شارل الياس شرتوني- الخطاب المنعطف... قراءة في مدلولاته

  • شارك هذا الخبر
Sunday, February 28, 2021

"…نحن سفراء في المسيح وخدمة المصالحة بين البشر … " بولس الرسالة الثانية الى اهل كورنتس ، الفصل الخامس ،١٨-٢٠

ان خطاب البطريرك الماروني هو علامة فارقة في زمن الضحالة السياسية والاخلاقية التي احيلت اليها البلاد منذ ثلاثة عقود، بفعل الاحتلالات المتوالية واصطناع النخب السياسية والتقاطع بين الاثنين، وما أدوا اليه من تحول الدولة اللبنانية الى اداة استلاب ضربت الشرعية الوطنية والمقومات السيادية، وقوضت دولة القانون لحساب تشريع الاحتلالات، وتزوير الارادة الوطنية، وتطبيع نهب الاموال العامة، وتثبيت الاقفالات الاوليغارشية، واستهداف مرتكزات الاجتماع السياسي اللبناني، لجهة الخيارات السيادية والتعددية والليبرالية والديموقراطية، التي بقيت وحدها حية وفاعلة من خلال مجتمع مدني يتمتع بالاستقلالية المعنوية والادائية تجاه بنية دولتية نافية لها وتستهدفها. يندرج الهجوم المركز على مداخلة البطريركية المارونية في خانة الاستهدافات الثابتة التي طالت الكيان اللبناني في شرعيته الوطنية، وخياراته المنشئة، وأمنه الوطني، والمكتسبات الديموقراطية والليبرالية والتحديثية التي رافقت مساره في منطقة حكمتها الانظمة السلطانية، والمشاريع التوتاليتارية، والدول البوليسية، وغياب الحقوق والحريات الاساسية. ان سوء النية وفقدان الموضوعية، والروح الميثاقية والديموقراطية، الذي تظهر مع مواقف المرجعيات الدينية الشيعية، وصمت المرجعيات الدينية السنية وتيار المستقبل خلافا للحراكات المدنية في أوساطهم، و ترقب الزعامات الدرزية، وانصياع تيار ميشال عون لاملاءات الفاشية الشيعية التي تحكم اداءه، والبلف الايديولوجي الغبي لليسار الذي قام منذ نشأته على فكرة تدمير الخصوصية التاريخية اللبنانية في كل مندرجاتها، هي مؤشرات ثابتة للعداوة الايديولوجية التي تكنها هذه التيارات ،على تنوع تعبيراتها، لما أسس له الكيان الوطني اللبناني في هذه المنطقة من خيارات فارقة ومناقضة لكل ما اتسمت به على مدى مئة عام من مناخات ظلامية وانظمة ديكتاتورية ومشاريع سيطرة دمرت فكرة الحداثة بكل مندرجاتها، وأحالت مجتمعاتها الى مستنقع راكد تتوالى عليه الانظمة السلطانية .هذه هي مدلولات الرفض التي تناولت الموقف البطريركي الماروني الذي سوف اتناول خلفياته:
أ- لقد حرصت البطريركية المارونية منذ نشأة لبنان الكبير على حماية الكيان الوطني اللبناني الذي كانت وراء نشأته، على خط التواصل مع إرث الحكم الذاتي الذي تأسس مع تجربة الإمارة (١٥١٦-١٨٤١)، والقائمقامتين (١٨٤٢-١٨٦١)، والمتصرفية ( ١٨٦١-١٩١٤)، ومع حيثيات إنشاء الكنيسة المارونية (٤٥١-٧٤٦) الرافضة لأحكام دار الإسلام والثقافة السياسية الناشئة عنه، ما يعني أن دورها نابع من ارث تاريخي له مسوغاته وليس من اعتبارات نفوذ سياسية طارئة وانتهازية. لقد انطلقت المداخلة المعاصرة من مقولة عبر عنها البطريرك الياس الحويك عند نشأة الكيان السياسي اللبناني عندما اعتبر هذه التحول عبورا من "الوطنية الدينية الى الوطنية السياسية"، التي تأسست مع دولة لبنان الكبير (١٩٢٠) على أسس الحكم الدستوري ومبادىء دولة القانون وما تفترضه من مفاهيم ومعايير واداءات ناظمة. التزمت البطريركية دورها التاريخي على قاعدة التمييز الضنين بين موجبات عملها الخدمي ككنيسة، وموجبات التمييز المبدئي بين الدين والسياسة الذي عبر عنه الدستور اللبناني عبر عدم تبني أي خيار ديني أو ايديولوجي، كتعبير عن حياد الدولة وضمانها لتعددية المعتقدات ضمن الاصول الدستورية الناظمة (مبدأ الجمهورية الاجرائية)، واندرجت مداخلاتها في المجال العام على قاعدة الدفاع عن الكيان الوطني، وحماية الخيارات الديموقراطية والليبرالية التي اتسمت بها الحياة السياسية اللبنانية. لقد لعبت دورها من منطلق التزامها بدورها التاريخي، ولكونها فاعلا في المجتمع المدني من خلال اعمال الكنيسة الخدمية( التربية، الصحة، العمل الاجتماعي والثقافي والرياضي … ) وكمرجعية معيارية تساهم كما سواها من مؤسسات المجتمع المدني في النقاش العام حول اشكاليات الحياة العامة ( راجع، مذكرات مجلس الاساقفة، والرسائل البطريركية، ونصوص المجمع الماروني ،١٩٩٦). هذه التوضيحات أساسية من اجل تبديد الالتباسات التي تعبر عن جهل الكثير من المعترضين لمسوغات العمل الكنسي، والعمى الذي يكتنف بؤس اليسار الايديولوجي ومصادر الهاماته التوتاليتارية، ومواقف الاسلام السياسي والكلاسيكي التمييزية بحق غير المسلمين، وتجاه اي شكل من أشكال التعددية ورؤيته الشمولية للانتظام السياسي. الأصوليات الاسلامية الشيعية والسنية واليسار التوتاليتاري يلتقيان على خط تقاطع منازعة شرعية الكيان الوطني اللبناني، والخيارات التعددية والليبرالية والديموقراطية التي تلازم الاجتماع السياسي اللبناني.
ب- مداخلة البطريرك الحالية قد تمت على خلفية السياسات المتقاطعة على خطوط نزاعات الداخل والخارج، وتعطيل الدولة من قبل سياسات النفوذ الشيعية والسنية والدرزية وملحقاتها في الاوساط المسيحية واليسارية نتيجة لسياسات التدمير المنهجي لاقتصاد ما بعد الحرب من خلال السياسات الريعية، والنهب المنهجي للاموال العامة والخاصة من قبل هؤلاء، واستهداف السلم الاهلي، والتوازنات البنيوية للاجتماع السياسي اللبناني لجهة قيمه الليبرالية والديموقراطية والاستقرار الامني من خلال الاغتيالات المتتالية، وعملية المرفأ الارهابية التي توخت من خلال عمل التدمير الشامل تبديل الديناميكيات المدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية على نحو يضرب قدرات المجتمع المسيحي اللبناني، ويؤدي الى هجرة سريعة في أوساطه، كما أكدته المداخلات العقارية والتصريحات التي تلت الانفجار (سماسرة رندى بري، وتصريحات نبيه بري ووسطه حول ضرورة تنظيم الخلاف الشيعي-السني في ظل هجرة المسيحيين، وفي الحالين لم يصدر اي تكذيب …). مداخلة البطريرك كانت من منطلق الواجب الاخلاقي والخدمي والمسؤولية التاريخية الذي يمليه عليه عمله الكنسي، والتزاماته المواطنية كفرد ورئيس لمؤسسة كبيرة من مؤسسات المجتمع المدني وممثل لمجموعة تاريخية أساسية في البلاد، والدعامة الأساسية لمناعته تجاه كل محاولات تطويع حرياته واستقلاله عن دوائر النفوذ السلطوية الداخلية والخارجية. ان اي تقاعس من جانبه في هذا الصدد هو تراجع وخيانة لموجبات عمله الخدمي، وواجباته داخل المنتدى المدني لجهة بلورة النقاش العام وأطره التشاركية. يلتئم حزب الله والاصوليات الجهادية واليسار الفاشي حول هدف مشترك، تدمير الكيان الوطني اللبناني، وتفكيك أوصال دولة القانون، وادخال لبنان في انفاق الصراعات العربية والاسلامية، التي استهدفت على عقود النموذج الانساني والسياسي والحضاري الذي كان بأساس الصيغة اللبنانية، وسر صمودها على مدى عقود ستة استهدفت حيثياتها الوطنية والمجتمعية وخياراتها الليبرالية. ان تواجد سيدات محجبات في بكركي ورفعهن لشعارات مؤيدة لمبادرة الكرسي البطريركي (بما فيها صورة البطريرك) هي على قدر كبير من الرمزية التي تقول دون مواربة، نحن مع من يحاكي الامنا ومعاناتنا وتطلعاتنا من أجل غد افضل، والخروج من واقع الاستباحة السياسية لحقوقنا ولقمة عيشنا وحرياتنا، من قبل طبقة سياسية لم تترك قيمة انسانية وديموقراطية الا وداستها.
ج- لقد رفع الخطاب البطريركي مستوى النقاش السياسي والعام في البلاد الى حد ظهر وفضح هزال ودناءة الاداء السياسي والسياسيين في هذا البلد المنكوب باوليغارشيات بنت كياناتها السياسية والمعنوية وثرواتها على حساب دولة القانون، وحقوق اللبنانيين الأساسية وكرامتهم الانسانية وأمنهم وحرياتهم الوجودية، ومشاركتهم بالحياة العامة من خلال مؤسسات تمثيلية وحكومية حقيقية وغير تابعة لمراكز النفوذ التي فصلوها على قياس مصالحهم. ان مهزلة تشكيل الحكومة بين اعضاء الاوليغارشيات المحاصصة تنبىء عن درجة احتقارهم للتداول الديموقراطي، وتجاهلهم غير الموارب للحراكات المدنية والآفاق التغييرية التي استحثتها، واخذ لبنان رهينة لسياسات نفوذ اقليمية متضاربة ومشاريع انقلابية لا ترى في لبنان سوى منطلقا لاهدافها في ظل انهيارات اقليمية معممة. إن تركيز الخطاب على الالهامات الاخلاقية والروحية التي تستوي على خط التداخل بين قيم الخير العام والشراكة والمحبة والصداقة واحترام أسس واتيكيات دولة القانون، والتمييز المبدئي بين الدين والسياسة، والتمسك بالتعددية، وبقيم الاعتدال المبدئي والاحتكام الى الحوار بديلا عن سياسات التطويع، ودعوة المواطنين الى حمل مسؤولياتهم الديموقراطية والمدنية لجهة الدفاع عن حقوقهم وحرياتهم العامة والخاصة، والتحقيق المالي الجنائي، وشفافية التحقيقات العائدة لجريمة المرفأ الارهابية، والاغتيالات السياسية، كافية للتدليل عن طبيعة هذه المداخلة ودورها الاستثنائي في بلورة نقاش ديموقراطي جدير بهذه التسمية وسط هذا الاسفاف السياسي العميم، والانحطاط الاخلاقي الذي يلف كل هذه الطبقة السياسية برمتها. لا سبيل لكل ذلك كما قال البطريرك الا في ظل مؤتمر دولي يحمي حرية التداول بين اللبنانيين ويضمن دستوريا استقلالهم عن سياسات المحاور التي دمرت لبنان، على نحو دوري، على خط تقاطع الصراعات الاقليمية المفتوحة. ان الخطاب المدني الراقي يتطلب رقيا مماثلا يسمح لهذه البلاد الانتقال من حالة النزاعات المفتوحة الى التداول الديموقراطي الحر والساعي الى حلول فعلية في مرحلة مأساوية، حيث تكاثف الازمات الحياتية يحيلنا الى استحالات لم نعهدها. ان سوء النية والاقفالات الايديولوجية وسياسات السيطرة المعلنة، التي تعبر عنها سياسات الفاشية الشيعية الانقلابية وخطابات الكراهية والاستباحة المعنوية، من خلال الكذب وتشويه الحقائق التي تختزل مواقف الحركات التوتاليتارية الاسلاموية واليسارية، هي مشاريع حروب أهلية دائمة تسعى الى احتجازنا ضمن مقولاتها المضللة وآفاقها النزاعية المستديمة. هذا الخطاب هو دعوة لانعطافة أساسية في مرحلة مأسوية لم تعد تسمح بواقع التلاعب بمصير اللبنانيين ، هذا إن ما كان من مجال للتوارد الاخلاقي في هذه البلاد بعد اليوم.