معين حداد - في سيادة الدولة اللبنانية

  • شارك هذا الخبر
Wednesday, October 13, 2021

الديار

تتميز الدولة المعاصرة بعدة خصائص اهمها وحدة اراضيها، حدودها السياسية الخطية... تجانس وتوافق مواطنيها... احتكارها للقوة المسلحة وغيرها... غير ان جميع هذه الخصائص لا تستقيم ما لم يحتضن الدولة نظام حقوقي قانوني، يوفر لها شرعيتها وشرعية القوة التي تستخدمها في تنفيذ قرارتها على اراضيها، كما في خارجها. في هذا الإطار تكمن سيادة الدولة المعاصرة في القدرة على أن تضع بملئ ارادتها نظاما قانونيا واحدا موحّدا يغطي كامل اراضيها حتى حدودها السياسية المعترف بها دوليا، لا يشاركها فيه أحد. وفي تطبيقها لهذا النظام القانوني تعبّر الدولة عن سيادتها في تعاملها مع مواطنيها في الداخل ومع الدول الأخرى في الخارج.


ماذا عن سيادة الدولة اللبنانية في الإطار القانوني؟

السيادة بين القوة والقانون

تختلف الدولة عن سائر التنظيمات التي تمتلك القدرة على استخدام العنف في تحقيق اهدافها كالمافيات أو العصابات المسلحة والمجموعات الإرهابية المتفلتة... وغيرها في أنها مبنية على منظومة قانونية حقوقية، من وظائفها الاساسية القضاء المبرم على احتمال الاستخدام الإعتباطي للقوة المتعاظمة االموضوعة بتصرفها. ذلك ان الدولة على وجه العموم تملك من القدرات المتمثلة اقله فيما لديها من السلاح والإمكانيات الإقتصادية ومصادر ثروات على اختلاف انواعها ما يجعل القيّمون عليها واصحاب القرار فيها عرضة للوقوع في «التجارب»، تجارب الانحرافات والارتكابات التي تؤدي حكما الى الاهداف المعاكسة لما تدّعي الدولة انها قامت لأجله، لجهة تدبير امور المجتمع وإعلاء شأنه وشأن مؤسساته وأفراده. من هنا ومن اجل أن تحافظ الدولة على ذاتها كما على مهامها كان لابد لها من ان تقضي على كل امكانية من شأنها ان تتحول معها الى تنظيم «لا دولتي» اذا صح التعبير، أو إجرامي أو إرهابي على شاكلة العصابات والمجموعات التي اشرنا اليها اعلاه، والسبيل الى ذلك يمر بانبائها حكما على نظام قانوني حقوقي تتأمن معه شرعيتها وتحظى من خلاله على ثقة مواطنيها في الداخل وثقة الدول الأخرى في الخارج.


يشكل النظام القانوني اذا احدى الركائز الاساسية للدولة وواحد من الشروط الضرورية لوجودها إذا زال انهارت، فهو كالأرض بالنسبة لها او كالعاصمة...، وهو إلى ذلك اتخذ ابعادا جديدة مع نموذج الدولة المعاصرة التي بدأت معالمه بالتشكل مع معاهدة وستفاليا (١٦٤٨) والذي راح يتعمم على العالم انطلاقا من التجربة الاوروبية. انهت المعاهدة المذكورة الحروب الدينية في اوروبا وأخرجت الى الوجود شكلا جديدا للدولة يختلف عما سبقه في التاريخ، يتميز باعتماد لا مبدأ السيادة، سيادة الدولة على أراضيها وحسب وانما وبصورة اشد ضرورة احترام «سيادات» الدول لبعضها البعض ومن قبل الجميع، وما يزال هذا المبدأ يحكم رسميا العلاقات المتشعبة والمعقدة بين الدول حتى اليوم، حيث تمتلئ الخطب السياسية والاجراءات الديبلوماسية لكافة دول العالم، في مختلف المنتديات والمحافل الدولية وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة، بالصيغ المعبّرة عن الإصرار على احترام «السيادة على كامل الاراضي» سيادة هذه الدولة أو تلك من الدول المعنية بما يمكن ان تتعرض له في سياق ما تشهده الدول عموما من نزاعات واختلافات فيما بينها. والمقصود بالسيادة هنا ليس سيادة امن الدولة على اراضيها والتحكم بحدودها السياسية والحفاظ عليها، وانما أيضا سيادة قوانينها على هذه الأراضي وما عليها من سكان بمختلف انشطتهم ومنشآتهم ... وعلى ما فيها من ثروات ومناجم... على أن لا يُعمل في إطار الدولة الا بالنظام القانوني الذي تضعه هي بنفسها، على ما يقتضي به منطقيا وعمليا مبدأ السيادة. فسيادة الدولة تفترض حكما ان لا يعلو على ما تضعه من قوانين، قانون آخر.

هذا وقد ادّى تطور نموذج الدولة الحديثة والمعاصرة، اي نموذج الدولة الوستفالية، في العالم المتقدم، منذ منتصف القرن السابع عشر وحتى اليوم، الى تعزيز مبدأ سيادة الدولة وإعلاء شأنه وضرورة السعي إلى استتبابه في مختلف المجالات ومنها المجال القانوني الحقوقي، فكان ان احتفظت الدولة في العالم المتقدم، بالحق الحصري للتشريع، فقضت على « القوانين العرفية» المتوارثة، الخاصة بهذه الفئة او تلك، واقصت الدين عن التشريع والقضاء وأخضعت جميع حقوق مؤسسات المجتمع المدني العاملة على أراضيها، كما جميع مواطنيها، لنظامها القانوني الذي يضعه الشعب أو من ينوبون عنه، وكل ذلك من أجل أن تتأمن سيادتها الكاملة وغير المجزأة على أراضيها بمن عليها وبما فيها.

منذ نشأة دولة لبنان الكبير (١٩٢٠)، تمظهر انفصام حقوقي دستوري بإعتماد القواعد الحقوقية لنظام الملل الدينية الموروث من الدولة العثمانية جنبا الى جنب مع خطاب سياسي رسمي حديث، ذو محتوى ديمقراطي غربي اوروبي معاكس له، معظم مكوناته مستلة من الثقافة الدستورية الفرنسية ذات الجوهر العلماني، بحيث بدت الدولة غداة الاستقلال مع نهاية النصف الأول من القرن العشرين متأرجحة بين خيارين لا يمكن التوفيق بينهما، إما النظام الطوائفي المستمد من نظام الملل العثماني القديم وإما إلغاءه والأخذ بمبدأ فصل الدين عن الدولة أو العلمانية المواكبة للحداثة الأوروبية، أي بين منظومتين متناقضتين من القوانين الدستورية. إزاء هذا المأزق إختار صناع القرار في لبنان تأجيل الغاء الطائفية «مؤقتا» وبالتالي السير بالنظام الطوائفي إنما على أمل أزالته في المستقبل، وهكذا ورد في اول بيان وزاري لدولة الاستقلال عام ١٩٤٣ «أن الساعة التي يمكن فيها الغاء الطائفية هي ساعة يقظة مباركة في تاريخ لبنان وسنسعى لكي تكون هذه الساعة قريبة بإذن الله «وبعد ما يقارب حوالي النصف قرن، أي في عام ١٩٨٩ جرى تجديد الدستور اللبناني ومعه جرى تجديد التأجيل الذي عبٌرت عنه المادة ٩٥ من الدستور كما يلي «على مجلس النواب المنتخب على اساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية...»

جاء التأجيل الاول ثم التأجيل المكرر ليساهم في ترسيخ النظام الطوائفي وفي تعميق مفاعيله التنابذية على مختلف الصعد الاجتماعية السياسية والثقافية... إنما وللسخرية في اجواء سياسية هجينة يملؤها خطاب تحديثي لا يملك من الحداثة الا العبارة، حيث تصر احزاب زعماء الطوائف في ادبياتها الدعوية على الاستخدام المفرط في الابتذال لمفاهيم الاشتراكية والوطنية والديموقراطية الإجتماعية... فضلا عن شعارات السيادة الحرية والإستقلال (كل من منظوره) وما الى ذلك، مما لا يمت بصلة الى واقع الأمور المتمحورة حول تنازع الطوائف على صلاحيات الدولة.


ذلك أن كل طائفة من الطوائف ووفق نظام الملل الذي كان معمولا به خلال المرحلة العثمانية تملك حزمة من القوانين الخاصة بها والمختلفة عن غيرها يحكم بها القيّمون عليها، من رجال الدين، الأحوال الشخصية للرعية، على ان تتولى الدولة التنفيذ العملي لهذه الاحكام.

غير ان نظام الملل في ظل الخلافة العثمانية هو في الموقع المضاد لمجريات الأمور القانونية الحقوقية في أحكام الدولة المعاصرة. ففي الأولى ينبني النظام الملّي على التمايز الحقوقي بين الملّة والأخرى، بينما تقوم الدولة المعاصرة على مساواة مواطنيها في حقوقهم عليها من جهة وواجباتهم تجاهها من جهة ثانية، وفق نظام قانوني واحد موحّد للجميع، جماعات وأفرادا، بحيث تغدو سيادتها على اراضيها من سيادة نظامها القانوني عليها.



على هذا، منع احتفاظ الطوائف بأنظمتها القانونية المختلفة عن بعضها البعض منذ الإستقلال، قيام النظام القانوني الواحد الموحّد الذي من المفترض ان تحقق الدولة به سيادتها القانونية والشرعية الكاملة على أراضيها وعلى مواطنيها، وبذلك تكون الطوائف قد حجبت عن الدولة اللبنانية منذ بداية الإستقلال سبل استكمال بناء سيادتها الناشئة، كما انها لم تمتنع عن الاستمرار في قضم ما كان يتوفر بين الحين والآخر من المجال السيادي لها، لذلك يمكن القول أن الدولة اللبنانية لم تحظى يوما بالسيادة الكافية على شؤون مواطنيها كتلك التي تتمتع بها عموما الدول المستقلة.

السيادة المستحيلة

اذا صحّ أن سيادة الدولة على أراضيها هي من سيادة نظامها القانوني الواحد الموحد عليها، وهو صحيح، فإن البنية السياسية الطائفية بموادها الدستورية والعرفية، المعمول بها في لبنان لا يمكن أن تتوافر معها إذا شروط ممارسة الدولة لسيادتها، والسبب هو تعدد الأنظمة القانونية المعترف بها من قبل الجميع على الأراضي اللبنانية والمتمثلة بتعدد انظمة الأحوال الشخصية. هذا التعدد اتاح تشكيل كيانات شبه سياسية داخل الدولة ومنفصلة عنها تمنع تحقيق الوحدة الإجتماعية السياسية، أي وحدة الشعب والدولة كشرط ضروري لامتلاك الإرادة في الممارسة السيادية كما ينبغي.

ثم إن تعدد المحاكم الروحية المسيحية والمحاكم الشرعية الإسلامية يتسبب حكما بالتباعد المعنوي والثقافي بين المواطنين ويعطل الإنتماء المباشر الى الدولة، وهو الإنتماء الذي من المفترض أن يعلو على كل الإنتماءات التي نحاط بها، على ما هو معمول به في الدول ذات السيادة، وبدوره يفضي التباعد المذكور أيضا الى تفكك الروابط الإجتماعية الثقافية واستطرادا تفكك الدولة واضمحلال قدراتها بما فيها قدراتها على ممارسة سيادتها. بمعنى آخر اذا لم يُطبق نظام قانوني لبناني واحد على جميع المواطنين، عبثا نحاول البحث عن تحقيق انسجام اللبنانيين في وحدة وطنية ناجزة كلازمة لا بد منها لسيادة دولتهم.

إلى ذلك كان من الطبيعي في هذا الإطار أن تتنامى قدرات زعماء الطوائف باضطراد عكسي لقدرة الدولة على ممارسة سلطتها منذ الاستقلال حتى اليوم، أي منذ الالتزام بأنظمة الطوائف القانونية على حساب النظام القانوني اللبناني كما رأينا سابقا، الى أن صارت مصالح القيّمين على هذه الطوائف تعلو على قوانين الدولة اللبنانية وتمعن في الحد من جدواها. هذا وقد ادّى توظيف الفاعلية الطائفية في المجال السياسي وما يتصل به من مصالح عديدة، إلى تمحور كل طائفة على ذاتها والسعي الى تمتين موقعها السياسي سبيلا إلى التنافس المستعر على العبث بمقدرات الدولة، وفي هذا السياق راج تداول مصطلح «فيدرالية الطوائف» على نحو واسع، وذلك للقول ان الواقع اللبناني بات واقعا فيديراليا يختبئ خلف شبه قناع مركزي رقيق وشفاف لا يقنع أحدا. غير ان المقاربة الدقيقة للامور تظهر ان الظاهر «الفيديرالي» اذا جاز التعبير هو بخلاف الواقع الحقيقي لأن الكانتونات او الولايات في النظام الفيديرالي كما هو معمول به في الدول التي تتبناه، هي التي تأتمر بالأوامر الصادرة عن الحكومة في العاصمة الإتحادية الفيدرالية وتنفذ قراراتها بينما في نظامنا، يجري العكس تماما لان الحكومة المركزية تبقى في الموقع الأدنى من المسار التنفيذي لقرارات زعماء الطوائف. وعلى هذا لا سبيل لدولة، حكومتها في هذا الموقع المتلقي لإرادات رجالات الطوائف أن تتحلى بالسيادة على أراضيها في الداخل أو ازاء الخارج.


على ان لبنان ليس الوحيد الذي أعتمد النظام القانوني المبني على نظام الملل الموروث، فسائر دول المنطقة المتعددة الطوائف أخذت به أيضا مثل سوريا، العراق مصر... حيث كل طائفة من الطوائف في كل منها تتكفل بشؤون الأحوال الشخصية لرعاياها وفق نظامها القانوني الخاص بها، وهكذا بات لكل دولة من هذه الدول كما في لبنان عدة انظمة قانونية مختلفة عن بعضها البعض، من شأنها بطبيعة الحال تعريض وحدة الشعب الإجتماعية السياسية للخطر وبالتالي تفكك الدولة والذهاب بسيادتها. على انه بخلاف ما جرى في لبنان عولج خطر التفكك في هذه الدول من قبل حكوماتها أو حكامها بالاستبداد والإكتفاء به في فرض الوحدة الإجتماعية السياسية، دون المبادرة ولو بالحد الأدنى إلى تخليص السياسة من الدين وتخليص الدين من السياسة والتقدم نحو إحلال نظام قانوني واحد يجب القوانين الطائفية المختلفة. على أن الإستبداد المذكور لم تكن شروط ممارسته متوفرة في لبنان لاسباب يُخرجنا التوسع فيها عن سياق معالجتنا هنا لمسألة السيادة اللبنانية، انما يمكن الإشارة اختصارا الى أن ذلك يعود الى خصوصية تجربة لبنان التاريخية الحديثة مضافا إليها توزع النسب الديموغرافية الطائفية فيه الذي يمنع حسم سيطرة قوة متفردة على الوضع العام داخل البلاد.

على كل حال أظهرت مجريات الأمور وعلى نحو جلي عدم جدوى التجربة الاستبدادية في هذا المجال، ففي العراق مثلا ما أن أُزيح عنه الاستبداد، حتى تبعثرت طوائفه وانطلقت اليات تفكك المجتمع والدولة، تماما على الطريقة اللبنانية وتعرضت سيادة الدولة فيه للتلاشي بالطريقة عينها. وما يصح على العراق يصح بشكل أو بآخر على الدول الأخرى في المنطقة.

ملاحظات إستنتاجية


لا شك ان شرط السيادة اللبنانية كما غيرها يكمن في وحدة المجتمع اللبناني واستطرادا وحدة الدولة اللبنانية المبنية على وحدة نظامها القانوني، هذا ولما كانت هذه الوحدة متعذرة راهنا أقله على المدى المنظور فإن ما نشهده من مجادلات وسجالات بشأن السيادة لا سيما في موضوع سلاح حزب الله لا يعدو كونه متاجرة سياسية إعلامية لا يمكن ان تفضي عمليا الى شيء يذكر.

إن السلاح خارج الدولة كما سائر المظاهرالمشابهة بما فيها تلك التي تفصح عن سلوك يبدو وكأنه مشبع بالإصرار على إنتهاك سيادة الدولة اللبنانية، هي من نتائج ضمور هذه السيادة منذ زمن الإستقلال، على ما بيناه أعلاه، وليست من اسبابه. وعليه يكمن التحدي في التصدي للأسباب لا إجترار التشكي من النتائج والتباكي غير المجدي على السيادة.