د. سهام رزق الله - لبنان... الترجمة الإقتصادية للمخاطر السياسية

  • شارك هذا الخبر
Tuesday, April 20, 2021

الجمهورية

الإقتصاد ليس على جزيرة نائية ولا يمكن قراءة تطوّر مؤشراته علمياً بمعزل عن مؤثرات السياسة خصوصاً وسط الاستحقاقات الجذرية التي شهدتها السنوات الأخيرة في لبنان والمنطقة... فالمعلوم أنّ الاستقرار السياسي والإصلاح الشامل أساس مناخ الإستقرار واجتذاب الرساميل والاستثمارات، في حين أنّ عوامل المخاطرة أساس في زيادة مستوى الفوائد وهروب الرساميل وضعف ميزان المدفوعات وتدني التصنيف السيادي الذي يعكس قدرة البلاد على سداد ديونها بالعملات الأجنبية وزيادة الضغوط على سعر الصرف. فكيف يمكن علمياً تفسير عوامل المخاطرة وانعكاساتها الإقتصادية؟ وأي ترجمة كان لها في الوضع اللبناني تحديداً؟

غالباً ما يتم استيعاب مؤشرات مخاطر الدولة في الفارق بين عائد السندات السيادية لبلدٍ ما وعائد سندات الخزانة الأميركية، كأن الفارق يعكس السؤال الآتي: ما المكافأة الإضافية المطلوبة للاستثمار في ديون بلد ما؟ تعكس مخاطر التخلف عن السداد أو مخاطر الائتمان احتمال أن الجهة المصدرة لسندات الدين في حالة الدولة المديونة، قد لا تكون قادرة على الوفاء بالتزاماتها كلياً وفي الوقت المحدد للاستحقاق، خصوصاً بالنسبة الى إصدارات سنداتها بالعملات الأجنبية كونها أخطر من السندات بالعملة الوطنية التي يمكن للدولة في أقصى الأحوال اللجوء الى المصرف المركزي لطباعة عملة لسدادها حتى لو تكبّدت البلاد كلفة التضخّم... أما السندات بالعملات الأجنبية فلا تملك الدولة المديونة «ترف» التخلّص منها باللجوء الى مصرفها المركزي الذي لا يمكنه طباعة عملات أجنبية غير عملته الوطنية.



أما لجوء بلدان مثل لبنان الى الاستدانة بالعملات الأجنبية على رغم من تلك المخاطر فمردّه الى أسباب عدة تم تلخيصها في الأدبيات الإقتصادية وفق راينهاردت وروغوف وسافاستانو [2003] أولاً، بصعوبة تسويق سندات الدين بالعملة الوطنية خصوصاً للبلدان الناشئة التي تعاني من عجز مالي وتراكم ديون وحاجات تمويلية متواصلة، وبالتالي تلجأ إلى إصدار سندات اليوروبوندز للحصول على تمويل على الصعيد الدولي كون السندات بالعملات الأجنبية يمكن إدراجها في الأسواق الخارجية. ثانياً، كون إصدار سندات اليوروبوندز عمومًا يكون غالبا بمعدلات فائدة أقل من أسعار الفائدة على سندات الخزينة بالعملة الوطنية (نظرًا للاختلاف في علاوة المخاطرة، مخاطر العملة أكبر من مخاطر البلد).





من هنا، تلجأ الدولة الى إصدار اليوربوندز وزيادة حصة الدين بالعملات الأجنبية من مجمل دينها بغية خفض خدمة الديون المتوجّبة عليها.. وهذا تحديداً ما حصل في لبنان وكان عملياً من أبرز نتائج الهندسات المالية التي استبدلت قسماً من الديون بالليرة اللبنانية بأخرى بالعملات الأجنبية حيث لعب المصرف المركزي دور الوسيط لتسويقها خصوصا مع المصارف اللبنانية، وهذا ما يفسّر استقطابها دولارات عام 2016 أوحت بفائض في ميزان المدفوعات الذي كان يشهد تراكم عجوزات دراماتيكي منذ العام 2011 تحديداً.



في الوقت نفسه، كلما زاد خطر عدم السداد في نظر وكالات التصنيف الدولية (فيتش، موديز، ستاندرد آند بورز) كلما تدهور التصنيف السيادي الممنوح لسندات اليوروبوندز اللبنانية، الأمر الذي يتطلب زيادة أخرى في أسعار الفائدة لإقناع الدائنين المستقبليين بالاكتتاب في الإصدارات الجديدة، ما يساهم في نمط يعرفه بونزي بالتوازي مع الحفاظ على تأثير تصاعد الدولرة وتراكم عجز ميزان المدفوعات في لبنان منذ اندلاع الأزمة في سوريا عام 2011، ما أدى إلى صافي التدفق السنوي للعملة الأجنبية من الدولة، مما يحدّ من مساحة مناورة مصرف لبنان.



إن مخاطر التخلف عن السداد هذه ليست المكون الوحيد لمخاطر البلد، لكنها المكون الرئيسي. تساعد المخاطر الأخرى، مثل مخاطر السوق أو مخاطر السيولة أو حتى المخاطر المالية أو السياسية، في تحديد مستوى المخاطر في بلد ما. ويعد مفهوم مخاطر الدولة أمراً بالغ الأهمية لأنه يعكس ثقة المستثمرين في الدولة. وإن مستوى هذه المخاطر يحد من تدفقات رأس المال إلى البلاد.



ما هي محددات مخاطر البلد؟



وفقاً لإدواردز (1984)، يرتبط مستوى الفارق إيجابياً بنسب الدين/ الناتج القومي الإجمالي وخدمة الدين، وسلبياً بالاحتياطيات الأجنبية / نسب الناتج القومي الإجمالي والميل إلى الاستثمار. وبالنسبة الى كلين وبارنز (1997) يعتبر نمو الناتج المحلي الإجمالي ونمو الصادرات من المحددات المهمة.



وقد يؤدي تقليص الموارد العامة إلى زيادة مخاطر التخلف عن سداد أدوات الدين الحكومية، وقد يؤدي إجبار المستثمر على الاحتفاظ بالأصول بالعملة الأجنبية فقط إلى زيادة علاوة المخاطرة على هذه الأدوات. كما يمكن أن يؤدي نظام سعر الصرف الثابت للغاية إلى مزيد من الجمود (الأجور والأسعار) ما قد يؤدي إلى تقلبات أكبر في الإنتاج، وبالتالي إلى علاوة مخاطر أكبر على أصول الدفع.





والترجمة العملية لذلك في لبنان تظهر أنه كان قادراً على تحسين مؤشراته الاقتصادية تدريجاً قبل عام 2011 تاريخ اندلاع الأزمة السورية وتدهور الاستقرار السياسي الداخلي، وقد تمكّن فعلياً من خفض نسبة دينه العام/ الناتج المحلي من 180 % عام 2006 إلى 138 % عام 2011 فيما سجّل معدل النمو الاقتصادي نحو 8 % لأربع سنوات متتالية حتى العام 2010 قبل أن يهبط دراماتيكياً الى ما بين 1 الى 2 % في فترة 2011-2017... وازدادت بنحو حاد ديون الدولة اللبنانية ونفقاتها ومعظمها نفقات جارية يسيطر عليها عبء رواتب القطاع العام حيث ازداد التوظيف بدل الترشيد والإصلاح فضلاً عن عجوزات قطاع الكهرباء المتواصلة والتي تستنزف سلفات الخزينة، وكذلك الفوائد على الدين العام، فيما سَعت دولرة جزء من الدين الى تخفيف خدمته.



منذ اندلاع النزاع والأزمة في سوريا البلد الحدودي الرئيسي للبنان وتدفق أكثر من 1.5 مليون لاجئ سوري الى أراضيه، أو ما يقرب من 40 % من سكانها اللبنانيين، شهد لبنان انخفاضاً في معدل نموه الى 1 % في نهاية عام 2019 وزيادة في معدل الدين العام/ الناتج المحلي الإجمالي إلى أكثر من 176 %، وكذلك تدهور تصنيفه السيادي لدى وكالات التصنيف الدولية وعجزاً ملحوظاً في ميزان المدفوعات، وبالتالي شهد انخفاضاً مستمراً في احتياطاته من العملات الأجنبية، والتي تعتبر ضرورية للدفاع عن ثبات سعر الصرف. وتوقّع حاملو سندات اليوروبوندز الإعلان عن تخلف الدولة اللبنانية عن سداد الديون الإجمالية بالعملات الأجنبية والتي تبلغ نحو 30 مليار دولار، نصفها مملوكة من مصارف تجارية لبنانية (نحو 15 مليار دولار أميركي) و5.7 مليارات دولار في حوزة مصرف لبنان.



واضطر مصرف لبنان الى الاكتتاب في الوقت تفسه في غالبية سندات الخزينة بأسعار فائدة منخفضة لتقليل ثقل الدين العام الذي كانت حصته بالعملات الأجنبية تتزايد في استمرار مع إصدارات سندات اليوروبوندز، التي سعى إلى إعادة بيعها الى المصارف التجارية من خلال «الهندسات المالية» وإلى تجديد احتياطياته من العملات الأجنبية باستمرار للحفاظ على هامشها للتدخل في سوق الصرف الأجنبي واستمرار سعر الصرف الثابت الذي أثبت أنه الاستراتيجية الأكثر فاعلية للتحكم في استقرار القوة الشرائية. الجمود في الدولرة حتى بعد أكثر من 22 عاماً من استقرار سعر الصرف. ولقد أدت مشاركة القطاع المصرفي في سياساته إلى تضخيم مستوى انكشافه للقطاع العام من خلال اكتتابه بسندات الخزينة بالليرة اللبنانية والدولار وشراء شهادات الودائع من مصرف لبنان بالدولار المقدرة لدى بلومبيرغ بنحو 52.2 مليار دولار الذي يجب إضافته إلى نحو 17.5 مليار دولار من الاحتياطيات المطلوبة على ودائع العملات الأجنبية، أو نحو 70 مليار دولار لإجمالي الودائع بالعملات الأجنبية والتي كانت تبلغ نحو 120 مليار دولار مع اندلاع الأزمة، علماً أنه قبل اتخاذ إجراءات تقييدية على حركة رؤوس الأموال، يعاني لبنان منذ 2011 عجزاً في ميزان المدفوعات بلغ في نهاية عام 2019 نحو 4351 مليون دولار، بينما بلغ العجز التراكمي منذ عام 2011 نحو 14,515,9 مليون دولار (باستثناء عام 2016، حيث أصبح الرصيد فائضاً بنحو استثنائي بسبب «الهندسات المالية» لمصرف لبنان التي جعلت المصارف تستقطب رساميلاً بالدولار من الخارج للمشاركة فيها...).





في الوقت نفسه، كلما ازدادت مخاطر سداد سندات اليوروبوندز في نظر وكالات التصنيف الدولية كلما تدهور التصنيف السيادي الممنوح لسندات اليوروبوندز اللبنانية، الأمر الذي يتطلب زيادة أخرى في أسعار الفائدة لإقناع الدائنين المستقبليين بالاكتتاب في الإصدارات الجديدة، ما يساهم في نمط عرفه Ponzi بالتوازي مع الحفاظ على تأثير ثبات الثورة بذاكرة الأزمة السابقة في الثمانينات والفارق المنخفض في العائد بين الليرة اللبنانية والولايات المتحدة، بالإضافة إلى عجز تراكمي في ميزان مدفوعات لبنان منذ اندلاع الأزمة في سوريا عام 2011، ما نتج عنه تدفق صاف للعملات الأجنبية سنوياً من لبنان الى الخارج، وحَدّ من هامش تدخّل المصرف المركزي في السيطرة على استقرار الصرف.



يبقى القول انه إذا كانت عوامل المخاطرة وضعف الاستقرار السياسي أساسية في الضغوط على مجمل المؤشرات الاقتصادية، فمن غير الواقعي التطلّع الى مخارج إقتصادية بمعزل عنها. وقد برهنت تجارب السنوات الماضية أنّ كل المعالجات الظرفية ما كانت سوى إدارة أزمة لا بل مجرد تأخير لانفجارها، أمّا المعالجة الحقيقية فتحتاج التصويب الى مكامن الخلل لإيجاد المفاتيح المناسبة لحلول مستدامة.