الأب حبيقة عن فاجعة كربلاء: دعوة لتنقية الذاكرة

  • شارك هذا الخبر
Wednesday, August 10, 2022

ألقى النائب العام في الرهبانية اللبنانية المارونية والرئيس الفخري لجامعة الروح القدس - الكسليك الأب البروفسور جورج حبيقة خطاباً في مراسم عاشوراء في الجمعية الخيرية الإسلامية العاملية، راس النبع، أكد فيه أن "مأساة كربلاء هي محاولة يائسة لإلغاء حرّية الرأي والموقف، واستبدالها بفرض الفكر الواحد وإرساء مبدأ وحدة الشكل وإلغاء الفروقات".





وقال حبيقة: "اسمحوا لي أن أسوق أسمى آيات الشكر إلى منظمي يوم العزاء هذا، على دعوتي إلى المشاركة في الاستذكار الأليم لواقعة كربلاء في العاشر من محرم، عام واحد وستين للهجرة الموافق سنة ست مئة وثمانين ميلادية، فإن مقتلَ الإمامِ الحسين بن علي وأصحابه ورجال أهل بيته يدعونا إلى التفكّر ملياً في تاريخ البشر الكئيب والصراع الدهري بين ثقافة الحياة والمحبّة والتلاقي والتحاور والمعروف والصبر والتضحية والحرّية والعمل الدؤوب على الإصلاح المستدام وإحلال العدالة والسلام والرحمة والمساواة، من جهة، والإدمان على منطق العنف والقتل والقهر والاستبداد والظلم والتهميش والإلغاء، من جهة ثانية".

وسأل: "في أُولى صفحات سفر التكوين في الكتاب المقدس، يطالعنا مشهد مأساوي ومروّع لبدايات البشرية: قايين يقتل شقيقه هابيل، وهنا نسأل بحق هل الإنسان مفطور على العنف والتذابح والتناحر، ومدمن على إلغاء من يعتبره عائقاً أمام طموحاته وحائلاً بينه وبين أحلامه؟".







وأردف: "قام بعض الباحثين في أسباب اندلاع الصراعات الدموية وتداعياتها الكارثية على المجتمعات البشرية، باقتطاعٍ اعتباطي لثلاثة آلاف سنة من تاريخ البشرية، فوجدوا أن البشر في تلك الفترة الزمنية تمتعوا فقط بمئتين وإحدى وسبعين سنة سلام، للوهلة الأولى يغتبط القارئ ويذهب إلى القول إن تاريخ الانسان ليس كلُّه حافلاً بالحروب، فهناك، فسحات زمنية ترفل في الطمأنينة والهناء والسلام، غير أن من يتابع الدراسة تلك، تصدمه وتهزّه الحقيقة المرّة التالية: إن هذه السنوات التي تسرّعنا في اعتبارها سلاميّة، كانت بالفعل تحضيراً دؤوباً وجاداً ومستمراً للحروب، ففي الواقع، لم يـُخطئ من قال إن الشعوب السعيدة لا تاريخ لها، لأن المستلقي في حضن السعادة يهنأ بهذه الحالة الطوباوية ولا يكتب شيئاً، ولكن نسأل هنا، هل هناك من شعوب لم تكتب تاريخها؟ كلا، جميع الشعوب كتبت تاريخها، وتحلُّقنا العزائي هذا خير دليل على ذلك، فإذاً جميع الشعوب تعيسةٌ وحزينةٌ ومنتحبة".





وسأل: "ويبقى السؤال الذي يقض مضجعنا: لماذا الانسان حوّل الزمن الذي أعطاه إياه الباري ليسعد فيه في التّحاب والتآخي والتضامن والتكامل، إلى تاريخِ فواجع؟ ألا يكفي التصدي للأمراض والأسقام، ومواجهةُ الطبيعة عندما تغضب وتتزلزل، وتزبد وترغد سيولاً جارفة ومدمّرة؟ ألا يكفي كل هذا لكي ننصرف باندفاع مسعور إلى التعدي على ذواتنا بحروب عبثية ومدمرة لمدننا وحواضرنا وأوطاننا وثقافاتنا وإرثنا وحضاراتنا؟ كيف لنا أن ننقذ الانسانَ من منطق العنف وإيديولوجيّة الحرب والتقاتل؟ نتغنى جميعا ونتباهى أن شرقنا التاعس مهبطٌ للوحي الإلهي. لنعد إلى ذلك التراث الروحي العظيم والتراكمي والمكثف في العائلة الابراهيمية، إن هناك تشديداً بيّناً في الكتاب المقدس وفي القرآن الكريم على أن الله إنما هو في جوهره المطلق محبةٌ ورحمة، وفي الآية الأولى من سورة الفاتحة، لا نجد في تحديد جوهر العزّة الإلهية غير الرحمة، إن الله رحمانٌ رحيم، لا مكان فيه لقوة أخرى، جبروته الإلهي يتمظهر حصراً في كثرة الرحمة وطاقة المحبّة والشفقة والغفران، من هنا العنف المقدّس يتنافى كلياً مع جوهر الله، فالعنف لا يمكن أن يكون مقدّساً وما هو مقدس ليس بوسعه أن يداني العنف، لأن المقدّس لصيق بجوهر الله المحبّة والرحمة".





وتابع: "إن فاجعة كربلاء إن هي إلا تغليب لمنطق العنف وإلغاء الآخر والفكر الآخر، وإسقاط مدو لمبدأ الشورى، مبدأ التحاور وأخذ الرأي والسعي إلى بلورة رؤىً مشتركة، بعيداً من أسلوب الشدّة والغلظة، فلفظة حوار في اللغات الأجنبية تتحدر من المفردة اليونانية dia logos التي تعني من خلال الكلمة، أي على الإنسان أن يعالجَ جميع شؤون حياته عبر الكلمة التي وحدَها تتآلفُ بشكل كامل مع جوهره الإنساني ومع علاقته بربّه وباريه، بالنسبة للإنسان العلائقي، لا شيء يعلو على الكلمة أو يسمو عليها، فإنها البداية والنهاية، من هنا أي إسكاتٍ أو إخراسٍ للكلمة وأي لجوء إلى العنف إنما هو هزيمة نكراء للإنسانية التي ننتمي إليها، فالشورى والإنسانية متلازمتان لا تنفصلان".

وأعلن أن "الحرّية هي وحدها التي تجعل من الكائن البشري إنساناً، والحرّيةُ تتجسّد في خيارات متعدّدة، لذا من يتوهّم أنه بصهر الرؤى والطروحات في بوتقة الفكر الأحادي والشمولي، وبالإكراه على تبني موقف واحد وسياسة واحدة، يحقّق علنا ما خطّط له سرا في قلبه، لن يتأخر طويلاً حتى يُدركَ بمرارة أن لا قيمة لأيّ شيءٍ إن لم يكن ممهوراً بالحرّية غيرِ المنقوصة والاقتناع الكامل، وحيث الحرّيةُ هناك التعدّدية. عملت فاجعةُ كربلاء على قهر الحرّية وترويضها جبرا، وعلى إلغاء مبدأ التنوّع، فلم تستطع إلى ذلك سبيلا، لأنها النقيضُ لمشيئة الباري في مخلوقاته ومبروءاته".





وتابع: "التنوّع هو أساسُ الوجود والمجتمعات، لننظر إلى الطبيعة وما تحتوي من صنوف مذهلة من الكائنات الحيّة والجامدة، لننظر إلى مجموعات المجرّات في الفضاء اللاّمتناهي التي تُذهِبُ عقلَنا بسحرها وتنوعها. إن مبدأ الفرادة يتحكم في مبروءات الله كافة، وعلمُ الوراثة يُثبتُ اليوم بشكل قاطع أنّ كل إنسان، حتى ضمن العائلة الواحدة، إنما هو فريدٌ من نوعه، لم ترَ البشريةُ مثله من قبل ولن ترى مثيلا له من بعد، يستنتج مما سبق أن كلَّ سعي إلى إلغاء الفروقات الطبيعية يصب حتما في مخطط تعطيل القوانين التي وضعها الخالق في أساس الوجود، والقرآن الكريم يشدّد على أهمية قبول الآخر وفكره المختلف واحترام التنوّع واستيعابه ضمن العائلة الواحدة والمجتمع عينه ومع جميع الحضارات والثقافات الأخرى، فها هي الآية الثالثة عشرة من سورة الحجورات تشدّد عل التنوّع العرقي والقومي وتنادي البشر قائلةً: يا أيها الناسُ إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا، تقابلُها الآية الثانية والعشرون من سورة الروم التي تظهر عظمة الخالق في التنوّع اللّغوي والاثني: ومن آياتِه خلقُ السماواتِ والأرضِ واختلافُ ألسنتِكم وألوانِكم إنَّ في ذلك لَآياتٍ للعالـِمين".

وشدد على أن "الانصهار هو النقيض لنواميس التنوّع التي وضعها اللهُ، في أساس الوجود الحسي. إن الانصهار مصطلح يستعمل، أصلاً وحصراً، للمعادن التي تدخل متنوّعةً إلى الأتّون لتخرج منه شكلاً واحداً ولوناً واحداً وتركيباً كيميائياً واحداً، فالمجتمعات المؤنسنة لا تعيش مطلقاً هذه الحالةَ الانصهارية المذوّبة لحقّ الآخر في الاختلاف، وليست أوطاننا وبلداننا مشروعاً كربلائياً، بل دائماً مشروع مألفةٍ إنسانيّةٍ ووطنيّةٍ بين عائلاتٍ روحيّةٍ ومجموعاتٍ إثنيّةٍ وثقافيّةٍ وحضاريّة، على شاكلة وحدة الجسد القائمة على التكامل الوظائفي بين خلايا وأعضاءٍ لا يجمعها إلاّ الاختلافُ في التآلف".







وأردف: "كما كانت الفلسفات اليونانيّة تنطلق من هيكليّة الجسد البشري لتضع تصوّراً لأكمل تصميمٍ إداري للمدينة الفاضلة والمثاليّة، كذلك علينا أن ننظر إلى سر الحياة الذي يأخذ من جسدنا الحي مدىً مميّزاً لتمظهره. هل أمعنّا النظرَ في وظيفةِ كلِّ عضو وكلّ خليّة، وكيف يتمُّ التكاملُ والتناسقُ في التمايز؟ إذا انصهر جسدُنا وأصبح عضواً واحداً، هل يبقى حياً؟ ألا تهجره الحياةُ وتدعُه أشلاءً هامدةً ترتعُ فيها سكينةُ الموت؟ هل نريدُ لمجتمعاتنا خطرَ الحياة في التنوّع، أم طمأنينةَ الموتِ في الانصهار ووحدة الشكل؟ الحياةُ لا تسكنُ إلاّ في التنوّع، والموتُ لا يقيمُ إلاّ في الأحاديّة، وخارجَ التنوّع موكبُ جِنازةِ الحياة".





وختم الأب حبيقة: "إن فاجعة َكربلاء تدعونا اليوم قبل الغد إلى حتمية تنقية الذاكرة. إن تنقيةَ الذاكرة لا تعني البتة النِسيانَ وفُقدانَ الذكرى. بل على العكس تماما. في عملية تنقية الذاكرة، ينبغي أن نتذكّرَ الماضي في كامل تفاصيله وجزيئياته الكارثية والمسبِّبات المباشرة والبعيدة للمصائب التي حصلت، لكيلا نسمحَ لهذا الماضي الموجع أن يتسلّلَ مجدّدا إلى حلبة الحاضر. بغيةَ تشييدِ مستقبل على أسس الكرامة البشرية والعدالة والمساواة والسلام والمحبة، يجب أن نلجمَ الماضي ونعطّلَ مفاعيلَه وارتداداتِه. فالماضي يزمجرُ أبدا ويتوعّد. إذا ما حجرنا أنفسَنا في دائرة الإصغاء إلى آخات الماضي الأليم، نكونُ كمن يدورُ على نفسه في حلقات مفرغة وعبثية. وعندها يتحوّلُ الآتي من الأيام إلى ماضٍ مستدام، يتوالدُ أبدا من ذاته في حضن الفواجع. ليس من الممكن أن نبنيَ مستقبلا لأجيالنا القادمة إذا ما اعتقلناهم في زنزانات الماضي وبلاياه. لنعد إلى رحاب الماضي، ولكن لكي نتجاوزَه وننطلقَ منه بعزم وعِناد إلى زمن جديد، مغايرٍ ومختلف، يقوم على الأركان التالية: إن الآخر المختلف إنما هو الطريقُ إلى ذاتي، ولولاه، لما استطعتُ أن أعيَ ذاتي في غيريتها. وجودُه يحدّدُ هُوِيَّتي. أنا آتٍ من الآخر. ولا يمكن أن أبنيَ سعادتي على حطام الآخر. فالآخرُ هو شريكٌ وجودي في كلّ شيء، في السرور والاغتباط والهناء، وفي الوجع والأسى والتعاسة. وكلُّ سعيٍ إلى تطويع الآخر وتهميشِه ثم إلغائه هو تدميرٌ للذات وانتحارٌ جماعي. إن كربلاءَ المتّشحةَ السوادَ تستصرخُنا اليوم، نحن أبناءَ وادي الدموع، حتى ننفضَ عنا رمادَ الماضي المغمومِ وندشّنَ حضارةً جديدة تُنبتُ السلامَ الدائمَ وتـُخصبُه في مساحات المحبّةِ والرحمة، والحريّةِ والشورى، والتّحاب والتآخي، والفرح والسعادة".