً) غسان عويدات لم يخالف القانون وحسب، بل خالف أيضاً القرارات القضائية، ما يجعله مرتكباً جرماً جزائياً هو جرم مخالفة القرارات القضائية.

- عمّم النائب العام أمام المجلس العدلي (المتنحي أصلاً) على الأجهزة الأمنية عبر برقيات عدم تنفيذ التبليغات وقرارات إخلاء السبيل الصادرة عن المحقق العدلي القاضي طارق البيطار، معتبراً أنها غير قانونية، مخالفاّ بذلك صلاحياته المحصورة بالمواد 360 و364 و365 و367 أ.م.ج والتي لا تعطيه إطلاقاً صلاحية مخاطبة الأجهزة الأمنية، خلافاً لما هي عليه الحال عندما يمارس صلاحياته كنائب عام لدى محكمة التمييز (وليس كنائب عام أمام المجلس العدلي) حيث تجيز له هناك المادة 15 أ.م.ج أن يتوجه إلى رؤساء موظفي الضابطة العدلية – في نطاق الأعمال التي يقومون بها بوصفهم مساعدين للنيابة العامة – " ما يراه من ملاحظات في شأن أعمالهم الموصوفة آنفاً".
أي بعبارة أوضح، يعود للنائب العام التمييزي بصفته هذه وليس بصفته نائباً عاماً أمام المجلس العدلي، أن يوجه لموظفي الضابطة العدلية " الملاحظات" التي يراها مناسبة. فيكون هنا قد تجاوز صلاحياته وارتكب مخالفة فاضحة للقانون لا سيما للمواد 360 و364 و365 و367 أ.م.ج.

- لا يحق للنائب العام أمام المجلس العدلي (المتنحي أصلاً) تخلية سبيل الموقوفين بجريمة المرفأ. إن إقدامه على هذا الفعل مخالف للقانون في عدة أوجه :

فقد اعتبر أن الملف هو بدون قاضٍ لأن المحقق العدلي مكفوفة يده ! بدون أن يعود له أن يقرر أي شيء بهذا الخصوص. فمن نصّبه مراقباً على أعمال المحقق العدلي؟!

هذا فضلاً عن أنه استند إلى المادة 9 في فقرتيها الثانية والتاسعة من العهد الدولي الخاص الذي أقرّ في 16/1/1966 والذي دخل حيّز التنفيذ في 23/3/1967 وصادق عليه لبنان في 3/11/1972، " لإطلاق سراح " جميع الموقوفين (....) بقضية تفجير مرفأ بيروت دون استثناء ومنعهم من السفر ووضعهم بتصرف المجلس العدلي في حال انعقاده.

لقد ارتكب النائب العام أمام المجلس العدلي جملة مخالفات هنا، فهو ليس مختصاً " لإطلاق سراح الموقوفين" لأنه ليس المرجع الصالح لاتّخاذ قرار من هذا النوع؛ إذ يعود هذا القرار للمحكمة الواضعة يدها على هذه الدعوى، وليس للنائب العام أي للمجلس العدلي وليس له. ويتم ذلك بعد احالة الملف اليه مشفوعاً بالقرار الاتهامي الصادر عن المحقق العدلي.

ليس هذا هو المهم، بل المهم هو أن هذا العهد الدولي يتضمن مبادئ عامة بعيد عن إجراءات إخلاء السبيل وإطلاق سراح الموقوفين التي تنظمها إجرائياً القوانين الداخلية للدول وليس العهد الدولي.

فإذا كان صحيحاً أن المعاهدات الدولية تسمو على القوانين العادية وفقاً للمادة 2 أ.م.م، فصحيح أيضاً أن الاتفاقيات والعهود الدولية عندما تتضمن نصوصاً تتعارض مع النصوص التشريعية تغلّب عليها، وليس عندما تتضمن عناوين عامة هي عبارة عن مبادئ لا سبيل لمقارنتها مع النصوص الوضعية المنظمة للترك وإخلاء السبيل وإطلاق سراح الموقوفين، لأنها – كما ذكرنا – تتضمن مبادئ عامة بعيدة كل البعد عن التفاصيل الإجرائية. ولا مجال هنا لإعمال قاعدة سمو المعاهدة على القانون الوضعي لأنه أصلاً لا مجال للكلام على التعارض، نظراً لاختلاف طبيعة كل منهما ولاختلاف الأهداف.

فالعهد الدولي لا شأن له في تفاصيل تحكم إجراءات التقاضي واخلاءات السبيل وسوى ذلك من الأمور الإجرائية تنظمها القوانين الداخلية حتى نعتبر أنه مخالف لها ونغلّبه عليها. فلكل منهم مجاله الخاص، ولا سبيل ليس فقط للمقارنة بل حتى للمقاربة!

أما المخالفة الأكبر فتكمن في كون أحد المسؤولين الأمنيين في المرفأ الذي تقرر إطلاق سراحه من قبل النائب العام أمام المجلس العدلي القاضي غسان عويدات خلافاً للقانون، قد غادر البلاد بعد ساعات قليلة من إطلاق سراحه، خلافاً لقرار منع السفر المرفق بقرار إطلاق سراحه. هذه ليست مخالفة بل تصل إلى حد " الفضيحة"، خصوصاً متى علمنا بأن هذا " الفار" المطلق سراحه، كان مسؤولاً أمنياً كبيراً في المرفأ !

- والأخطر من كل ذلك، أن النائب العام أمام المجلس العدلي القاضي غسان عويدات قد ارتكب مخالفتين على درجة عالية من " الفظاعة" : تقسيم القضاء تقسيماً عامودياً بالغ الخطورة وخلق شرخ كبير في الجسم القضائي. وتهديد السلم الأهلي إذ أن قراراته الاعتباطية – التي كانت مجرد " ردّات فعل عصبية" على قرار المحقق العدلي بالادعاء عليه (وهو أصلاً ليس فوق القانون لأن القانون فوق الجميع – أدت الى فوضى عارمة في الشارع وإلى أحداث لا تحمد عقباها وكادت تصل بالبلاد إلى حرب أهلية بغيضة، لولا رعاية الله عزّ وجلّ.

حبذا لو يتقيّد النائب العام أمام المجلس العدلي بالصلاحيات المعطاة له قانوناً ولا يمس بصلاحيات المحقق العدلي.

فقضية المرفأ ليست مجرد دعوى قضائية بل هي قضية وطن، حمى الله وطننا الحبيب لبنان.