ما الفرق بين حبّ الحياة والخوف من الموت؟- د. نجم بو فاضل

  • شارك هذا الخبر
Thursday, May 6, 2021

في العدد 27317 الصادر صبيحة التاسع عشر من كانون الثاني من العام 2020، نَشَرَتْ هذه الجريدةُ، التي يُطلّ نهارُها الصحافيّ مشحونًا برسالةٍ فكريّةٍ واجتماعيّةٍ وفلسفيّةٍ، مقالةً بعنوان "الإنسان الديجيتاليّ ومعنى الحياة"، إنتهت بالإشارة إلى أن علوم الروح، كالفلسفة والعلوم الاجتماعيّة والانتروبولوجيّة...، لا توصي باعتماد الاجراءات الوقائيّة، التي يُفترض أنها تقي الإنسان شرور استفحال الظواهر الوبائيّة التي تهدّد وجوديّته، خوفًا من الموت بل حبًّا الحياة وتقديرًا لمعناها. وهو ما فتح البابَ على مجموعة تساؤلات عن طبيعة هذه العلوم ومنهجيّاتها، التي أرسى قواعدها فيلهلم ديلتي في كتابه "المدخل إلى علوم الروح" (1883)، والدور الذي ينبغي أن تلعبه في هذا الزمن الذي تقوّضُ فيه التكنولوجيا أُسُسَ الحياة الإنسانيّة وتبدّدها؛ وعن ماهيّة هذه الإجراءات التي توصي بها هذه العلوم بما يختلف عن إجراءات العقل التكنولوجيّ؛ وعن حقيقة الفرق بين حبّ الحياة والخوف من الموت، كي لا يتبدّى الأمرُ إطنابًا يفيد التكرار، على اعتبار أن مآلَ الحياةِ ارتحالٌ عنها، والمصيرَ هو هو محتوم بمغادرتها، والنهايةَ واحدةٌ تتمثّل بالانتقال من هذه الدنيا إلى ديار الحقّ.
إنها، في الحقيقة، النهايةُ الحتميّة التي تزرعُ احتماليّةُ طروئها الرعبَ في القلوب، والجَزَعَ في النفوس، والهلع في العقول، والاضطراب في الألسن، وكأن الإنسان لم يولد ليحيا بل ليموت، ولم يأتِ إلى الوجود ليعيش بل ليفنى. فحينما يقف الإنسان أمام ما هو محتملٌ في حياته، وبخاصة المحتمل الحتميّ (أي الموت)، يتولّد في وجدانه القلقُ الوجوديّ، الذي نظّر له كياركغارد منتصف القرن الثامن عشر في "مفهوم القلق" (1844) و"المرض القاتل" (1846)، موطّدًا الأركان الأساسيّة التي نَمَتْ عليها الفلسفة الوجوديّة المعاصرة. فالإنسان ينفتح على المستقبل بقلقٍ، لأن المستقبل ينطوي على الاحتماليّة التي بفضلها يكون كلُّ محتملٍ ممكنًا. وهو ما يؤسّس للحريّة التي بها يختار الإنسان ما يبتغي أن يكون، بتحويل القَدْر الوافي من الاحتمالات المتوفّرة له إلى واقعٍ حقيقيّ مَعيش، قبل أن تحلّ عليه الاحتماليّة الحتميّة وتنهي عنه كلَّ احتمال.
وعليه، لا يسعُ الإنسانَ، الذي يقف أمام المستقبل المبنيّ على الاحتماليّة، إلّا أن يقلق قلقًا وجوديًّا، يحتّم عليه أن يختار، بالحريّة المُزَوَّدِ بها، ما يُفترض أن تؤول إليه كينونَتُه. وإذا كان المطافُ سينتهي بهذه الكينونة، عاجلًا أم آجلًا، إلى مثواها الأخير، فذلك لا يُجيزُ، تحت أي ذريعة من الذرائع أو أيّ مسوّغ من المسوّغات، أن تُفقَدَ مسيرتُها اليوميّةُ معناها، ويُحرَمَ تحقيقُها لذاتها مُتعَتَه. ذلك أن الالتفات إلى معنى الحياة يبدّد الخوف من خسارتها، والتمتّعَ بعيشها يعزّز حبّها ويقوّي التعلّق بها. فالخوف من الموت يزيد الإنسانَ، لا محالة، يأسًا وبؤسًا وقنوطًا وغضبًا وحقدًا وكدرًا وانزواءً وتقوقعًا وإحباطًا، أما حبّ الحياة فلا ريب يملأ قلبه أملًا وسعادةً ورجاءً وسلامًا ومحبّةً وارتياحًا وانفتاحًا وإلفةً واستبشارًا.
ولا يكتفي حبُّ الحياة بإنعام فوائده على الفرد لحظة إدراكه معنى حياته في الوجود، إنما يفيضُ بها على المجتمع بأسره، ليكوّن، بصورة أساسيّة، الأرضيّة التي يتركّز فيها بناء الدولة. فقد نظّر الفلاسفة وعلماء السياسة والاجتماع والقانون، على مرّ العصور، للأسس الجغرافيّة والقانونيّة والأخلاقيّة والسياسيّة والاجتماعيّة وغيرها من الأسس التي ينبغي للدولة أن تقوم عليها. كالحيّز الذي يعيش الناس فيه، والنظام الذي يرتأونه لإدراة شؤونهم، ومختلف المفاهيم التي يضمّنونها في دساتيرهم، كالحريّة والعدالة والمساواة والسيادة والكرامة والديمقراطيّة والحقّ وغيرها من المفاهيم التي يستلهمها المشرّعون في صياغة القوانين التي ترعى شؤون الدولة ومواطنيها. إلّا أنهم لم يُفصحوا صراحةً عن حبّ الحياة مبدأً من مبادئ الدولة وركنًا من أركانها، ربما لأنه مبدأٌ مضمرٌ في القوانين التي تُعِدُّ الحياة قيمةً وتثمّن معناها. لكن التمعّن في هذا المبدأ يبيّن، بما لا يرقى الشكّ إليه، أنه ركنُ الأركان، والصخرةُ التي تتكئ عليها مختلف الركائز. لأن المرءَ (الإنسان بصورة عامة أو المواطن بصورة خاصة)، ما لم يُدرك معنى الوجود أو، بصورة أدقّ، ما لم يدرك معنى وجوده في الحياة ليحبّها ويتمتّع بعيشها، لن ينتفض لحقّ يُغتَصب أو يُنتَهَك، ولحريّة تُقمَع أو تُداس، ولكرامة تُحتَقر أو تُهان، ولعزّة تُذلّ أو يُستهزأ بها. بل يعيش جازعًا، مرتاعًا، كئيبًا، مقهورًا، مستضعفًا، مذلولًا.
ومن هذا المنطلق، لا يُزهر العِلمُ في دولةٍ (كما هي الحال في الدول التي تُصَدّر ابتكاراتٍ وإبداعاتٍ في مختلف الميادين العلميّة والأدبيّة إلى الدول المُستهلِكة)، ولا يزدهر اقتصادُها ليقوى نقدُها، ولا يطرق الرفاهُ بابَ دارها لتسكن الطمأنينة بالَ مواطنيها، ولا يعي المجتمع فيها مكانته ليتحرّر من شتى التبعيّات، إلّا إذا أدرك كلُّ مواطنٍ في هذه الدولة معنى الحياة وأحبّها، وتربّى على النظر إليها بتقديرٍ وصانها. فالإنسان قد أتى إلى وجودٍ يفنى، أي إلى عالمٍ تبدأ الحياةُ فيه رحلتَها الأرضيّة بالولادة وتنتهي بالموت. لكنه أُعطي أن يختار الوجود ويعيشه بعزّة وكرامة قبل الفناء، وأن يحبَّ الحياة ويتمتّع بها قبل الممات.
نجم بو فاضل – أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيّة