سقوط مبادرة فرنسا أخلاقياً: السلاح أداة حكم في لبنان

  • شارك هذا الخبر
Sunday, May 16, 2021

كتب ايلي القصيفي في اساس ميديا

مسألة سلاح حزب الله هي مسألة داخلية، وليست قضية إقليمية وحسب، كما يحاول البعض تصويرها بين حين وآخر. إنّها مسألة باتت متّصلة بشكل رئيس بإمكانات عيش اللبنانيين معاً، إذ أضافت تعقيدات غير مسبوقة على مستقبل هذا العيش.

فشرائح واسعة من اللبنانيين باتت تعتبر، منذ السابع من أيار 2008، أنّ سلاح الحزب يمكن أن يكون أداة للاعتداء عليها في أيّ لحظة. وهذه حقيقة لا يمكن للحزب ولا للفرنسيين إنكارها. وهنا الخطأ السياسي الأخلاقي الرئيس للمبادرة الفرنسية، التي لم تأخذ في الاعتبار أعباء سلاح الحزب على الواقع اللبناني، ولم تحاول أن تصوغ جملة سياسية ضمن مبادرتها تضيء على هذه الإشكالية الوطنية التي لا يعترف الحزب بها، ولا تضعها غالبية القوى، القديمة والجديدة، في قائمة أولوياتها.

ما هي المبادرة الفرنسية في الأصل؟

لقد قامت هذه المبادرة منذ لحظتها الأولى على فكرة مفادها أنّ باريس تفكّ طوق العزلة السياسية الغربية والعربية الخليجية عن حزب الله بسبب تصنيفه على لوائح الإرهاب، وفرض عقوبات على شخصيات وكيانات على صلة به، وذلك في مقابل أن يسمح الحزب بتشكيل حكومة لبنانية تتبنّى إصلاحات بنيوية تسمح لها بالتعاون مالياً واقتصادياً مع الدول المانحة وصندوق النقد الدولي.

تلك هي المعادلة التي حاولت "الأم الحنون" فرضها في لبنان خلال لحظة دولية انتقالية، عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية، أي في لحظة تحوّل اهتمام الإدارة الأميركية السابقة، التي انتهجت سياسة الضغوط القصوى على إيران والحزب، إلى الداخل الأميركي استعداداً لتلك الانتخابات. ولذلك كان السؤال الدائم منذ لحظة إطلاق باريس مبادرتها من أجل لبنان: إلى أيّ حدّ تحظى هذه المبادرة بتغطية أو دعم أميركيّيْن؟

سرعان ما تبيّن أنّ تلك المبادرة شبه يتيمة دولياً في ظلّ عدم ورود إشارات أميركية واضحة لدعمها. لكنّ ذلك لم يكن السبب الوحيد في ولادتها ميتةً، إذ إنّ الحزب، ومن ورائه إيران، أخضعاها مباشرة للأولويات الإيرانية لا اللبنانية، ما عدا التقاطع بين هاتين الأولويتين لجهة فكّ عزلة الحزب لحظة استقبال النائب محمد رعد في قصر الصنوبر.

لكن في الأساس، رأت طهران في المبادرة الفرنسية ورقةَ ابتزاز لباريس، ثمّ للعواصم الأوروبية المعنيّة بالاتفاق النووي، لدفعها إلى اتخاذ إجراءات سياسية واقتصادية تخفّف من وطأة العقوبات الأميركية التي عاود دونالد ترامب فرضها عليها منذ أيار 2018. ثمّ بعد فوز جو بايدن، واصلت إيران ابتزاز فرنسا والأوروبيين لحثّهم على الضغط على واشنطن في الطريق لإعادة إحياء الاتفاق النووي.

خلاصة الأمر أنّ إيران اعتبرت المبادرة الفرنسية في لبنان، ومنذ لحظتها الأولى، ورقةً إضافيةً في يدها تستخدمها في سياق مواجهتها مع الولايات المتحدة.

حتّى إنّ الحزب، ومن ورائه طهران، سمحا بعقد الجولة الأولى من مفاوضات ترسيم الحدود الجنوبية في 14 تشرين الأول 2020، أي قبل نحو أسبوعين من موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية التي أجريت في 3 تشرين الثاني، وذلك في تكتيك استباقي لاحتمال فوزه. لكن ما إن خسر ترامب حتّى توقّفت تلك المفاوضات في 30 تشرين الثاني، لتُستأنف في 4 أيار على وقع الاجتماعات "النووية" في فيينا.

هذا كلّه يؤكّد أنّ الحزب وإيران يفضّلان البيع والشراء مباشرة مع اللاعب الأكبر في المنطقة، أي الولايات المتحدة، عوض تسليف فرنسا أو سواها أوراق نفوذ لا تضمن طهران ربحاً أكيداً منها. ويؤكّد أيضاً ضعف حيلة باريس في لبنان والمنطقة. فهي أرادت أن يكون لبنان النافذة لعودة نفوذها إلى المنطقة، فإذا بفشل مبادرتها فيه يوجّه ضربة قاسية لسياساتها الشرق متوسطية.

غرقت باريس في الوحول اللبنانية لأنّها تجاهلت المعضلة الأساسية في الأزمة الوطنية اللبنانية، المتمثلة بالتناقض الرئيس والمتفاقم بين أي عملية سياسيّة ديموقراطية في لبنان وبين غلبة حزب الله على الدولة والمجتمع اللبنانييْن.

بذلك لم ترتكب الرئاسة الفرنسية خطأً سياسياً وحسب، بل ارتكبت خطأً أخلاقياً أيضاً. إذ إنّ محاولتها انتهاج "سياسة غربية مغايرة" مع الحزب جعلها تتغاضى عن استحالة إنقاذ، بل استحالة إعادة إحياء الدولة اللبنانية، في ظلّ تحكّم الحزب بالمسار السياسي والاقتصادي في البلد، إضافةً إلى عبوره الحدود للقتال حيث يشاء ومتى يشاء.

والحزب لا يكتفي، في غلبته تلك، بتمسّكه بسلاحه وحسب، بل إنّه يُعطي هذا السلاح وظيفة سياسية مباشرة، إذ يستخدمه أو يهوّل به لفرض معادلات سياسية في الحكم تضمن حرية حركته السياسية والأمنية. وبمعنى آخر فإنّ الحزب ضنين بتركيب سلطة لبنانية توافق أو تتواطأ أو تغضّ النظر عن حرية حركته تلك، بما يؤكّد استحالة تحمّل لبنان أن يكون جزءاً من محور إيران في المنطقة، والانهيارات التي نعيشها خير دليل.

إذّاك كان الأحرى بفرنسا، التي أبدت حرصاً على لبنان الذي انتدبته زهاء عشرين عاماً وركّبت نظامه السياسي، أن تضمّن مبادرتها مبادئ سياسية أخلاقية أساسية متّصلة بـ"العيش معاً" والديموقراطية والحرية في لبنان. وهي مبادئ تحيل حكماً إلى إشكالية السلاح، التي تحيل بدورها إلى الاضطراب الهائل في دول المنطقة، بدءاً من سوريا التي ترفض باريس الاعتراف بمشروعية انتخاباتها الرئاسية المقرّرة في 26 أيّار، بسبب عدم "إدراج السوريين في الخارج"، وهو ما يجعل تلك الانتخابات تجري تحت رقابة النظام من دون إشراف دولي، كما ينصّ القرار الدولي 2254

لكنّ فرنسا، التي تشكّ في شروط الانتخابات الرئاسية السورية، تدعو إلى انتخابات معجّلة في لبنان من دون أن تأخذ في الاعتبار شروط هذه الانتخابات في ظلّ غلبة حزب الله.

وعليه يبدو أنّ باريس لم تستخلص بعد العبرة من فشل مبادرتها لتشكيل حكومة اختصاصيين في لبنان. وهي مبادرة لن تنقذها أيّ إجراءات أو عقوبات فرنسية بحقّ "المعرقلين". ففشل مبادرتها كان نتيجة مباشرة لرفض الحزب قيام حكومة لا تعبّر في طبيعتها وتركيبتها عن غلبته السياسية، أي رفضه تأليف حكومة ليس له فيها القدرة على التحكّم في قراراتها الرئيسة.

وكما في الحكومة، كذلك في أيّ انتخابات نيابية مقبلة، لن يقبل الحزب بإجرائها إلّا إذا ضمن مسبقاً إنتاج غالبية نيابية موالية له، وذلك عبر قانون انتخابات مفصّل على قياسه وحلفائه، ومن خلال إيجاد مناخ سياسي أمني مؤاتٍ لفوزهم، كما حصل في 2018.

ولذلك نرى الاستعدادات المكثّفة لمشاركة السوريين المقيمين في لبنان بالانتخابات السورية. و ولهذا وظيفة سورية طبعاً، لكن وظيفة لبنانية أيضاً. إذ يُراد لها أن تكون "بروفا" لأيّ انتخابات لبنانية مقبلة.

لكنّ دعوة فرنسا إلى انتخابات في لبنان ستجري، في ظلّ الواقع الراهن، بشروط الحزب، ألا تناقض تشكيكها في مشروعية الانتخابات السورية التي تجري بشروط النظام حليف الحزب؟

في الحالين، النتائج ستكون معروفة مسبقاً.