د. محي الدين الشحيمي- من قنص ماكرون في الطيّونة؟

  • شارك هذا الخبر
Friday, October 22, 2021

انتقلت حالة الارتياب إلى الجانب الفرنسي مقرونةً بحالة من القلق نتيجة أحداث بيروت الأخيرة في منطقة الطيّونة، التي تُعتبر شوكة سامّة في خاصرة المبادرة الفرنسية، وحاجزاً معرقِلاً أمام حراكها، وخصوصاً أنّها أتت من الفريق الذي عملت على التنسيق معه ودّيّاً، والذي جهدت في نقل تفهّمها دوليّاً حوله في محاولة منها لترطيب وتبريد الساحة اللبنانية وخلق الفارق.

لقد اعتمدت المبادرة الفرنسية، منذ بدايتها، على عنصر مهمّ، وهو الصدق، لضمان الوصول إلى الخواتيم الشافية، إلا أنّ ما حصل هو العكس، إذ اصطدمت بقيام الجميع بالكثير من المناورات والخطط الاحتيالية واللعب على وتر التصاريح والتذاكي في الأداء.

لم يؤسّس الحراك الفرنسي لمنطق الغلبة للأفرقاء المحليّين والغلوّ والتثليم المناطقي، وإنّما كان هدفه إطلاق مبادرة وازنة متوازنة تؤسّس لواقع استقراريّ على قواعد ثابتة. وتحمّل باريس حزب الله بالدرجة الأولى مسؤوليّة كبيرة عن هذه الأحداث لأنّه هو مَن يملك الشارع الأكبر على الرغم من إشارتها وتنبيهها مراراً وتكراراً إلى عدم الانجرار نحو الاستعمال العشوائي للشارع وملحقاته.

لم يكن الامتعاض حرفيّاً من استعمال الشارع، فالتظاهرات والاعتراضات مطلب محقّ وحقّ تكفله الأنظمة والقوانين ومن ثمرات الديموقراطية، وإنّما من محاولات استثمار الشارع في قضايا مفتِّتة لمفهوم الدولة والمؤسسات، وخارقة ومهرطقة لمبدأ الفصل بين السلطات. فقد ارتفع منسوب القلق في مراكز القرار الفرنسية المتابعة، وصولاً إلى مرحلته المريعة، نتيجة استعمال الشارع للاعتراض على القضاء، ولإسقاط أو لإقصاء المحقّق العدلي في قضية تفجير المرفأ. وهذا بحدّ ذاته منافٍ لكلّ جوانب منطق الدولة والسيادة ونظرية الفصل بين السلطات. فالقضاء مع الجيش، بالنسبة إلى الجانب الفرنسي، هما الخطّ الأحمر المتبقّي. فللقضاء هيبته، ويجب ألا يُكسَر حتى لو أخطأ، فهو يُحاسَب أو يُقوَّم ضمن آليّاته الصامتة وغير الشعبية. فالمحقّق العدلي وأيّ قاض آخر لا يُعزل سياسيّاً.

لقد سجّلت فرنسا نقاطها السلبية على الحكومة الحالية على الرغم من اعتبارها حكومتها. فقد أُفرِج عنها ضمن مسلّمات ثلاث، وهي:

- العمل جدّيّاً ومهنيّاً على وتر الإصلاحات.

- الاحترام الكلّيّ للاستحقاقات الدستورية والمهل وإلزامية إجرائها في أوقاتها.

- وإطلاق العنان للسلطة القضائية والمؤسسات الرقابية وتكريس استقلالها عمليّاً، وليس نظريّاً فقط، خصوصاً لجهة التحقيق في قضية العصر (تفجير المرفأ)، القضية المركزية والمحورية. فالوصول إلى الحقيقة وحماية المسلك القانوني والقضائي في قضية المرفأ مطلبان فرنسيّان لا مناص منهما ولا فرار.

يقرّ الجانب الفرنسي بأنّ حكومة ميقاتي قد تشكّلت في ظروف متناقضة، لكنّها حسّيّة وماديّة. فلولا وجود هذه الحكومة الحالية لكانت رقعة التوتّر أوسع، وضررها أشمل، وسوادها أنفر، وبحاجة إلى مزيد من الوقت لمحاصرتها. وهنا تكمن الأولويّة. فلولا هذه الظروف لَما وُلدت الحكومة في الأصل، وهي تبريد الساحة المحلية وسحب فتيل تشنّجها والاستفادة قدر الإمكان من المتغيّرات الإقليمية والدولية بنقل نفسها الإيجابي إلى الداخل. ولم تثمر مبادرتها وجهودها الكبيرة في تأليف الحكومة أيّ أمر عمليّ إلى الآن. وهي شظيّة أخرى في مبادرتها. ولعلّ الأمر الذي يتنبّه له حالياً مركز القرار الفرنسي هو التغيّر في مفهوم الخطاب السياسي في لبنان وزيادة حرارته وخطر استعادة لغة الأرقام المتفرّقة. لذلك تحذّر المصادر الفرنسية من الغلوّ والمبالغة والاستعمال السلبي لفائض القوّة والأصفار، ذلك لأنّه يحتوي على وكيل صريح وحقيقي للتفليسة.

لم تولد هذه الحكومة، برأي الفرنسي، لكي تكون رمادية، على الرغم من كلّ الشكوك في مقدرتها ومن نوايا رئيسها وخبرته وخبرة بعض عناصرها الوزارية المجتهدة، بل وجدت لكي تعمل ضمن الحدّ المقبول بشكل جدّيّ لخلق توازن يمكِّنها من استعادة جزء من الثقة العربية الغاضبة عليها، ولكي تأخذ حيّزاً صريحاً في مسلك الإصلاحات ومشوار التفاوض مع المؤسسات الدولية، ولكي تهيِّئ البيئة الحاضنة والملائمة تمهيداً لإجراء الانتخابات النيابية ثمّ الرئاسية. ففرنسا تؤمن أنّ الانتخابات هي الباب العريض لأيّ تغيير.

تراقب فرنسا عن كثب تواتر الأحداث والمتغيّرات اللبنانية، وتوليها كلّ اهتمام، فهي تحلّلها وتقرأها بعمق أكثر من اللبناني نفسه، لأنّها المراقِبة بعقل والمتعامِلة بحزم على الرغم من عدم وصولها إلى خواتيم نهائية. فهي وإن دعمت وشكّلت الحكومة فقد وضعتها تحت المجهر للمراقبة والمحاسبة. وهي مستمرّة في الإجراءات العقابية والتدابير الاحترازية ضدّ مَن تسمّيهم معرقلي العملية السياسية في لبنان والمتحايلين على المبادرة الفرنسية. كأنّ الفرنسيين ذاهبون نحو توتير العلاقة مع المملكة. وفرنسا، وإن اتّفقت وأقنعت الجانب الأميركي بضرورة تأليف الحكومة وعدم تحميل لبنان الضغوط حتى انتخابات الربيع، إلا أنّها في لحظة ما يمكن أن تتطابق مع السياسة الأميركية. لكنّها تشدّد على أنّ مبادرتها قائمة حتى لو تعرّضت للسكاكين والتدليس والخداع. فهي مبادرة لمصلحة لبنان، وليست على قياس الطبقة السياسية اللبنانية حتى لو أًصيبت نوعاً ما في الطيّونة.