طرابلس والماضي الجميل - بقلم ليلى شحود

  • شارك هذا الخبر
Thursday, November 25, 2021

ليس بدافع حنين فحسب نستحضر الماضي او نستذكره امام الاجيال الواعدة ، وانما نفعل ذلك ايضا بغية الانتصار على مرارة الواقع بصور تثير مشاعر السعادة لدينا وتنير دهاليز الحزن في نفوسنا ... نفعل ذلك لكي لاننسى جميعا ان طرابلس الامس ليست هي اليوم ، وانها كانت قبلة المدن وعنوان الحضارة والرقي ... نفعل ذلك رغم ادراكنا ان لافائدة ترجى من الذكريات سوى ان للذكرى الجميلة الحافز لبذل الجهد في العمل وربما تكسبنا معجزة لإعادة كل او بعض ما ضاع وانكسر .

تأمل يا أخي ودع الذاكرة المعاشة والموروثة تستعيد لوحات رائعة من احضان مدينتي علها تكون مثالا لمن يريد ان يحذو حذو الجمال ، ويتبع خطاه ، ودع قوافل اللوحات تمر امام ناظرينا معا وكأنها اليوم في وهجها ووضوحها وحضورها الطاغي .

فهاهي الساحات الخضراء رمز الجمال والصفاء وراحة القلوب ، وهي بساط يرصع الطرقات بضروب النبات. وها هي النوافير تضفي على الامكنة وهج الضوء وثراء الالوان ويصدق فيها قول الشاعر :

"تحَطُّ فيها وُفودُ الماءِ مُعجَلَةً كَالخَيلِ خارِجَةً مِن حَبلِ مُجريها
كَأَنَّما الفِضَّةُ البَيضاءُ سائِلَةً مِنَ السَبائِكِ تَجري في مَجاريها"

مدينة أنيقة ، نظيفة ، متألقة تستسيغ العيش فيها ،وتستطيب السير الهوينى في سهلها وروابيها ، وبيوت تختال بقرميدها وبياسمين الدار ، وبسياج الورد ، وبنوافذ المندلون وأقواسها ، المفتوحة للافق والشمس والنور والحب ، مساحات من الود مترامية الابعاد ، من التل والنوري الى الرمانة والمهاترة ، الى قبة النصر والحدادين ، الى الزهرية والتبانة والسويقة وباب الحديد ، وبعل محسن ،الى كل الازقة والحارات والخانات ، والممرات الحنونة المتلاحمة البنيان والعمران ، والمتقاربة جوارا صالحا ، وعيش وفاء .

وبين الحيز والاخر تتوالى مشهديات رائعة من التآلف الاجتماعي ، والابداع الحرفي ، والنشاط التجاري ودينامية العلاقات الانسانية العميقة ، رحمة وعونا ، فما من نزاع الا ويعقبه الصلح ، وما من مصاب الا وتبدده المؤاساة ، وما من فرح وحزن الا والمناسبة عامة ، وكأن كل الجمع في ألم او في هزيج واحتفاء .... فيما تختزل لهفة اللقاء والتلاقي كل المسافات الفاصلة بين المنبسطات والمرتفعات
في كل خطوة ترى الحسن متجسدا يبعث الارتياح في النفوس ، فهاهي الارصفة الجامدة الحديثة ، والاشجار ذات الاحجام المتناسقة المزروعة على امتداد النظر ، وهاهي الارض النقية من الغبار والوحول والاتربة، فلا اكوام نفايات ، ولا انبعاث لروائح نتنة ولا مياه ملوثة سائلة سائبة على الطرقات ، ولا حفر على الاسفلت ، ترصد لك الكمائن ، ولا قوافل متسولين تقطع عليك المرور ، او تنغص زياراتك للمتاجر والمقاهي . ولا تصرفات صبية طائشة على الدراجات النارية تسلبك الاطمئنان والسلام ، ولا سلع على الارصفة ، ولا ازدحام سير ، ولافوضى عشواء .

كانت مدينة يسودها قدر معقول من النظام بهمة المسؤولين في السلطة المحلية الذين بسطوا سلطتهم في الشارع ومارسوا فعل الهيبة وتجردوا من مصالحهم وقاموا بتطبيق القوانين بحزم ، وكان مرورهم في الاسواق والشوارع يدفع المتجاوزين الى تحذير بعضهم البعض بترداد عبارة "عباية عباية " ، وذلك لاتخاذ كل تدابير الحيطة تجنبا للمحاسبة والعقاب .
وبالعودة الى الوراء سنوات طوال يمكن ان نتذكر ليالي طرابلس الامنة المؤنسة ، فحراس الليل "العسس " كانوا حماة المناطق ووجودهم كان يكشح وحشة الظلام ويبددها ، فاذا استشعروا حركة مريبة كانوا يسارعون باتجاه المصدر للقبض على المرتكب ، وكانت صفاراتهم تملاء المكان . واذا سمعوا أنين مريض او صراخ مستغيث ، كانوا يبادرون فورا الى التقصي ، والى تقديم العون والمساندة .

طرابلس الجميلة لايمكن لسطور قليلة ان تفيها كل الحق ، فهنالك جوانب مضيئة لاتتسع لها الصفحات ، ولكن يبقى السؤال الاهم هل يكفي ان نتحدث عن الماضي ؟ ام انه من الاجدى ان نشمر ساعدينا لكي نجعل الحاضر جزءا من تلك السنين الخوالي ؟

ان نشر مشاهد الجمال والنظام والامكنة المتناسقة لايحتاج سوى الى رغبة السلطة التنفيذية الحقيقية في ذلك ، وايلاء هذه المسألة اهتماما خاصا ، وعدم تبديد الطاقة بما لايخدم المدينة ولا اهلها .

المدينة تحتاج الى فعل بناء يزرع الابتسامة على الشفاه والمقل ، وليس الى خطابات وأمنيات تخدر الحاجة ولا تلبيها ، وتثير الاعجاب الذي سرعان مايخبو ألقه عند ثقل الواقع وبشاعة المكان .

حرام ان تتسع الهوة الجمالية بين طرابلس ومدن لبنانية لاتضاهيها ثروات اثرية وطبيعية ، وهي الحد الفاصل بين الاهتمام والاهمال . ومابين المسؤولية واللامسؤولية وبين العقل المبدع من جهة والتقصير المتعمد من جهة اخرى .

وأخيرا طرابلس المعرض والمرفأ والمصفاة والمناخ الحميل والطبوغرافيا المميزة والمدينة المملوكية التاريخية كل هذا ألا يشفع لها ان تقوم الدولة والوزارات المختصة بتبني نهوضها وتفعيل مرافقها واستغلال جماليتها لتحويلها الى مدينة اقتصادية سياحية بامتياز تدر الاموال الطائلة على خزينة الدولة؟