خاص- رئاسةً الجمهوريّة: لعنةُ الموارنة ونكبةُ المارونية؟- بقلم سليم بدوي

  • شارك هذا الخبر
Friday, July 15, 2022

خاص الكلمة أونلاين
مع اقتراب موعد الاستحقاق الرئاسي في لبنان، تُطرح التساؤلات من جديد: من هم المرشّحون لخلافة الرئيس الحالي؟ ما هي مواصفات الرئيس العتيد؟ من هو الناخب الأكبر داخل الجمهوريّة ومن خارجها؟ ما هي التحدّيات الكبرى المطروحة على أجندة الرئيس المقبل؟ ألخ...
ولكنّ السؤال الأهمّ يبقى: هل ستجري الانتخابات في موعدها؟ أم أنّ لبنان مقبلٌ على فراغ رئاسيّ جديد يُمعن في إفراغ هذا المنصب من بعض ما أبقاه له اتفاقُ الطائف من صلاحيات وامتيازات وسلطة وهيبة ويفتح الباب، وأخيراً، على ما ينتظر لبنان منذ حرب تموز عام 2006، ألا وهو تغيير النظام في ضوء متغيّرات الساحات اللبنانية والعربية والإقليمية والدولية. وبكل الأحوال، فإن الخاسر الأكبر من التقلبات المحتملة ستكون، مرّةً أخرى ودون أدنى شكّ، طائفة منصب ومقام رئيس الجمهوريّة اللبنانية.
وعليه، فإنّ الموارنة مدعوّون في هذه المناسبة، وعشيّة هذا الاستحقاق، إلى جردة حساب تاريخية، بتأمّل وتجرّد وصدق، لكي يستخلصوا العِبر من فشل أدائهم السابق، ليس في المحافظة على امتيازات أعلى مناصبهم في الجمهورية اللبنانية، وانما من إخفاقهم في تحقيق حلم الوطن المستقلّ السيّد والحرّ، وفي إنجاز مشروع دولة القانون القوية والعصرية بعد أكثر من مئة عام على إعلان لبنان الكبير. وبتعبير آخر: الدعوة مفتحة لاستخلاص العبر من العجز عن الانتقال بلبنان من الدولة الطائفية التي رأت النور في مطلع القرن العشرين نحو دولة المواطنة، خلاصة تعدّديته النموذجية في هذا المشرق.
قد ترتفع أصواتٌ لتقول تعليقاً على ما سبق إنّ الموارنة لا يتحمّلون وحدهم مسؤولية الفشل في تحقيق مشروع الوطن والدولة، وهذا صحيح. ولكنّ الموارنة الذين لطالما اعتبروا أنفسهم "أمّ الصَبي"، يتحمّلون الجزء الأكبر من هذه المسؤولية. فلقد تسلّموا مفاتيح دولة لبنان الكبير من بطريرك الموارنة الياس الحويّك. دولةٌ أشبه بحصنٍ آمن من أجل حماية حرّيتهم وضمان استقلالهم وحفظ هُويّتهم. ولكن، غداة هذا الإنجاز التاريخي العظيم، باشر الموارنة بتبديد ذلك الإرث الذي لا يقدّر بثمن. لقد بدأوا بتحويل المارونية إلى هُويّة متحجّرة وذهبوا إلى حدّ تسخيرها في حروب من أجل السلطة، فكان أن فقدت خصوصيتها الرئيسية، ألا وهي الحريّة ـ كما كان يردّد الأب ميشال الحايك. سبعون سنة كانت كافية للساسة والزعماء لتبديد تضحيات الأجداد الموارنة على مدى حوالي ألف ومئتي عام.
فبين سنتيّ 1920 و1990، انخرط قادة الطائفة المارونية فيما يصفه المطران سمير مظلوم بالصراع بين "القبائل المارونية"، فلقد ضحّوا بوحدتهم، مصدر صمودهم التاريخي في وجه أعدائهم، على مذبح تنافسٍ انتحاري وعبثيّ. لقد نسوا سبب وجوهر نضالهم، على مدى تاريخهم، من أجل العيش بحريّة دون خوف أو خطر. بات همُّ أغلبهم الوصول إلى السلطة ووضع اليد على مكتسبات وامتيازات العمل السياسي وجمع الثروات وحماية المصالح الشخصية والفئويّة ومصالح الأنصار والمحازبين. نسوا أو تناسوا قضيّة الطائفة وعلّة وجودها ومضمون رسالتها. كانوا منشغلين بنزاعاتهم الضيّقة وحروبهم الشخصية.
فمن التنافس بين بشارة الخوري وإميل إدة إلى الصراع بين كميل شمعون وفؤاد شهاب، ومن النزاع بين الكتائب بقيادة بيار الجميّل والمردة التابعة لسليمان فرنجية إلى المعارك الدمويّة في صفوف القوّات اللبنانية، ومن إرادة ميشال عون إلغاء سمير جعجع إلى قرار الياس الهراوي إنهاء حالة الجنرال المتمرّد، انتحرت المارونية كجزء صلب وموحّد من الشعب اللبناني مانحة، على طبقٍ من فضّة، خصومها الداخليين وأعدائها الخارجيين، كلّ الأسلحة اللازمة لتدمير إمكانات الحفاظ على كيان لبناني مستقلّ تماما. لقد شهد الموارنة، عاجزين، على "سقوط إمبراطوريتهم". كان انهياراً حتميّاً بسبب الأخطاء السياسية الفادحة والخطايا العسكرية الدموية التي ارتكبها قادتهم المتعاقبون.
لقد تسبّب السقوط التدريجيّ للإمبراطورية المارونية، منذ بدايته سنة 1920 وحتى اكتماله سنة 1990، لا بإضعاف المسيحيين، ككيان سياسي مؤسّس للبنان، فحسب، وانما أدّى أيضاً وخصوصاً إلى سحق حرّيتهم وانتهاك سيادتهم الوطنية. فلبنان الكبير، كما أراده الموارنة وتمّ إعلانه من جانب فرنسا، تمّ تشويهه إلى الأبد. من هنا، على الموارنة أن يستيقظوا، أن ينهضوا، قبل أن يتمّ ترحيل لبنانهم الكبير إلى متحف التاريخ. عليهم أن يطووا نهائيّاً صفحة "الحرب الأهلية المارونية" التي اندلعت غداة إعلان لبنان الكبير على شكل سباق مدمّر بهدف الاستيلاء على السلطة على رأس الجمهورية اللبنانية. آن الأوان لفتح صفحة جديدة في تاريخ العلاقة بين الموارنة أنفسهم على أساس العمل من أجل المصلحة العليا للجماعة المارونية دون أن يتعارض ذلك مع المصلحة الوطنية. على الموارنة أن يضعوا حدّاً نهائيّاً لانقساماتهم لأنّهم من دون ذلك لن يتمكّنوا من إسماع صوتهم. من دون وحدة وتضامن، لن يستطيعوا مواجهة المخاطر المحدقة بوجودهم وبالتالي بلبنان. فالكل يُجمع على أن لبنان لا يمكنه العيش من دون موارنته ومسيحييه. والإمام الراحل محمد مهدي شمس الدين هو من كان يقول "إن لبنان لا يمكن أن يظل على ما هو من دون مسيحييه...فهذا البلد هو مشروعٌ إسلاميٌّ ـ مسيحيّ". إذن، ما الذي يمنع المسيحيين، والموارنة تحديداً، من استعادة مكانتهم ودورهم، بقوة وفعالية، في إطار هذا المشروع المشترك. فإن كانوا لا زالوا متعلقين بوطنهم ومتمسكين باستقلالهم وحريتهم وهويّتهم، عليهم المبادرة بسرعة من أجل البدء بمواجهة الأخطار الفعلية التي تهدّد المصير كالهجرة والتراجع الديمغرافي وبيع الأراضي والانحسار الجغرافي والسلاح غير الشرعي والفساد والنازحين السوريين...
على الموارنة التخلّص أوّلاً من هذه اللعنة المتمثّلة بالسباق إلى رئاسة الجمهورية وما يمثّله هذا السباق، للبعض، من تناحر من أجل السلطة والنفوذ وتقاسم المغانم. على الموارنة، لأنهّم المعنيون الأول بهذا المنصب الدستوري، أن يعيدوا النظر بماهية الكرسي الرئاسي وأن يغيّروا علاقتهم برمزيّته، لأنه من غير المقبول أن تمثّل رئاسة الجمهورية اللبنانية بالنسبة للموارنة شيئاً آخر غير الضمانة الحقيقية، لا الوهمية، لحريتهم وكرامتهم. لا يمكن القبول بعد اليوم بأن تظلّ رئاسة الجمهورية مصدراً لانقسامات الموارنة وخلافاتهم وتراجعهم على الساحة السياسية الوطنية.
لقد آن الأوان عند الموارنة لتصحيح أخطاء الماضي واستخلاص العبر من أحداث التاريخ. لم يعد مقبولاً تكرار تجربة سنة 1989 من جديد، فسيناريو الثالث عشر من تشرين الأول مرفوض وعلى الموارنة أن يتذكروا ما حصل في ذلك اليوم المشؤوم وبعده. ففي ذلك اليوم، إنّ ما ضُرب وسقط كان القصر الجمهوري في بعبدا، ولكن من دفع الثمن السياسي الباهظ بعد ذلك فهم الموارنة وحدهم. وقد نتجت عن ذلك عمليّة تهميش مهينة استغرقت خمسة عشر عاما. ولذلك نقول آن الأوان لإعادة تحديد العلاقة ما بين الموارنة والجمهورية اللبنانية. بات من الضروري بالنسبة للموارنة أن ينكبّوا مجدّداً على الاهتمام بجماعتهم لكيلا يتحمّلوا وحدهم، مرّةً أخرى، عواقب الضربات التي توجّه إلى هذه الجمهورية.
مرفوضٌ أيضاً تكرار أداء القيادات المارونية بعد ثورة الأرز سنة 2005. فالانقسامات التي استمرّت ولاسيما بين التيار الوطني الحرّ وحزب القوات اللبنانية على مدى عشرة أعوام لم تستفد منها سوى القوى السياسية الأخرى، على حساب لبنان والمسيحيين، إلى الحين الذي شعر فيه سمير جعجع بخطر العودة إلى مرحلة ما قبل انتفاضة 14 آذار. فالجمهورية كانت بدون رئيس منذ نهاية ولاية ميشال سليمان سنة 2014، فيما الشركاء الآخرون في الوطن غير آبهين بضرورة ملء الفراغ في أعلى هرم الدولة. ما من أحد على الساحة الوطنية، باستثناء البطريرك الراحل نصر الله صفير، كان مهتمّاً أو معنيّاً بانعدام التوازن الطائفي والسياسي الناجم عن عدم انتخاب رئيس ماروني للجمهورية، فيما غالبية المرشحين الموارنة لهذا المنصب كانوا ينتظرون، وبخبث، إلغاء السيدين عون وجعجع، المرشّحين الأقوى والأكثر تمثيلاً في طائفتهما، من السباق الرئاسي على أمل أن يتمّ اختيار أحد هؤلاء القابعين في غرفة الانتظار كرئيس تسوية.
فأمام خطر استمرار الفراغ في سدّة الرئاسة، قرّر سمير جعجع أخذ المبادرة لوضع جميع الساسة اللبنانيين أمام مسؤولياتهم. وضع حدّاً لأكذوبة الذين كانوا يبرّرون عدم حماسهم لانتخاب رئيس للجمهورية بوجوب أن يتفق الموارنة فيما بينهم أولاً على اسم مرشّح واحد. فاجأ جعجع كل الطبقة السياسية وحتى الحلفاء فيها. لم يتشبّث بالمنطق القائل "أنا أو لا أحد". لم يتصرّف كما فعل إميل إدّة سنة 1932، عندما أقدم على تشجيع صديقه محمد الجسر على الترشّح لرئاسة الجمهورية بهدف قطع الطريق أمام بشارة الخوري.
ملتزماً بمسؤوليته الوطنية التاريخية، رافضاً العودة إلى القاعدة المعمول بها سابقاً والتي كانت تقضي باختيار مرشّح تسوية أو أي شخصية لا وزن لها على الصعيدين الشعبي والسياسي بهدف إزاحة كل مرشّح قوي من السباق الرئاسي، قرّر جعجع الانسحاب من هذا السباق لمصلحة منافسه الدائم على اعتبار أن ميشال عون كان يجسّد، بنظر رئيس حزب القوات اللبنانية، القوة السياسية والتمثيل المسيحي والسيادة الوطنية، وهي الصفات التي يجب أن يتحلّى بها أي رئيس لبناني. فكان أن دعم جعجع ترشيح ميشال عون وسعى، من خلال اتفاق معراب (كانون الثاني 2016) إلى طيّ صفحة "حرب مارونية" طالت وكلّفت كثيراً.
كان قراراُ سياسيّاً واستراتيجيّاً صائباً في حينه، لأنه أثبت قدرة الزعماء الموارنة على ترجيح كفّة المصلحة العليا للطائفة والوطن عبر اعتماد موقف مشرّف يكرّس الوحدة والتضامن في الصفّ المسيحي، وهما الشرط الوحيد للدفاع عن حقوق الجماعة وشرعية الجمهورية. فتح قرار جعجع الطريق أمام عون إلى قصر بعبدا. رفع مجدّداً من معنويات المسيحيين وأثار الحماس والفخر من جديد داخل الطائفة المارونية. لم يُخطئ جعجع في خياره دعم ترشيح عون، خلافاً لما يعتقد كثيرون، لأنه اختار المصالحة والوحدة عوضاً عن الاستمرار في التصارع والانقسام. رفع شعار الأغلبية الساحقة من المسيحيين الداعي إلى توحيد الصفّ من أجل مواجهة أقوى وأفعل للتحدّيات المصيرية المطروحة. وقد تولّد لدى المجتمع المسيحي من جرّاء ذلك شعور عارم بالأمل في المستقبل لدرجة إثارة القلق لدى الأطراف السياسية الأخرى في لبنان، حلفاء ومنافسين وفي معسكريّ 8 و14 آذار، إذ لم ير هؤلاء في المصالحة بين التيار الوطني الحرّ وحزب القوات اللبنانية، المفيدة للمصلحة الوطنية، سوى عودة ما وصفوه حينها ب "محدلة" المارونية السياسية القادرة على الحدّ من الهيمنة التي كانوا يمارسونها منذ سنة 1990 على مختلف مراكز القرار على الصعيد الوطني.
وعليه، فإنّ الخطأ لم يكن في إعادة زرع بذور الوحدة والتضامن بين الموارنة والمسيحيين وانما الخطأ، كي لا نقول الخطيئة، كان في تبديد ثمارهما من جديد. مؤسفٌ كان الرجوع إلى مشهد التناحر والتفتّت بين "الإخوة الأعداء" بعد أشهر قليلة على انتخاب ميشال عون لرئاسة الجمهورية وذلك على خلفية الصراع العتيق المتجدّد من أجل السلطة. فشيطان منصب رئاسة الجمهورية، المحسوب على الموارنة، استأنف نشاطه واستعاد موقعه بسرعة على مائدة زعماء الطائفة. تفسّخت الجبهة المارونية من جديد وعاد التشاؤم إلى نفوس الموارنة وبخاصة في صفوف الشباب الذين باتوا يتساءلون "إن كانت هي اللعنة التي تطارد الموارنة منذ أن تقرر تخصيص منصب رئاسة الجمهورية لطائفتهم"؟ فهل بات ضروريّاً وملحّاً البدء بالتفكير في قطع "الحَبْل السُّرِّيّ" بين الموارنة ورئاسة الجمهورية اللبنانية من أجل إنقاذ المارونية؟ سؤالٌ برسم الحريصين على مصلحة الطائفة ولبنان. فالمؤكّد هو أنّ السباق إلى رئاسة الجمهورية بين العديد من الموارنة يشكّل أحد أسباب العلّة الرئيسية التي تعاني منها المارونية ويعاني منها لبنان منذ أكثر من مئة عام.
إنّ الجماعة المارونية مدعوّة اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، إلى إنجاز نهضة حقيقية تفرز جيلاً جديداً من الرجال والنساء لتسلّم زمام الأمور والشؤون العامة للطائفة. نخبةٌ جديدة تأخذ على عاتقها تحرير الطائفة من براثن الاقتتال الداخلي العقيم المتوارث والذي يشكّل أحد العناصر الرئيسية المسؤولة عن الوضع الكارثيّ الذي يعيشه الموارنة واللبنانيون حاليّا. أولى مهمّات النخبة الجديدة العمل، بجرأة وتجرّد، من أجل استبدال النظام القائم بنظام يضمن، للألف سنة القادمة، أمن وحريّة ورفاهيّة الطائفة واستقلالية قرارها. نظامٌ يعيد الأمل بلبنان ويضع حدّاً لنزيف هجرة أبناء الجماعتين المارونية والمسيحية. هذه النخبة الجديدة مدعوّة للضغط وبقوّة على الزعماء الموارنة لكي يستعيدوا دفّة الريادة لطائفتهم بدلاً من الركض وراء الطوائف الأخرى في الوطن على رأس قاطرات مُلحَقة بقطارات التيارات والأحزاب التابعة لتلك الطوائف. فمثلُ هذا الأداء انتحاريٌّ بامتياز يزيد من عمق الانقسامات ويحول دون انبعاث أي وحدة أو نهضة مارونية ليُسفر في النهاية عن استمرار التراجع حتى الانهيار التام. وفي هذا السياق لا بدّ من ذكر ما كتبه الأب ميشال العويط في "وصيتي إلى الموارنة" متسائلاً هل من قوّة ما قادرة على إعادة الموارنة إلى ما كانوا عليه سابقاً؟ وهل الإصلاح لا يزال ممكناً وما هو السبيل لتحقيقه؟
نضع أسئلة الأب العويط بتصرّف القادة وجميع الموارنة لأنّ الإجابة عنها ترسم ملامح مستقبل الطائفة بأسرها مع العلم أنه على مصير المارونية يتوقف مستقبل وطن بكامله. فالأخطار على حالها وكل العلاجات التي استخدمت حتى الآن لم تنفع سوى في تأخير أو تأجيل الضياع الكامل. من هنا أهمية الإسراع في القيام بمحاولة أخيرة لإنقاذ لبنان الذي هو، برأي البابا القديس يوحنا بولس الثاني، "أكثر من بلد بل هو رسالة من خلال تعدّديته". وإلا فلنركّز جهودنا، على الأقل، على إنقاذ الطائفة المارونية وحماية هُويّتها لكي تتمكن من الانبعاث يوماً على الساحة الوطنية. وأما بشأن النظام الجديد المرجوّ فهو يتطلّب تغييراً جوهرياً وجذريّا يأخذ بعين الاعتبار فعليّاً واقع المجتمع التعدّدي في لبنان. نظامٌ يُعبّر أفضل تعبير عن هذه التعدّدية ويحميها ضدّ أي محاولة للطغيان والتفرّد بالسلطة والقرار من جانب غالبية عدديّة أو أي شريحة متسلّحة بفائض قوّتها العسكرية.
لقد بات ملحّاً التفكير بنظام جديد يحفظ القيمة الأساسية للكيان اللبناني ألا وهي التعدّدية. فالدفاع عن التعدّدية وحمايتها والمحافظة عليها لا يصبّ في مصلحة الموارنة فقط وانما في مصلحة جميع اللبنانيين، والمشرق والعالم. وبما أن ميثاق 1943 قد دُفِن، واتفاق الطائف لم يثبت أنه قابل للحياة لأنه عجز، بعد أكثر من ثلاثين عاماً على توقيعه، عن ضمان الاستقرار والسيادة للبنان، عدا عن أنه فشل في تطوير نظامه السياسي ومؤسّساته ولم ينجح بعد في وضع حدّ لتواطؤ بعض القوى الداخلية مع دول وأنظمة خارجية على حساب المصلحة الوطنية، يجب على الموارنة خصوصاً، والمسيحيين عموماً، عدم انتظار اتفاق جديد برعاية الدوحة أو الرياض أو طهران أو باريس للتوصّل إلى حلول دائمة لأوجاع وأزمات لبنان.
من هنا السؤال: ألم يحن الوقت بعد لإعادة طرح مسألة الفدرالية دون الخوف من أن يُتّهم الموارنة بخدمة مصالح "العدو" أو بالدعوة إلى التقسيم؟ فالعمل من أجل لبنان فدرالي، أو في سبيل نظام يكرّس اللامركزية السياسية والاقتصادية والمالية، انما يعني الانطلاق في مشروع انقاذ يضمن قيامة وطنٍ للجميع، يضمن انبعاث لبنان ينعم بالسلام الدائم حيث تتعايش كل الطوائف فيما بينها بانسجام تام ودون أن تحاول أيٌّ منها، من حين لآخر، فرض هيمنتها أو سيطرتها أو أسلوب عيشها أو توجّهاتها وخياراتها السياسية وتحالفاتها الخارجية على الآخرين. النضال من أجل الفدرالية بات واجباً على الموارنة لأنه السبيل الوحيد الكفيل بمنح جميع فئات الشعب اللبناني الحقوق ذاتها ولاسيما حق اتخاذ قرار الحرب أو السلم، حق اعتماد خيار المقاومة المستدامة أو الاستقرار الدائم وما يولّده الاستقرار من رفاهية ونموّ. أما طرح الموارنة خيار الفدرالية فيجب أن ينبع من قناعة الذين قرروا وأخيراً استخلاص العبر من الماضي. فخلال السنوات الخمس والسبعين الماضية لم يعرف لبنان هناء الاستقرار بفعل انعدام وحدة أبنائه إلى أي طائفة انتموا.