العميد الركن نزار عبد القادر- فرصة لإعادة بناء الدولة واستعادة السيادة

  • شارك هذا الخبر
Wednesday, January 19, 2022

من يقرأ اتفاق الطائف والدستور الذي ولد من رحمه يُدرك مدى العقلانية السياسية والقانونية والإدارية التي تحلى بها واضعوه، متوخين وضع شرعة وإيجاد ارضية توقف الحرب وتؤسس لمصالحة وطنية، تسهّل بناء دولة مؤسسات، قادرة على استعادة سلطة القانون من مغتصبيها من أمراء الحرب. كما تحضّر لمشروع اقتصادي وإنمائي يُعيد إلى لبنان البحبوحة والازدهار. لكن وللأسف الشديد فقد عطّلت الوصاية السورية تطبيق الاتفاق والدستور من خلال استنسابية تؤمن المصالح السورية العليا، وفق الرؤية السورية بإبقاء لبنان ودولته مطيّة لخدمة الأهداف السورية السياسية والاقتصادية، ورهينة القرار السوري للابتزاز السياسي والدبلوماسي على المستويين الإقليمي والدولي.


كان أمل اللبنانيين كبيراً باستعادة روح الطائف، وتطبيق البنود الإصلاحية الكبرى التي نص عليها، وخصوصاً ما يتعلق منها بإلغاء الطائفية السياسية، وتطبيق نظام اللامركزية الإدارية والمالية والتي تشكّل الوصفة الناجعة لتأمين الإنماء المتوازن والعادل لجميع المناطق، بعد خروج الجيش السوري من البلاد، واستعادة حرية القرار ليد اللبنانيين.

لكن سرعان ما تبدّد الحلم، حيث تجمّع حلفاء سوريا واعلنوا رفضهم وثورتهم لقيام دولة لبنانية سيّدة وبقيادة حزب الله تشكّل معسكر 8 آذار الموالي لسوريا، والذي اثار ردّة فعل شعبية أدّت إلى ولادة معسكر 14 آذار، والذي دعا لتحقيق قيام الدولة المستقلة والسيدة والتي اعتبرت في حينه بمثابة إعلان للجمهورية الثانية.

لكن لم تنجح حركة 14 آذار في تحقيق الشعارات السيادية التي رفعتها، حيث ضربت ضغوط حزب الله والقوى المتحالفة معه كل الآمال باستعادة مؤسسات الدولة لاستقلاليتها وقدرتها على تأمين عملها للحفاظ على المصالح الحيوية، فكانت التجربة القاسية من خلال استعمال حزب الله لسلاحه لقلب كل المعادلة، وبالتالي فرض وصايته على كل الدولة بدءاً من مجلس الوزراء إلى تعطيل كل الاستحقاقات الدستورية بما فيها انتخاب رئيس للجمهورية، ووصولاً إلى فرض قانون للانتخابات يؤمن أكثرية نيابية لصالح الحزب وحلفائه، وبالتالي وضع لبنان إقليمياً تحت الوصاية الإيرانية، ودفع البلد تدريجياً إلى مواقف معادية للدول العربية، وخصوصاً المملكة العربية السعودية والدول الخليجية.

نجح حزب الله في الهيمنة على جميع مؤسسات الدولة اللبنانية في ظل عهد العماد عون، وهذا ما سهَّل له امتلاك الآليات اللازمة للهيمنة على جميع القرارات الاستراتيجية، في مقابل تأمينه حرية الحركة للتيار الوطني الحر لتحقيق كل المكاسب الممكنة، على حساب بقية اللبنانيين، من مسيحيين ومسلمين، وظهرت بوضوح قدرات حزب الله على تعطيل المؤسسات من خلال العمل السياسي الضاغط لتأخير تشكيل الحكومات وتعطيل عمل مجلس الوزراء في محطات عديدة، وذلك بدءاً من الحكومة الأولى التي ترأسها فؤاد السنيورة ووصولاً إلى حكومة حسان دياب، وحكومة نجيب ميقاتي الراهنة.

عطّل قرار حزب الله ومعه حركة أمل اجتماعات مجلس الوزراء منذ ثلاثة أشهر، وذلك بحجة تصحيح مسار التحقيق العدلي في جريمة مرفأ بيروت، وبعد اتهامه للمحقق العدلي القاضي طارق بيطار بتسييس التحقيق واعتماده الاستنسابية في مساره، واللافت في الأمر ضعف المؤسسات الرئيسية للدولة، وخضوع القيّمين عليها لإرادة حزب الله وتخليهم عن القيام بواجبهم الوطني لتحدي إرادة الحزب في التعطيل ولأسباب سياسية داخلية وإيرانية واضحة ومعروفة من الجميع، وهي تتناقض بشكل واضح وصريح مع كل المصالح الوطنية، كما انها تزيد من تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية وانعكاساتها المؤلمة على حياة جميع اللبنانيين، بما فيها البيئة الحاضنة لحزب الله وحركة أمل.

كان مسعى حزب الله وحليفه التيار الوطني الحر واضحاً ومؤثراً في تعطيل الإرادة الدولية لإنقاذ لبنان مالياً واقتصادياً من خلال مقررات مؤتمر «سيدر» القاضية بتقديم قروض مسهّلة ومساعدات تزيد عن 11 مليار دولار، لقاء تنفيذ عدد من الشروط الإصلاحية، كان لبنان وماليته العامة بأمسّ الحاجة إليها. ويبدو وفق مسار الأحداث بأن الحزب قد ساهم بدهاء في تعطيل كل قرارات الحكومة، وهذا ما أدى إلى تزايد النقمة الشعبية على الطبقة السياسية الفاسدة، والتي استغلها حزب الله لافتعال الحركة الاحتجاجية التي فجرت الثورة الشعبية، والتي سرعان ما ادرك حزب الله افلاتها من كل الضوابط، الأمر الذي استجوب الانقلاب عليها، بتوجيهه لقيام حركة شيعية متفلتة، من أجل كبح الحركة السيادية والاصلاحية العفوية، والمنادية بالاختصاص من الطغمة السياسية من خلال شعار «كلن يعني كلن».


بعيداً عن كل خلفية حزبية أو طائفية أو مذهبية يمكن اتهام حكومة نجيب ميقاتي بأنها تخضع لإرادة الثنائي الشيعي، وهي غير قادرة على القيام بأدنى وظائفها الوطنية والدستورية، ويدرك الرئيسان عون وميقاتي الأسباب الحقيقية الكامنة وراء تعطيل مجلس الوزراء، والتي تتركز على تعطيل العدالة، تمهيداً للسيطرة على السلطة القضائية، وإلى اسقاطها وتعطيلها بالكامل إذا لم تنجح محاولة السيطرة عليها من بوابة التحقيق في جريمة مرفأ بيروت.

بلغ استخفاف الثنائي الشيعي بمصالح الشعب اللبناني وتحقيق الحد الأدنى من كرامته، وخصوصاً ما يتعلق منها بتأمين لقمة العيش الكريم حده الاقصي من خلال التمنع علناً من المشاركة في جلسات مجلس الوزراء، وبالتالي تعطيل كامل للقرار الوطني سواء لما يعود لمنع تدهور قيمة النقد الوطني بصورة دراماتيكية، أو لما يعود لوضع الخطط الاقتصادية والمالية اللازمة لبدء مفاوضات مثمرة مع صندوق النقد الدولي، كنقطة بداية لإنطلاق المسيرة الإصلاحية الكبرى.

أدت ممارسات حزب الله القائمة على اعتدائه بسلاحه وبمائة ألف مقاتل، لدى الحزب وفق توصيف أمينه العام السيّد حسن نصر الله إلى الإخلال بكل الموازين التي أرساها دستور الطائف بتوزيع صلاحيات المؤسسات الرئيسية بين الموارنة والشيعة والسنة. فاستهدف الحزب من خلال الاعتداء بسلاحه وقوته العسكرية موقع رئاسة الحكومة، فحاصر رؤساء الحكومات بقرارات وتحركات نفذها على الأرض، حيث ترجمت مفاعيلها بتعطيل مؤسسات الدولة، بما فيها مجلس الوزراء، بالإضافة إلى تخريب علاقات لبنان بالدول الخليجية، وذلك انطلاقاً من اعتبارها بأنها تشكّل العمق الاستراتيجي للطائفة السنية ولموقع رئاسة الحكومة، وبأنه لا بدّ من التخلص من النفوذ السعودي والخليجي في لبنان، تمهيداً لإخضاعه كلياً للهيمنة الإيرانية.

بعد انكشاف الأهداف التي سعى حزب الله لتحقيقها منذ اغتيال الرئيس الحريري، وخروج الجيش السوري من لبنان، وحتى اليوم، حيث أعلن الحزب عن رفع قرار تعطيل اجتماعات مجلس الوزراء بشروط تتعارض مع صلاحيات رئيس مجلس الوزراء والذي اناط به الدستور صلاحية دعوة مجلس الوزراء ووضع برنامج وعناوين روزنامة جلساته، لقد فرض حزب الله على الرئيس دعوة المجلس للاجتماع مع تحديد موضوعين أساسيين للبحث وهما الموازنة وخطة التعافي المالي. وهنا لا بدّ من التساؤل عن الأسباب الكامنة وراء قراره هذا: هل جاء لوقف الانهيار الوطني المتسارع؟ أم أنه جاء نتيجة سماعه لأنين النّاس في بيئته الحاضنة بعد ان كواها الغلاء كسائر اللبنانيين.

في ظل حالة الظلم التي يعيشها اللبنانيون، لا بدّ من دعوتهم لتجديد انتفاضتهم وبالطريقة الديمقراطية، وذلك عبر عمليات الاقتراع في الانتخابات النيابية التي ستجري في شهر أيّار المقبل، والتي يفترض ان يعوّل عليها جميع المواطنين الإصرار كوسيلة لتغيير موازين القوى السياسية في لبنان، ومنع حزب الله من العودة بأكثرية نيابية لتسمح له بمزيد من التعطيل لعمل المؤسسات وصولاً إلى فرض هيمنته الكاملة على الدولة وإرادة اللبنانيين وتوظيفه لصالح المشروع الإيراني.

يملك اللبنانيون ما يكفي من العقلانية والحكمة ومن الدعم السياسي والمعنوي العربي والدولي ما يمكنهم من السير قدماً في عملية تغيير المعادلة الراهنة، تمهيداً لإعادة بناء دولتهم واستعادة سيادتهم الوطنية.