عدم جواز رد قاضي التحقيق العدلي في ضوء قراري محكمة الاستئناف في بيروت... بقلم عبده جميل غصوب

  • شارك هذا الخبر
Sunday, October 10, 2021

كتب عبده جميل غصوب

لا شك ان القرارين اعلاه نطقا بالحق فأعادا الى شمس العدالة بريقها في وقت اصبحت العدالة في بلدي فكرة منسية يغمرها الفساد.

ان مسألة رد قاضي التحقيق العدلي أثارت نقاشا طويلا مؤخرا وأعطيت بخصوصها عدة آراء . ولكن الحقيقة العلمية تفترض معالجة هذه المسألة في ضوء النصوص القانونية المرعية الاجراء ( اولا ) ثم طرح التساؤل عن جواز رد المحقق العدلي ( ثانيا ).

اولا: طرح مسألة رد المحقق العدلي في ضوء النصوص النافذة

نص قانون اصول المحاكمات الجزائية في بابه الخامس عن المجلس العدلي في المواد 355 الى 367 من قانون اصول المحاكمات الجزائية. وقد نصّت المواد 360 أ.م.ج الى 364 أ.م.ج . ان المحقق العدلي يعيّن من قبل وزير العدل، بناء على موافقة مجلس القضاء الاعلى. وقد نظمت تلك المواد عمله بدءا من تعيينه وانتهاء باصدار قراره الاتهامي واصداره مذكرة القاء قبض بحق المتهم. ترتفع يد المحقق العدلي باصداره قراره الاتهامي. ولكن يعود له اصدار مذكرة القاء قبض بحق المتهم بعد رفع يده عن الدعوى، ان هو اغفل ذلك، بناء على طلب النائب العام التمييزي.

بالرغم من كون المشترع تناول باسهاب نظام المجلس العدلي والمحقق العدلي في المواد اعلاه، فانه لم يذكر كلمة واحدة عن رد المحقق العدلي ، فيما ذكر في الفقرة الثانية من المادة 357 أ.م.م ان القاضي الاضافي، المعيّن بمرسوم تعيين اعضاء المجلس العدلي هو الذي يحل محل العضو الاصيل في حال رده او وفاته او تنحيته، او انتهاء خدمته. هذا يعني ان رد عضو المجلس العدلي جائز في المبدأ وقد لحظ القانون ان القاضي الاضافي المعيّن بالمرسوم ذاته هو الذي يحل محله. ولكن القانون لم يلحظ آلية رد اعضاء المجلس العدلي، ما يطرح السؤال عما اذا كان الرد جائزا ام لا بالنسبة لاعضاء المجلس العدلي ؟ الا اذا اعتبرنا ان اعضاء المجلس العدلي، كلهم من قضاة محكمة التمييز ويجب ان يخضعوا في ردهم الى آلية الرد التي يخضع لها قضاة محكمة التمييز، المنصوص عنها في الفقرة الاخيرة من المادة 123 أ.م.م. التي جاء فيها انه " يقدم عرض التنحي او طلب الرد فيما يتعلق بقضاة محكمة النقض الى هذه المحكمة، فتنظر فيه غرفة من غرفها يعيّنها الرئيس الاول لمحكمة النقض ".

هنا يتجاذب الحل اتجاهان، فالاتجاه الاول يقضي بعدم جواز رد اعضاء المجلس العدلي لانتفاء آلية مخصصة لذلك، اذ لا يمكن اخضاعه لآلية الرد التي يخضع لها قضاة محكمة التمييز، باعتبار جميع اعضاء المجلس العدلي هم من قضاة محكمة التمييز، لان لعضو المجلس العدلي نظاما خاصا يخضع له بصفته تلك ولا يصح اخضاعه لذات نظام الرد الذي يخضع له قضاة محكمة التمييز، بل يجب ان تكون ثمة آلية خاصة لردهم.

اما الاتجاه الثاني فيقضي باخضاعه لذات آلية الرد التي يخضع لها قضاة محكمة التمييز باعتبار ان اعضاء المجلس هم قضاة من محكمة التمييز واسناد مهمة اعضاء في المجلس العدلي لهم لا ينفي عنهم صفة قضاة محكمة التمييز، فضلا عن ان آلية رد قضاة محكمة التمييز تتآلف مع رد اعضاء المجلس العدلي.

هذا الامر ليس مطروحا في بحثنا الحاضر، ولكننا رأينا لازما التعريج عليه للاضاءة على بعض جوانبه تمهيدا لمعالجة مسألة رد المحقق العدلي.

لم تتناول النصوص المنظمة للمجلس العدلي موضوع رد المحقق العدلي لا من قريب ولا من بعيد. ولكن البعض رأى وجوب اخضاعه لآلية الرد التي يخضع لها قضاة التحقيق.

لا يمكننا تأييد هذا الرأي اذ انه لا يوجد اي تماثل بين قاضي التحقيق العدلي وقضاة التحقيق الاخرين، فقد اقتصرت المادة 363 أ.م.م على النص انه" يطبق المحقق العدلي الاصول المتبعة امام قاضي التحقيق ما خلا منها مدة التوقيف المنصوص عنها في المادة 108 من هذا القانون". هذا يعني بان التماثل قائم فقط على مستوى " الاصول المتبعة " وليس على مستوى اي شيء آخر ! فاتباع " الاصول " ذاتها لا يعني ان لقاضي التحقيق العدلي ذات طبيعة قاضي التحقيق، خصوصا وان لكل منهما نظاما Statut خاصا مختلقا عن نظام الآخر. فقاضي التحقيق هو الذي يعمل في مركز ونطاق محكمة الاستئناف وتنظم عمله المواد من 51 الى 127 من قانون اصول المحاكمات الجزائية. وقد نصّت المادة 52 أ.م.ج انه " تطبق على كل من طلب التنحي والرد القواعد الواردة في هذا الشأن في قانون اصول المحاكمات المدنية ". وانه " اذا حال مانع ما دون قيام قاضي التحقيق بوطيفته، فينتدب الرئيس الاول لمحكمة الاستئناف قاضيا للقيام بها".

تبدو الاحالة المنصوص عنها في المادة 52 أ.م.ج الى القواعد التي تحكم الرد والتنحي الواردة في قانون اصول المحاكمات المدنية غير موفقة ، اذ ان المادة 128 منه نصّت بأنه " تطبق احكام التنحي والرد على قضاة النيابة العامة والمحكمين والخبراء" دون ان تذكر قضاة التحقيق. فلا يجوز ان نتوسع في تفسير النص ليشمل هؤلاء لاننا في صدد نص اجرائي يتناول مؤسسة مستقلة هي " مؤسسة الرد"، فلا يصح التوسع في تفسير النصوص الاجرائية، وبحجة أولى متى كان النص يتناول مؤسسة خاصة تتناول النظام الذي يخضع له القاضي Statut ، فتكون الاحالة في غير موقعها القانوني الصحيح.

يستدل من كل ذلك انه لا توجد نصوص خاصة تحكم رد المحقق العدلي، فهل هذا الاخير خاضع للرد ؟

ثانيا: عدم جواز رد المحقق العدلي

يذهب انصار الرأي القائئل بجواز رد المحقق العدلي الى القول بان المادة 128 أ.م.م هي الواجبة التطبيق، فيقتضي بموجبها اعتبار محكمة الاستئناف التابع لها قاضي التحقيق هي المرجع المختص لتقديم طلب الرد امامها.

ان هذه المادة ـ كما ذكرنا اعلاه ـ لا تتناول قضاة التحقيق، بل تناولت قضاة النيابة العامة والمحكمين والخبراء، فجاء فيها: انه " تنظر في طلب رد عضو النيابة العامة المحكمة التي يكون تابعا لها حسب التنظيم القضائي. وتنظر في طلب رد المحكم الغرفة الابتدائية المختصة بنظر الدعوى او الكائن في منطقتها القاضي المختص بنظر الدعوى لولا وجود التحكيم.

تنظر في طلب رد الخبراء المحكمة التي عينتهم ".

ان نص المادة 128 أ.م.م لم يتناول قاضي التحقيق بل اقتصر على تناول قضاة النيابة العامة والخبراء والمحكمين . وقد أتى مفصلا، ما يعني ان المشترع اعتمد نهجا تفصيليا لا مقتضبا، فلو شاء ان يشمل بالنص المذكور قضاة التحقيق لما تأخر عن ذلك لحظة واحدة. الامر الذي لم يحصل، ما يعني عدم شمول رد قضاة التحقيق بالنص المذكور.

وللاستفاضة في البحث نضيف بأنه لو اعتبرنا ان محكمة الاستئناف هي المختصة في مسألة رد قضاة التحقيق، خلافا للقواعد الصحيحة المعمول بها في تفسير النصوص القانونية، كما ذكرنا اعلاه، فانه لا يوجد اي تشابه بين المحقق العدلي وقاضي التحقيق العادي، اذ يقتصر التشابه على بعض الاصول المتبعة في التحقيقات دون الوصول الى حد التشابه على مستوى نظام Statut كل منهما .

فقاضي التحقيق هو جزء لا يتجزأ من المنظومة القضائية القائمة في حين ان المحقق العدلي هو قاضي استثنائي يخضع لنظام خاص، بل هو مؤسسة قانونية خاصة Institution ad hoc قائمة بذاتها، يعيّن بقرار من وزير العدل بموافقة مجلس القضاء الاعلى ويحقق بجريمة محددة محالة الى المجلس العدلي بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء ، كما ذكرها اعلاه، فلا مجال لاخضاعه الى نظام مماثل او مشابه Statut للنظام الذي يخضع له قاضي التحقيق.

اضف الى ذلك انه لا توجد اي آلية منصوص عنها قانونا لاعمال الرد وتفعيله ! فمحكمة الاستئناف ليست فقط غير مختصة بل هي غير مؤهلة للنظر في طلب كهذا. elle n’a aucune vocation .

ويبدو احالة طلب الرد اليها مجرد عمل تلقائي، اجابت عنه باتقان وحرفية عالية الغرفة الثانية عشرة في بيروت، فالرابط المكاني غير متوافر اذ ان مجرد كون المحقق العدلي يشغل غرفة في قصر العدل في بيروت لا يعني ان نطاق اختصاصه واقع ضمن مدينة بيروت ! كما
ان المحقق العدلي ليس تابعا لمحكمة الاستئناف على غرار قاضي التحقيق ! بل اكثر من ذلك فهو ليس تابعا للمجلس العدلي اذ بمجرد اصداره قراره الاتهامي ومذكرة القاء قبض بحق المتهم ينتهي دوره، بل تنتهي المؤسسة التي يمثلها والمسماة " قضاء التحقيق العدلي" وينتقل الملف الى المجلس العدلي الذي يبدأ دوره منذ صدور قرار الاتهام عن المحقق العدلي واصدار مذكرة القاء قبض بحق المتهم. فنحن لسنا امام مؤسسات قضائية تتكامل فيما بينها، بل امام مؤسستين لا يوجد بينهما اي صلة عمل : قاضي التحقيق العدلي والمجلس العدلي، كل جهاز يعمل في نطاقه ولو كنا في اطار جريمة واحدة. فاحالة طلب الرد الى محكمة الاستئناف يبدو مجردا من اي مضمون قانوني، حيث ان الاحالة هي شكلية بل تلقائية، كما تقدم.

رب قائل بانه لا يوجد قاض غير قابل للرد ! اذا كان هذا الامر صحيحا فالصحيح ايضا ان انتفاء الآلية يعدم تطبيق النص؛ فمئات النصوص الواضحة والصريحة بقيت بدون تطبيق عشرات السنين بسبب غياب المراسيم التطبيقية الموعودة ! فكم بالحري، غياب آلية بكاملها، بل غياب نص يجيز اخضاع المحقق العدلي للرد.

اذا كنت معتزا كثيرا بقرار محكمة الاستئناف الغرفة الثانية عشرة المنتهي الى رفض طلب الرد لعلة عدم الاختصاص، فانا معتز بصداقتي المتينة مع اثنين من قضاة المحكمة المذكورة ، اقدرهما بل احبهما كثيرا...

ان قرار الغرفة الثانية عشرة أعاد الامور الى نصابها الحقيقي، فالمسألة لا تحتمل تفسيرات وتأويلات او حتى اجتهادات؛ فالجرائم التي تحال الى المجلس العدلي ليست " لعبة "، فحذار من اعتماد الرد وسيلة لشل القضاء ... وتبقى النصوص الواجب تعديلها او اضافتها هي الحل.