صحيح أنّ الـهجرة ليست ظاهرة جديدة على الـمجتمع اللبنانـي، وقد بدأت فـي أواخر القرن التاسع عشر، قبل إعلان "لبنان الكبـيـر" بعقود، وتـحديداً بعد مـجازر 1860، ثـمّ تفاقمت خلال الـحرب العالـمية الأولـى وبعدها، بسبب الـمجاعة، بعدما فرضَ العثمانيون حصاراً على الـجبل ومنعوا دخول القمح إليه. فغادر البلاد أكثر من 250 ألف شخص. بعد الإستقلال، شهِدَ لبنان مرحلة إزدهار واسعة فـي مـختلف الـمجالات، الإجتماعية منها والإقتصادية والفنية، فأصبح مقصداً سياحياً مهمّاً، ومنارةَ إشعاعٍ وحضارة. وعلى رغم حوادث 1958، والإنقسام الذي تسبّب به الإنضمام إلـى "حلف بغداد"، وذيول إنـتخابات عام 1957، إنـتقل لبنان فـي عهد الرئيس كميل شـمعون إلـى عصر الـحداثة والإزدهار، وأصبحت بـيـروت عاصمة عالـمية، وقُبلة الشرق والغرب، وسُـمّيَ لبنان فـي حينه "سويسرا الشرق". ثـمّ بدأت مع الرئيس فؤاد شهاب سياسة الإصلاح والإنـماء الـمتوازن، وتـميّز عهده بالإستقرار الأمنـي وبالإصلاح الإداري والإقتصادي. الـموجة الثانية من الـهجرة، بدأت بعد إشتباكات عدّة بـيـن الـجيش اللبنانـي والفدائـيـيـن الفلسطيـنـيـيـن، وفرض "إتفاق القاهرة" على اللبنانـيـيـن عام 1969، ثـم تفاقمت خلال الـحرب الطويلة والـمُدمِّرة التـي إستمرّت من 1975 حتـى 1990 وقضت على البشر والـحجر والإقتصاد والإزدهار... وقُدِّرت أعداد الـمهاجرين فـي تلك الفتـرة بـنحو 900 ألف شخص. أمّا الـموجة الثالثة من الـهجرة، فقد بدأت بعد موجة الإغتيالات، وذلك بعد صدور القرار الدولـي 1559 فـي 2 أيلول 2004، الذي دعا إلـى إنسحاب كافة القوات الأجـنـبـيـة من لبنان، وحلّ كافة الـميليشيات اللبنانية وغيـر اللبنانية، ونـزع سلاحها، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها. فكان ضحيّـتـه الأولـى الرئيس رفيق الـحريري الذي إتـهمه السوريون بالـمساهـمة فـي وضعه. وبعد خروج الـجيش السوري فـي 26 نيسان 2005، توالت موجة التـفجيـرات والإغتيالات، وطاولت نواب فريق 14 آذار وأركانه، وضابطيـن كبـيـرين فـي الـجيش اللبنانـي وقوى الأمن الداخلي. ثـم توالت الأحداث : "حزب الله" يـجتاح بيروت فـي 7 أيار 2008، ويفرض "إتفاق الدوحة". بدء الـحرب السورية فـي آذار 2011، ونـزوح أكثر من مليون سوري إلـى لبنان. الرئيس ميشال سليمان يغادر قصر بعبدا فـي 24 أيار 2014، من دون أن يسلِّمه إلـى سلفه. إستمرار الفراغ الرئاسي حتـى 31 تشرين الأول 2016. إنـتـفاضة 17 تشرين الأول 2019، إحتجاجاً على الوضع الإقتصادي الـمتـردّي. إنـفجار مرفأ بـيـروت فـي 4 آب 2020. وجائحة "كورونا". كل هذه الأحداث وغيـرها، والإعتصامات فـي قلب العاصمة بـيـروت، والفراغ الرئاسي والـحكومي، والـخلاف الـحادّ بـيـن أهل السلطة على تقاسُم الـحصص والـمغانـم، والـهدر والفساد فـي كل مَرافِق الدولة من دون حسيب ولا رقيب، والسياسات الإقتصادية والـمالية الـخاطـئـة، وتعاظُم العجز والـمديونية، والتغاضي عن التهريب عبـر الـمعابر غيـر الشرعية، والنزوح السوري، والسلاح الـميليشيوي وغيـر الشرعي، والإنـخراط فـي "الـمحور الإيرانـي"، ومُعاداة الدول الصديقة العربـية والغربـية، وانفجار 4 آب... ساهـمت وسرّعت فـي انـهيار البلد وإفلاسِه، وفـي خسارة الليـرة اللبنانية 90 فـي الـمئة من قيمتها، وفـي إفقار الشعب اللبنانـي وإذلاله وتـهجيـره. الآن، أكثر من 77 فـي الـمئة من الشباب يفكِّرون بالـهجرة والسعي إليها. لـم تـقـتصِر طوابـيـر الذلّ على الـمحطات والأفران والصيدليات، بل وصلت إلـى مراكز الأمن العام، حيث يتوجّه اللبنانيون منذ ساعات الفجر الأولـى لـحجز دور لـهم، وتقديـم طلب للحصول على جواز سفر جديد، مُنـتـظرين بفارغ الصبـر ساعة الرحيل عن وطنٍ حوّلتهُ الـمنظومة الفاسدة التـي تسلّطت عليه إلـى جحيم.. فـي ظلّ غياب الإستقرار السياسي والأمنـي، والإنـهيار الـمالـي والنقدي، وفقدان أبسط مقوّمات الـحياة، ستـزداد موجات الـهجرة وتـتعاظم، ولن يـبقى فـي لبنان سوى الكهول والغرباء... هل يعرف الرؤساء والوزراء والنواب أعداد الذين يهاجرون يومياً، تاركيـن أرض أجدادهم للغرباء ؟ هل يُدرِكون خطورة إفراغ الوطن من شبابه وأطبائه ومُهندسيه وقُضاته وأدمغته ومفكّريه، أم هذا هو الـمطلوب لتغيـيـر هوية لبنان ؟