أحمد الزعبي- الانكفاء السُّني والبدائل.. والمراجعة التائهة

  • شارك هذا الخبر
Monday, January 24, 2022

تقدم المشهد السياسي في الأيام الأخيرة حديثُ اعتزام الرئيس سعد الحريري إعلان عزوفه عن الترشح للانتخابات النيابية في كلمة يلقيها عصر اليوم، وكان سبقه الرئيس تمام سلام باتخاذ القرار ذاته، فيما حضر في المشهد السني مؤخراً بيان معبِّر لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، تسجّل فيه مخاوفها على الكيان والصيغة والدولة والنظام، وهي التي لطالما نأت بنفسها عن الشأن السياسي التفصيلي منذ تأسيسها قبل 144 سنة وحافظت على هذا التقليد.


الأزمة في لبنان وطنية تاريخية ووجودية، وبالتالي فإن المعركة بهذا المستوى، لا مجال لمناقشة تفوُّق مكوِّن على آخر، بل لتصحيح مسار داخلي أدّى اختلاله إلى اختلال في المشهد الوطني المأزوم أصلاً
والاستحقاق النيابي، إن حصل، ليس آخر الدنيا وهو حتماً ليس مناسبة للتشفّي وتصفية الحسابات، فالأزمة الوطنية كبيرة وعميقة، والمشكلة في أساسها ليست في شخص أو تيار أو طائفة، بل في طبقة سياسية نهبت الدولة بعد ان خربتها، وفي عهد مشؤوم، وفي ميليشيا تختطف البلد بكل ما للكلمة من معنى.. وقد تفرّع عن هذا الأساس الموبوء، مئات الظواهر البالية في السياسية والاقتصاد وعمل الإدارة العامة والأجهزة والمؤسسات، سرقة وهدراً وفساداً وتخريباً وفلتاناً للحدود وتسليماً للبلاد إلى حزب مسلّح، إلى درجة يئس فيها المجتمع الدولي والعرب ومعظم الشعب اللبناني من إمكانية التغيير في أفكار وسلوكيات المنظومة الحاكمة.

من صنع التاريخ إلى الحلقة الأضعف

في الأثناء، كثر الكلام والكتابة والتنظير والتحليل مؤخراً عن الشأن السنيّ، وعن أسباب ضمور الفاعلية والتأثير في المشهد الوطني والسياسي، بين حريص ومشفق، ومندس وباحث عن دور وصائد فرص، تماماً كما حصل بعد كارثة 14 شباط 2005، وفي كلّ ذلك، ما عاد مقبولاً، ليس من اليوم بل منذ سنوات، تجاهل أن أزمة عميقة تضرب المكوّن السني، لدرجة تجرّأ فيها كثيرون على اعتباره الحلقة الأضعف في المجتمع السياسي اللبناني، في لحظة مفصلية مخيفة. هذا الكلام، مجدداً ومجدداً، ليس تغييباً لحقيقة أن الأزمة في لبنان، وطنية تاريخية ووجودية، وبالتالي فإن المعركة بهذا المستوى، وهذا يحيلنا إلى أن الكلام هنا ليس لمناقشة تفوّق مكوّن اجتماعي على آخر، بل لتصحيح مسار داخلي أدّى اختلاله إلى اختلال في المشهد الوطني.

ثانياً، لا مناص من تأكيد أن لبنان يعيش تحت أسر حزب الله والتيار الوطني الحر، الأول استيلائي يتحكم بلبنان وحدوده ومصيره، والثاني شرعن للأول تحكّمه لتغطية شبقه للسلطة والصفقات والمصالح والاستيلاء على الوظائف والأجهزة والأسلاك والنهب. في المقابل، لا يزال السنة على موقفهم التاريخي بأنهم مع دستور الطائف، وشرعيات النظام اللبناني. ولا يزالون يرون أنّ الحلَّ الوطني يتمثّل في سلطة الدولة الكاملة على أرضها ومرافقها وحدودها، وفي حكم القانون، وفي العيش المشترك الواحد. ثالثاً، وهذا أمر مهم، أن الأزمة السنية لا تناقش في مقالات وتحليلات وسجع ولياقات وعواطف، مع الأهمية العميقة لكثير مما كتب، أو على المنابر والشاشات. هي، ولأنها كبيرة وممتدة، تحتاج مقاربات أعمق، في تحديد المسؤوليات وفي رسم الآفاق، والأهم تحتاج ثقة بالذات وبهوية لبنان ودستوره وعيشه الواحد، وبالعالم العربي والعالم الأوسع.


تتعدد التعابير والأزمة واحدة

وبانتظار أن يقول الرئيس الحريري كلمته اليوم، والأسباب التي تكمن وراء قراره، قال الرئيس سلام إنه يريد من وراء عزوفه «إفساح المجال أمام تغيير جدي، من خلال اتاحة الفرصة لدم جديد، وفكر شاب ونظيف، يطمح إلى أهداف وطنية صافية ونقية (..) يستحق أن يعطى فرصة»، أما جمعية المقاصد فأطلقت صرخة بأن البلد يتعرّض لسلسلة «متمادية ومتصاعدة من الطعنات»، وحذّرت من الاستمرار في السياسات التدميرية، وأن «السكوت عن الجريمة ضدّ الوطن هو أيضاً جريمة». وكانت دار الفتوى والمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى ورؤساء الحكومات كرروا غير مرّة الإشارة إلى مكامن الخلل السياسي والوطني الناتج عن تراكمات الفساد وخرق الدستور وتسعير الشعبويات وعزل لبنان عن هويته ومحيطه وتاريخه.

إذن، تعددت المواقف والتعابير، فيما المقصود الأزمة التي يمرّ بها السنّة في ظلّ التركيبة اللبنانية الحالية، بين من يعتقد أنهم غيبوا أنفسهم عن المشهد العام وعن القرارات الكبرى ورسم السياسات، ومن يرى أن المسؤول عن هذا الأمر الرئيس الحريري، ليس من لحظة إعلانه العزوف عن تأليف الحكومة، بل قبل ذلك بكثير. إذ ما هو أكيد أن شرائح واسعة من السنة يرون، منذ احتلال بيروت في 2008، إلى خطيئة تسوية 2016 المشؤومة، إلى انتخابات 2018 البائسة، وما بين هذه التواريخ من انتقاص وتهميش في النظام والوظائف والدور، خروجاً من المعادلة الوطنية، وأنهم، وهم الذين قدموا في تاريخ لبنان المعاصر ثلاثة رؤساء حكومة ومفتياً للجمهورية ورجالات وطنيين ومفكرين كباراً شهداء، وكلُّ ذلك بسبب التمسّك بالعيش المشترك والميثاق الوطني ووثيقة الوفاق الوطني والدستور وبعلاقات لبنان العربية والدولية.. يجدون أنهم قد نقلوا مرغمين من الموقف الوطني الصانع للتاريخ إلى زواريب التبعية وتقديم التنازلات المخزية بحجة التحالف!!

لا فائدة من الشكوى

هل يصحّ تحميل سعد الحريري منفرداً مسؤولية الانكسار والانكفاء؟ وهل يصح استثناء كثيرين كانوا شهوداً على التراجع والإرباك أو ساهموا فيه، وهم فاسدون أو فاشلون أو انتهازيون وقاولوا أو قامروا بالطائفة وتاريخها ورصيدها وشبابها؟ وهل يصح الاستمرار بتخيير السنة بين التهميش والانكفاء أو الاتهام في وطنيتهم؟ وهل يصح القول بأن تيار الشعبوية والسلاح أوصلوا السُنة إلى زاوية الانكسار، أم أن القيادة السنية تتحمل مسؤولية هذه النتيجة على قاعدة أن العمل السياسي والوطني فنّ ومناورة ومراكمة وليس أقداراً لا تردّ؟

أيضاً وأيضاً، هل يستقيم أن نوصل ميشال عون للرئاسة ثم نشتكي من خرقه للدستور وتطاوله على مقام رئاسة مجلس الوزراء، وأن نمكّن جبران باسيل، من الوصول لمجلس النواب ثم من الاستيلاء على البلد ثم نهاجمه لنزيد من شعبيته لدى جمهوره. وأن نعقد الصفقات مع «حزب الله» ثم نُصدر بيانات رفض التطاول على المملكة العربية السعودية؟ وأن نرمي السنة، مناطق وجمهور وشباباً ونخباً، في اليأس والتضييق والتهميش والبطالة واليأس والسجون والظلم والاستبعاد من المناصب والمواقع، ثم نظهرَ بمظهر المغلوب على أمره طالبين التعاطف هذا ليس عملاً سياسياً أو وطنياً، هذا فشل وتذاكي مرفوض، وقد كتب مرّة أستاذنا رضوان السيد «بعد كلّ خطابٍ للحريري فيه شدٌّ للعصب، تندفع النخب السنّيّة والجمهور من وراءه. وبعد كلّ انتكاسة، يندفعون أكثر حنوّاً عليه وحفظاً له. ما أخذنا العبرة ولا راجعنا الدروس، ولا شخَّصْنا الوضع الذي نحن فيه. وفي كلّ الأحوال ما فكّر فريقٌ معتبرٌ منّا بالدعوة إلى تغيير القيادة سبيلاً إلى الفهم الأفضل والكفاءة الأعلى».


هنا يبدو أن لا فائدة من الشكوى أو الاستمرار فيها. فالوقائع صارت معروفة جداً، وما ترتب عليها من نتائج ومآلاتٍ بات معروفاً أيضاً، والسلامة السياسية والوطنية تقتضي النظر نحو المستقبل.

ماذا بعد؟

قد يصل الحريري، بفعل قراءة شخصية للتجربة إلى قرار الاعتزال الكلّي أو الجزئي، وهذا شأنه، لكن ذلك، لا يعني، ولا ينبغي له أن يعنيَ أبداً، أن الطائفة ماتت وباتت مشاعاً لكل طامع. السنّة، أفراداً وجماعة ومؤسسات ومكوّناً وطنياً، فيهم الكفايات لخوض الاستحقاقات كلها، وتولي المسؤوليات من دون تفريط أو تفويت، وفي إمكانهم أن يكونوا البديل لمن يريد تقييم تجربته، وحتماً عن كل الطارئين والفاسدين الذين يعملون على وراثة هذا أو ذاك. الطائفة تزخر بالنخب القادرة على الحضور في البرلمان والحياة السياسية والوطنية والوزارية والاقتصادية والإدارية والأكاديمية والديبلوماسية والقضائية والأمنية والعسكرية.. وليطمن الجميع بأنها ليست متروكة لأهواء الطامحين وصائدي الفرص.

نحن قادرون، أولاً، على الذهاب إلى خياراتٍ سياسيةٍ أُخرى خارجية وداخلية، وأن لا نبقى مرتهنين إلى الثنائيات والثلاثيات والرباعيات، وإلى «فلان صديقي» أو إلى الخضوع والإخضاع واللامبالاة، وأن لا نبقى أسرى الانتظارات التي تستنزف الجهد والوقت والإمكانات. وثانياً، على إنتاج البدائل، وكثيرة هي الكفاءات التي تعبت من الإرغام على الخضوع أو السكوت أو تجرّع التهميش، وهي قادرة على شبك أيديها مع القوى الوطنية الحيّة التي تسعى للتغيير، واستعادة النصاب الوطني كاملاً غير منقوص.

الأزمة في لبنان، أزمة كيان ووجود وهوية ووطن أسير. لا ينفصل فيها المعنى المتصل بمكوّن عن المكونات الأخرى، حتى تلك التي تعيش وهم القوّة... وهنا بيت القصيد.