رضوان السيد- مسألة سلمان رشدي لا يمكن فيها الإنصاف ولا الحياد!
شارك هذا الخبر
Tuesday, August 16, 2022
كنت بألمانيا بمنحةٍ علمية عام 1988 عندما صدرت رواية سلمان رشدي: "آيات شيطانية". وسرعان ما دعتني ستّ أو سبع جهات ثقافية واستشراقية ألمانية للمحاضرة وإبداء الرأي. وكانت مشكلتي أنّني ما استطعت الحصول على الرواية بأيّ سبيل لأتمكّن من قراءتها وإبداء الرأي فيها بسب كثافة الإقبال عليها، في حين كان المسلمون يتظاهرون في شتّى البلدان الغربية لإحساسهم بالمهانة والإهانة لأنّ الأمر يتعلّق بشخصيّة النبيّ (ص) وأصول الإسلام.
حصلتُ على الرواية أخيراً وحاضرتُ عنها كثيراً، وكان الأمر صعباً جدّاً. صعب ليس لأنّ جمهرة المثقّفين التي استمعت إليّ لم تفهمني أو أدانتني. على العكس كانت الأكثرية تعذرني باعتباري مسلماً، إنّما كيف يمكن الوصول إلى الإنصاف والتوسّط بين المقولة الغربية القائلة بالحقّ المطلق في حرّيّة التعبير، وعدم التعرّض بالازدراء لعقائد الآخرين وأديانهم وثقافاتهم؟
ذوو الثقافة الاستشراقية من المستمعين إليّ في جامعتي بون وفرانكفورت كانوا مهتمّين برأيي في الأصل التاريخي لآيات الغرانيق المزعومة. وكنت أرى أنّها قَصصٌ موضوع (أحاديث مفبركة) لكنّه شديد الجاذبيّة لدى مبشِّري المستشرقين والروائيّين. وكان من حسن الحظّ أنّ البروفسور شتفان فيلد المعنيّ بدراسة النصّ القرآني (عقد عام 1996 مؤتمراً عن القرآن بعنوان: "القرآن باعتباره نصّاً")، وكان وقتها أستاذ كرسي العربية والإسلام بجامعتَيْ بون، كان له الرأي ذاته فحاجج طَلَبَته طويلاً استناداً إلى الأسانيد الضعيفة لمرويّات الموضوع. لكن تبقى المسألة الأخرى قبل حرّية التعبير وتتّصل بالخيال الروائي. فرشدي لم يبالغ كثيراً في تصوير البيئات الداعرة بمكّة، وإنّ النبي (ص) كان جزءاً منها فقط، بل أدخل فيها أيضاً زوجات النبي، ومنهنّ عائشة التي لم تكن قد وُلدت بعد! وهذا يعني أنّه تخيّل العكس تماماً من الـ Norm الأخلاقي الذي كان سائداً بشأن الشرف والعفّة والكرامة لدى قريش بعامّة، ولدى بني هاشم بخاصّةٍ. وهكذا فإنّ الرواية فيها هدم لشخصيّة النبيّ التي تصوَّرها غائصةً في كلّ الموبقات، وهي هدمٌ بالتالي لرسالة الإسلام وأصوله التي تدعو إلى عكس مزاعم رشدي الروائية تماماً.
عقدة رشدي وأصوله
كانت عقدة سلمان رشدي في رواياته الأربع الصادرة قبل العام 1988 وأعماله الكتابية الأخرى هي نفس عقدة الروائيّين الأفارقة والهنود والعرب: الاستعمار، والديار المتروكة فقراً وخراباً بعد جلاء المستعمرين عنها (الهند، بلده الأصليّ)، ثمّ التمييز ضدّه وضدّ أمثاله من الذين هاجروا إلى بلدان مستعمريهم السابقين. وهي العقدة ذاتها لدى بول سوينكا الإفريقي الحاصل على جائزة نوبل في الآداب منذ مدّة، وكذلك عبد القادر فردح الزنجباريّ التانزانيّ الحاصل على الجائزة ذاتها للعام 2022. لقد اتّجه تفكير سلمان رشدي إلى الانتقام من أصوله بعدما انتقم من مستعمري أمّته عندما كان يسارياً متحمّساً. ووقتها كان الاتحاد السوفياتي متّجهاً نحو النهاية، وكان الأميركيون والبريطانيون شديدي الاعتزاز بالإنجاز العظيم: انتصار الديمقراطية ذات الأصول اليهودية – المسيحية. وفي الوقت نفسه بدأ الحديث عن الخصم الأخير لانتصار الغرب: الإسلام الذي يملك تخوماً دمويّةً (بحسب تعبير صامويل هنتنغتون، 1993). ولذلك اعتبر رشدي أنّه بعمله هذا ضدّ النبيّ والإسلام، وهو من أصول إسلامية هندية، يحرّر نفسه من تلك الأصول الأسطورية غير المشرِّفة، ويؤدّي خدمةً للغرب الذي يرغب بشدّة بالاندماج فيه، بدون تمييزٍ ولا تفرقة إثنية أو دينية. وقد نجح في الأمرين: فالرواية لم يقرأها في طبعاتها العشر أكثر من ألف مسلم، لكنْ قرأها أكثر من 2 مليون غربي وآسيوي وإفريقي، وصار الرجل مدعوّاً إلى كلّ منتديات اليمين واليسار بعد خروجه من اختفائه. وإنّما اعتمد المسلمون في حكمهم السلبي عليها على فتوى الزعيم الديني الإيراني بقتل رشدي.
حظيت الرواية باستحسانٍ غربي هائل ومن اليمين قبل اليسار. وزادت شعبيّتها وشعبيّة رشدي بعد فتوى الخميني مطلع العام 1989. صار لحرّية التعبير وبطلها سلمان رشدي القِدْح المعلَّى، وحصل على عدّة جوائز، وشرّفته ملكة بريطانيا. وكتب عربٌ كثيرون عارضين لذاك الفنّ الروائي الذي صار يُسمّى "الحقائق الاعتبارية". وزاد الطين بِلّة اليساري المعروف والأستاذ الجامعي الراحل صادق جلال العظم الذي أصدر كتاباً ضخماً في نُصرة رشدي استناداً إلى أعماله السابقة على الرواية بحجّة أنّها تتضمّن نقداً شرساً للاستعمار وخطاباته وليبراليّاته المزعومة. وحتى رواية رشدي اعتبرها العظم تحرّراً من الأساطير الدينية. لكنّه مع ذكائه وثقافته الشاسعة لم يتنبّه إلى أنّ رشدي في تلك الرواية يغيِّر اتّجاهه إلى العكس وينشد الانضمام إلى الذين أدانهم من قبل. فعين الرضا عن كلّ عيبٍ كليلة. والليبرالية ذات وجهٍ واحدٍ ولا تملك أوجُهاً متعدّدة!
فتوى غير حكيمة
ما كانت فتوى الخميني ملائمة أو حكيمة على الرغم من مبرّراتها. وإلّا لكنّا ملزمين بقتل كلّ بارزٍ تعرّض لديننا أو رسولنا وهم لا يُحصَون عدداً اليوم. وهي تجافي الحكمة، لأنّها لا تنظر في الآثار السلبية على المسلمين في الغرب.
وتأمّلوا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي زعم يوم السبت في 13/8/2022 أنّ رشدي يمثّله ويتوحّد معه في شخصٍ واحد. أنت وشأنك يا رجل في كراهية الإسلام، إنّما ماذا تقول لستّة ملايين فرنسي مسلم أنت رئيس دولتهم؟! وهكذا فإنّ الإسلاموفوبيا ما تزال غالبةً على كلّ اعتبارٍ آخر حتى المصلحة السياسية. وهذه المحاولة ضدّ رشدي التي قام بها فيما يبدو أحد أنصار فتوى الخميني، ستزيد السُعار والتسعير ضدّ الإسلام، وتعصّب المسلمين.
لا أريد التخفيف من ارتكاب سلمان رشدي وخياله الروائي الفظيع. لكن أودُّ التذكير بمحاولة روائية أُخرى عربية لنجيب محفوظ كتبها عام 1959 بعنوان: "أولاد حارتنا". وبعد نشر حلقتين في صحيفة الأهرام أُوقفت، ثمّ جرى نشرها في بيروت. لكن في العام 1993 قام شاب متعصّب لم يقرأ الرواية بالطبع بطعن نجيب محفوظ الشيخ العجوز الهزيل. وموضوع "أولاد حارتنا" فكرة الألوهية وتطوّراتها عبر الأجيال من خلال عيش أجيال متعاقبة في حيٍّ من أحياء القاهرة الشعبية، كما في معظم روايات نجيب محفوظ، يحكمه شيخٌ كبير ما رآه أحد لكن كان الجميع على اعتقادٍ بوجوده وتأثيره.
انتشار الشذوذ الروائي
إنّ الغرض من إيراد مَثَل نجيب محفوظ المشابه قولُ عدّة أشياء: إنّ الشذوذ الروائي موجود في كلّ الثقافات، وإنّه فيها جميعاً يكون محرّضون يثيرون الجمهور، وقد يرسلون أحداً أو يوحون لأحد بقتل كاسر مزراب العين، وإنّ نماذج الكتب والروايات التي تتصدّى لعقائد دينٍ معيّن مهما كان الكاتب كبيراً تبقى غير مؤثّرة بتاتاً في جمهور ذلك الدين، بعكس ما زعم صادق جلال العظم وسلمان رشدي نفسه (!). فقد قرأت قبل أسبوعين كتاباً عن حياة المسيح يقول إنّه لا وجود تاريخياً له، وإنّه هو الكتاب عن الموضوع الذي رقمه 1176، وهو كتبه لأنّ عنده أدلّة نفيٍ جديدة! وأنا أزعم أنّه مثل كل الكتب السابقة منذ أرنست رينان، لن يؤثّر في تصديق المؤمنين وإيمانهم، لكنّه يؤلمهم ويُشعرهم بالإهانة.
إنّما أخيراً وليس آخِراً كيف التوفيق والإنصاف بين حرّيّات التعبير ومشاعر جمهور المؤمنين؟! هناك من يريد بقاء هدوء الجمهور وطمأنينته إلى ما اعتاد عليه، بعدم التعرّض لمقدّساته. وهناك من يرى أنّ "الإبداع" ولو كان عبثيّاً هو الكفيل بالتحرّر والتغيير!
وفي مثل هذه الحالات، وسواء أكان القارئ المثقّف مؤمناً أو غير مؤمن، لا يستطيع البقاء على الحياد أو التزام الصمت بحجّة أنّه غير معنيّ. وكما في المرّة الأولى عام 1988 شعرت بالحاجة إلى التعليق، وكما ترون فقد علّقت، لكنّني أعترف أنّني اعتمدت على الذاكرة، إذ لم أتحمّل قراءة الرواية من جديد، مع أنّها عندي من ذلك الزمان! لقد ذهبت إلى أنّ الإنصاف غير ممكن، إنّما غير الممكن أيضاً الصبر الدائم على تلقّي اللطمات من جهاتٍ مختلفة دونما إمكانيّةٍ للردّ أو الدفاع. إنّه الغضب العاجز بعلّة واقعاتٍ تنصبُّ علينا من كلّ صوبٍ دونما اهتمامٍ لا بالمشاعر ولا بالمصالح. لقد قال لنا مثقّفونا الكبار إنّه حيل بيننا وبين الدخول في الحداثة بسبب تشبّثنا بالموروث. لكنْ أعداء الموروث منّا لا أظنّهم كانوا مرتاحين آنذاك والآن، إذ ما علاقة الحداثة قبولاً أو رفضاً بالصبر على التعرّض للكرامة، وبخاصّةٍ إذا كانت دينية.