د. هشام الأعور- “فلسفة العدالة”

  • شارك هذا الخبر
Wednesday, August 10, 2022

“قاض عشق العدالة حتى الثمالة..

ملأت الأرض قسطا وعدلا،

فجاروا عليها ظلما وغدرا”.

القاضي عرفات شمس الدين.

مع تطور حياة البشرية وانتقالها من الحياة البدائية الى الحضارة والتمدن ، اذ بدأ الانسان بالكتابة والتوثيق برزت الحاجة لقوانين وتشريعات وانظمة تضبط حياته ، وبدراسة تاريخ الحضارات نجد ان القانون الذي يمثل روح العدالة قد شكل اسس الحضارة القوية ، وغالبا ما ارتبط مفهوم العدالة بالنور والتوازن والقوة في ذهن الانسان القديم.

منذ فجر التاريخ كان يرمز للعدالة بامرأة معصوبة العينين تحمل ميزانا وسيفا. وقد استخدم هذا التعبير عبر قرون متعددة وحضارات مختلفة ومتباينة وذلك لدلالته القوية ومعناه الواضح. وقد ذهب بعض الفقهاء والفلاسفة إلى تفسير كون المرأة معصوبة العينين لان العدالة تقتضي المساواة بين الخصوم دون أدنى تمييز بينهم. أما الميزان الذي تحمل؛ فيه إشارة إلى احقاق الحق وفق القانون مع تقديم الخصوم لادعاءاتهم ودفاعاتهم لتحكم العدالة في ما بينهم لاحقا. بينما السيف يشير إلى العقوبة الرادعة للجاني والاقتصاص منه لتعيد العدالة بذلك الأمور إلى نصابها والنتيجة اعادة كفتي الميزان لتكون متساويتين بعد ان ارتكب المجرم جريمته فسبب اخلالا فيها. أما عن كونها امرأة وليست رجلا فهي للإشارة انه رغم وجود السيف والميزان الا ان الرحمة موجودة في هذه العدالة كون قلب المرأة ارحم من قلب الرجل.

وأبرزالأمثلة على اهمية العدالة في حياة البشرية تلك التي تعود الى حضارتي بلاد الرافدين ومصر القديمة، اذ يزّبن مسلة حمورابي نقش يمثل اله الشمس جالسا على عرشه يسلم بيده اليمنى ادوات القياس للملك حمورابي. وفي مصر القديمة كانت ربة العدالة (ماعت)تمثل كل معاني الحق والصدق والعدل والنظام، لتحكم بريشتها في كفة الميزان مقابل قلب المتوفى في الكفة الأخرى.

تشكل العدالة رابع الفضائل الاربع المسلم بها في الفلسفة اليونانية التي وردت في كتاب الجمهورية لأفلاطون وهي: الحكمة والشجاعة والفضيلة والعدالة. اما الأصل اللغوي لهذه الكلمة فهو والتي تشير الى الحق.

لغوياً فإن مفهوم العدالة من المفاهيم التى تحمل دلالات متعددة فى اللغة العربية. فعلى العكس من لغات الحضارة الغربية التى تعرف المفهوم فى لفظ العدالة فقط، تعرف اللغة العربية المفهوم فى مجموعة من المترادفات، فالى جانب العدل والعدالة هناك الإنصاف والنصفة والقسط والقسطاس والوسط والقوام وهى مفاهيم تشير الى معنى العدالة فى دلالات متعددة.

القسط: هو العدل البيِّن الظاهر، ومنه سمي المكيال قسطًا، والميزان قسطًا؛ لأنه يصور لك العدل في الوزن حتى تراه ظاهرًا، وقد يكون من العدل ما يخفى، ولهذا قيل: “إن القسط هو النصيب الذي بينت وجوهه” .

وأصل كلمة justice لاتيني فهي مشتقة من كلمة justitia وتعني خاصية أن تكون عادلاً. وفي المعنى اللغوى لمفهوم العدالة أو العدل يمكن الإشارة الى مجموعة من المعانى. المعنى الأول، العدل بمعنى الإنصاف فى الحكم وعدم الظلم أو الجور فيه فيقال عدل عليه فى القضية فهو عادل والعادل هو واضع كل شئ موضعه وورد أيضاً أن العدل هى قيمة مقابلة للظلم. ويتمثل المعنى الثانى للعدل بمعنى المساواة والإستقامة والتوازن.

وفي البحث عن منابع مفهوم العدالة، كثيرًا ما نتوجه إلى أرسطو. فقد اعتدنا تكرار أن أرسطو، ورغم عدم إعطائه تعريفًا عامًا للعدالة، فقد أبرز نوعين منها: العدالة المتساوية والعدالة التوزيعية.

بيد أن أرسطو لم يقتصر على هذا. يقول أرسطو: “إن العدالة تعد فضيلة من فضائل الدولة، أي ما يخدم المصلحة العامة”. ثم يعبر عن هذه الفكرة بالتعبير التالي: “المقصود بالصحيح المتكافئ مصلحة الدولة كلها والمصلحة العامة لجميع مواطنيها”. وهكذا، فالجانب الأهم من العدالة بالنسبة لأرسطو هو المنفعة العامة والخير العام. وإلى جانب ذلك، يركز أرسطو على علاقة العدالة بالمساواة، دون أن يجعل هذا المبدأ مطلقًا: “من حيث التصور العام، تعد العدالة نوعًا من المساواة”، ولها علاقتها بالفرد والشخصية. “فالمتساوون في الحقوق يجب أن يكونوا متكافئين في الملكية”. لكن العدالة قد تكون غير متكافئة: فالعدالة متساوية للمتساويين في الحقوق، وغير متساوية لغير المتساويين، “والعادل بالمطلق لا يمكن أن يكون إلا متكافئًا من حيث الاستحقاق”. “والمساواة بالاستحقاق” تعد شكلاً من العدالة التوزيعية، التي يجب أن تسود في مجال السياسة.

هذا، حسب أرسطو، أحد أهم مجالات تنفيذ العدالة. وبصدد الحديث عن العادل والسياسي، يتوجه باستمرار، قائلاً: “إن بناء الدولة الثابت هو البناء الوحيد الذي تتحقق فيه المساواة، حسب الاستحقاق، حيث كل فرد يستخدم ما يملكه”، إن الرائع والعادل بين الكائنات المتماثلة والمتساوية فيما بينها يكمن في التداول (تداول السلطة والخضوع)، لأنه يوفر المساواة، وبالمثل فانعدام المساواة بين الأفراد المختلفين والاختلاف بين المتساوين هما أمران منافيان للطبيعة، ولا يمكن لأي شيء مناف للطبيعة أن يكون رائعًا”.

ينطلق أرسطو من ضرورة قيام نظام سياسي عادل أو دولة عادلة، ويحدد علاماتها الجوهرية. ويقول بهذا الصدد: “إن السبب الرئيس لانهيار المدن والحكومات الأرستقراطية هو وجود حالات ابتعاد عن العدالة في بناء دولها”. ودون المماثلة بين العدالة وشكل معين من أشكال الدولة (رغم تفضيله الواضح لبناء الدولة السياسي)، يصيغ أرسطو مبدأ نظام الدولة الجيد، أي العادل:

“إن الوجود الأفضل، سواء لكل مدينة على حدة، أو للدولة ككل، هو ذلك النظام حيث تتوفر في الفضيلة الخيرات الخارجية لدرجة، يصبح نتيجتها من الممكن التصرف في العمل والنشاط وفق متطلبات الفضيلة” .

وبعد مرور أكثر من ألفي عام، دعا الفيلسوف البريطاني ي. بنتام هذا المبدأ في “المجلة الدستورية” التي يصدرها بـ “تطابق المصالح”: فالفضيلة في الدولة يجب أن تكون نافعة ومفيدة للمواطنين، وبخاصة للمسؤولين، ويجب أن تكون المؤسسات مبنية على نحوٍ، بحيث عندما يسعى الحكام لمصالحهم الخاصة لا يمكنهم أن لا يخدموا في الوقت نفسه المصلحة العامة، أو بحسب صيغة بنتام، تحقيق السعادة الكبرى لأكبر عدد من الناس. وقد كتب يقول أرسطو: “إن فضيلة الدولة لها أثرها من حيث أن المواطنين المشاركين في إدارة الدولة هم الفضلاء”، وأن الأهم لأي بناء للدولة هو “أنه يجب أن تسير الأمور فيها، عن طريق القوانين والأنظمة الأخرى، بحيث يستحيل على المسؤولين الإثراء”.

يعالج أرسطو مسألة العدالة أيضًا في كتابه الأخلاق الذي كتبه قبل السياسة. وقد أكد فيه أن “انعدام العدالة يكمن في أن يمنح الإنسان الحاكم نفسه القسم الأكبر من الخيرات غير النسبية والجزء الأقل من الشرور والأضرار غير النسبية، لهذا فإننا نسمح للقانون أن يحكم وليس للإنسان، لأن الإنسان سيحكم لصالحه وسيصبح مستبدًا”. ويقول أيضًا: “إن العدالة تكمن في خير الآخرين”.

لقد أرسى أرسطو أسس مفهوم العدالة: فالأنانية المفرطة غير عادلة، أما العدل فيكمن في الاهتمام بالغريب والآخر وفي الخير العام.

مثل هذه الأفكار تطورت أيضًا في العصر الحديث. فقد أكد الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، أن الهدف لأية دولة ولأي تشريع يجب أن يكون الخير الأكبر لجميع المواطنين. بيد أن مفهومه لـ”الخير العام” يختلف مبدئيًا عن أفلاطون منظِّر عدالة اللامساواة أو أرسطو نصير العدالة غير المتكافئة التوزيعية. وحسب مفهوم روسو، ينحصر خير الجميع (الخير العام) في أهم شيئين وهما: الحرية والمساواة”.

ويبني الفيلسوف كانط نظرياته في العدالة والأخلاق على احترام القريب، ومراعاة مصالحه. وهنا يكمن جوهر الأمر المطلق، الذي يشكل حجر الأساس في نظرية كانط في الفضيلة والحق. وفي أساسها يكمن، من حيث الجوهر، المبدأ المسيحي المعروف: أحبب لقريبك ما تحبه لنفسك.

أما الفيلسوف الفرنسي الاشتراكي برودون (1805-1865) فقد انطلق في تحديده لمبدأ العدالة من الالزام المطلق الكانطي، حيث يقول: “إن كل ما هو منطقي وعقلاني يمكن للحكمة البشرية أن تقوله حول العدالة، يكمن في القول التالي: تصرف مع الآخرين كما تود أن يتصرف الآخرون معك. لا تلحق بالآخرين ما لا تود أن يلحقه الآخرون بك”. وثمة تعبير آخر عن الفكرة نفسها يقول: العدالة هي “اعترافك للفرد الآخر بدرجة مماثلة لاعترافك بنفسك”. هذا هو مبدأ العدالة. أما تجسيده الواقعي لدى برودون، كما هو لدى جان جاك روسو، فهو المساواة. ويؤكد برودون أن هذين المفهومين متماثلان. علاوة على ذلك، المقصود بالمساواة، المساواة الفعلية وليست المساواة الشكلية. يقول برودون: “ماذا يعني أن نقيم العدالة؟ إنها تعني أن نعطي لكل فرد جزءًا متساويًا من الخيرات بشرط الكم المتماثل من العمل، وهذا يعني التصرف والعمل بما يتوافق مع مصالح المجتمع”. ويقول أيضًا: “ماذا تعني العدالة بدون تساوي الملكية؟ إنها ميزان بوزنات مزيفة”.

ومن بين منَّظري العقود الأخيرة الذين بحثوا هذه المسألة، اكتسب الشهرة الكبرى الباحث الحقوقي الاميركي جون رولز الذي نشر في غام 1972 ” نظريته في العدالة” وهي تقوم على مفاهيم الاستقرار الاجتماعي، والترابط، والكرامة، والمساواة، حيث اشار رولس إلى أنّ العدالة تتوقف على مدى استقرار المجتمع، وبالتالي ينعكس ذلك على معاملة الفرد معاملة عادلة ومنصفة، وفي حال حدوث الاضطرابات الاجتماعية والنزاعات والحروب فإنّ أفراد المجتمع سيتعرضون إلى المعاملة الظالمة وغير المتكافئة، ورغم كلّ هذا إلّا أنّ البشر متساوون في كلّ شيءٍ، فجميعهم يمتلكون الكرامة الإنسانية ذاتها، وبفضل هذه الكرامة يستحق الجميع المعاملة العادلة.

ان العدالة هي نتاج العلاقة بين الفرد والمجتمع، في حركيتها وتطورها الدائم، وهذا ما جعل العدالة في تطور دائم، لا يقف عند حد معين، وجعل المفكرين بها دائمِي البحث عنها منذ الزمن العتيق إلى غاية اليوم، حتى أصبحت حلمًا عزيزًا على النفوس وغاليًا، سمح لكل واحد أن يَبني تصوره من زاويته الخاصة، مع العلم بأن الالتزام بالحرية والمساواة، لا يؤسس دائما للعدالة، لأن العدالة تتطلب الانفتاح على حلول جديدة، وتكون أكثر علاجًا للواقع .

وانطلاقا مما قاله “هيجل”: إن العقل يجمع الناس والفهم يفرقهم، وما اعتبره “كانط” أن العقل يستحيل أن يدرك الشيء في ذاته، فيما يمكنه إدراك الظواهر، وهذا الإدراك للظواهر، الذي يشترك فيه كل فرد ممكنًا ، يمكننا القول أنه لا وجود لعدالة في ذاتها؛ لأننا لا نستطيع إدراكها، وكل ما يدركه العقل هو العدالة التي لا تكون مستقلة بذاتها؛ بل هي متمازجة بالحرية والمساواة والحق، ومتداخلة مع الحقوق والقوانين والتشريعات ، بغاية تحقيق الخير العام، وهي بهذا المعنى تصبح محور الانسان الذي يتطلع إلى ما هو أفضل في مستوى الحياة؛ فتراه يبحث عن المساواة الأفضل والحرية الأوسع، والحق الأوفر، وربما الواجبات أقل، لذلك؛ مرة تراه يسند العدالة إلى القانون، ومرة أخرى يسندها للحق .

نخلص للقول ، بان تحقيق العدالة يتوقف على بنية المجتمع الرئيسية، أو بعبارة أدق، الطريقة التي تحترم فيها المؤسسات الدستورية الدستور والانظمة والقوانين والحقوق الأساسية والتوزيع الملائم لمنافع المجتمع واعبائه اي ما يعرف بالعدالة الاجتماعية وتنظيم الحياة الاقتصادية والاجتماعية. وبذلك تصبح العدالة الحقيقية؛ وليس الشكلية بمثابة خدمة للمجتمع، وللخير العام، وهي تعني التوزيع العادل للمنافع والواجبات، واستبعاد الأنانية والمصلحة الشخصية مقابل المصالح العليا للوطن. إن العدالة الحقيقية هي الفضيلة الأولى للمؤسسات الدستورية والاجتماعية والاقتصادية، تمامًا مثل الحقيقة التي هي الفضيلة الأولى لمنظومة الفكر. ومهما كانت العدالة أنيقة وموجزة، يجب أن تخضع في كل مرة للرفض أو للتعديل، إذا لم تكن قائمة على الحق. وكذلك القوانين والمؤسسات، فمهما كانت فعالة ومبنية بشكل ناجح، لا بد من إصلاحها أو إلغائها إذا كانت غير عادلة.

إن كل فرد يمتلك حصانة قائمة على العدالة، وهذه الحصانة التي تعني الحرية، لا يمكن انتهاكها او التعدي عليها تحت اي ظرف من الظروف. ولا يُسمح أبدًا بأن تتحول مظاهر الفقر والحرمان والاقصاء والتهميش الذي اضطرت لمعاناته أقلية، أن يتحول إلى كم كبير من الصلاحيات والامتيازات التي تتمتع بها الأغلبية. وبالتالي، يجب أن تُحدد في المجتمع العادل حريات المواطنين وحقوقهم التي تضمنها العدالة، ويجب أن لا تكون مادة للاستغلال السياسي، أو لحساب المصالح السياسية.

إن العدالة الحقيقية، باعتبارها الفضيلة الأولى للعمل الإنساني، لا تقبل الحلول الوسط ولا المهادنة.