"التدويل" و"إعادة التدوير"!... بقلم د. بلال الصنديد

  • شارك هذا الخبر
Thursday, February 25, 2021

كتب الدكتور بلال الصنديد:

جدد البطريرك "بشارة الراعي" في عظة يوم الأحد 21 فبراير/ شباط 2021 ما سبق أن طرحه حول ضرورة بحث الوضع اللبناني "في مؤتمر دولي خاص برعاية الأمم المتحدة"، فقرأت دعوته على المستوى الوجداني بأنها توقيع مبطن "للحرم" السياسي على الشخصيات التي لم تلق بالاً لتوجيهاته ولم تتفاعل مع مساعيه لاصلاح ذات البين، كما فسر هذا الطرح على المستوى السياسي بأنه استشعار وطني -ومسيحي خاصة- لما ستؤول اليه الأمور في حال بقاء الوضع على ما هو عليه. فشكلت هذه الدعوة، مع ما لاقته من تفاعل كبير عند مروحة واسعة من اللبنانيين، آخر جرعات العلقم التي يلجأ اليها "مريض الموت" بمحاولة منه لإنقاذ آخر الأنفاس!

نعم لهذا الحد من القعر وصل لبنان! ولهذه الحالة من القهر وصل اللبنانيون! ولهذا المستوى من الإحباط والقلق والشك وصل المتمسكون تقليدياً بالسيادة الوطنية، الأمر الذي جعل المطالبة بالـ"تدويل" حلاً مرتجى وبديلاً مأمولاً عن نظام سياسي أفشله القائمون عليه بالتشارك والتضمان مع زمرة المستفيدين والمصفقين.

لا يمكن لأحد أن يزايد على ارتباط الصرح البطريركي بلبنان ولا يمكن لأحد أن يشكك في تمسك "من أعطي مجد لبنان له" بالسيادة الوطنية ؛ فرغم التحذيرات التي قد تأتي من هنا أو هناك -بحسن أو بسوء نية- من مثل هكذا طرح، ورغم التخوّف من أن يؤدي المضي فيه الى وضع مصير الكيان اللبناني برمته على طاولة المصالح الدولية، فإن دعوة رأس الكنيسة المارونية الى "تدويل القضية اللبنانية" لا يمكن أخذها الا على محمل الجدّ بكافة دلالاتها وأبعادها الوطنية والطائفية والإقليمية والدولية.

فاذا ما تجاوزنا مقاصد الطرح التي فصّلها "البطريرك الراعي" في عظته الأخيرة، فان هذه المبادرة من شأنها أن تؤدي منطقياً، وفي أسوأ الأحوال، الى تحريك المياه الراكدة في كثير من الملفات الشائكة وعلى رأسها الملف الحكومي الذي لا يمكن تبرير تأخيره ولا تفسير تعطيله الا من زاوية المناكفة السياسية والمصالح الشخصية التي تربط نفسها بتبدلات ومصالح دولية وإقليمية متوقعة وربما مأمولة.

إن شعور الإحباط الذي يستحوذ على وجدان اللبنانيين بكافة شرائحهم ومؤسساتهم الدينية والمدنية هو الذي يجعل من كل المحاولات والطروحات الانقاذية مبررة وقابلة للنقاش ؛ ففي هذا السياق يمكن أن نتلمس الصدى الواسع الذي لاقته الدعوة البطريركية. من جانب آخر، فان انعدام الثقة بهذه الطبقة الحاكمة، وفيما بينها، يجعل من "كل شي فرنجي برنجي"، ويجعل اللبنانيين متمسكين أكثر بالمقولة الشعبية أن "الكنيسة القريبة لا تشفي!" فهكذا تقرأ مطالبة أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت بنقل الملف من القضاء اللبناني المتهم بالتسييس الى تحقيق دولي قد تكون الجرعة السياسية فيه أرحم! وهكذا يمكن أن تفسر المماحكة السياسية التي تحمل عنوان "التحقيق المالي الجنائي"، وهكذا يمكن أن تفهم كل المؤتمرات واللقاءات والاتفاقيات الإقليمية والدولية التي كانت القضية اللبنانية محورها، منذ اتفاق القاهرة، الى مؤتمر لوزان، الى مؤتمري الطائف والدوحة، مروراً بلقاءات "سان كلو" الفرنسية ومؤتمرات الدعم الاقتصادي والتمويل العديدة...

ورغم جدّية طرح "التدويل" كبديل، فانه قد لا يجدي نفعاً اذا لم يترافق مع عمل جدي على إعادة "تدوير" للنظام اللبناني بكل ما يحتويه وما أنتجه من مخلّفات سياسية، حزبية وأخلاقية، وربما دستورية. فالخطر الجدّي والمحدق الذي يهدد الكيان اللبناني بخصوصيته وقيمه وارثه وحضارته وعيشه الواحد أو المشترك، قد يجعل من "التدويل" مخرجاً مؤقتاً لكنه بنفس الوقت سيشكل حتماً فرصة لتعويم الطبقة الفاسدة التي يجب أن تخضع لسلسلة من عمليات "المراقبة" و"الفرز" و"الجمع" و"النقل" و"المعالجة" وصولاً الى "الطمر" أو "إعادة التدوير".

عندما صرخ الشعب اللبناني "كلن يعني كلن" تكاتف السياسيون وتعاضد المرتزقون منهم لافشال ما قد تؤول اليه شعارات ومحاولات الإصلاح الشعبية، الحقيقية لا السياسية! وهذا ما كرّس مرة أخرى شراكتهم في ما آلت اليه الأمور، حيث يكفي أن نستذكر مساهماتهم الفردية والجماعية -كل حسب قدرته وحجمه- في اسقاط الدولة لنعرف مدى الحاجة القصوى والعاجلة الى التغيير الحقيقي للنصوص وللصوص وطبعاً لما في النفوس.

فقد تشارك ذوو البزات المرقطة والياقات البيضاء، المتعطشون للدماء والمتسابقون الى المال والمتهافتون على السلطة، بسلسلة من الانتهاكات والسرقات والفظاعات بحق الوطن والمواطنين، نستذكر منها ما يلي :

1- مجموعة الحروب الدموية والمعارك العبثية التي ساهمت في تعزيز الانقسام المجتمعي وكبّدت الاقتصاد اللبناني والبنية التحتية والفوقية خسائر فادحة، متكررة ومستمرة، اقتضت المضي بورش اعمار ضرورية كلفت أموالاً طائلة ورتبت ديوناً هائلة، تقاسم معظم الطبقة السياسية منافعها تحت عناوين مخادعة من أبرزها : تسليم الملف الاقتصادي للـ"حريرية السياسية" وتحصين "المقاومة الإسلامية" التي احتكرها حزب الله بغطاء وطني، والاستسلام طوعاً للوصاية السورية!
2- المماطلة بوضع حلول جذرية للملفات المصيرية والقضايا الشائكة والمشاكل العالقة، وذلك كي يبقى الزعيم والوزير والنائب والحزب والتيار قبلة مقصودة وبديلاً لازماً عن الرعاية الغائبة للدولة المنهكة، ولا نواجه في هذا السياق أي صعوبة في استذكار شراء الولاءات وارتهان الذمم، "التزفيت" الانتخابي، التوظيف السياسي والتوزيع الطائفي للصناديق والمجالس والهيئات واللجان على قاعدة "عا السكين يا بطيخ"!
3- تقاسم السلطة والمناصب والحقائب في ضوء قوانين انتخابية مفصّلة على قياس مصالح أصحاب النفوذ وزعماء الطوائف والمناطق، والتوزيع "العادل" جغرافياً وسياسياً وطائفياً للمرافق العامة وللمرافئ والمنافذ الحدودية وللاملاك البحرية فيما بينهم.
4- تحريك ملفات الفساد "غب الطلب" وتناسي ملفاتها وفق المصالح السياسية والطموحات الشخصية والمطامع الذاتية.
5- غض الطرف الجماعي للطبقة الحاكمة عن فشل السياسات المالية والاقتصادية وارتفاع سعر صرف الدولار، مما يعزز الاستنتاج المنطقي بشيوع المسؤولية والتشارك فيها.
6- اهمال كامل للقطاعات المنتجة كالصناعة والتجارة والاعتماد على الاقتصاد الريعي وقطاع الخدمات الذي يرتبط استقراره ونجاحه بجملة عوامل لا يتحكم فيها الداخل اللبناني.
7- التفاوت الواضح في عدالة توزيع الحقوق والواجبات ومقومات التنمية بين الأقضية والمناطق بغطاء طائفي ومناطقي لا وطني.
8- انهاك القضاء وانتهاك حرمته من قبل كافة مكونات الطبقة السياسية اللبنانية، مما جعله موقع تهمة دائمة وعرّضه لكثير من حملات التشكيك وضغوطات التسييس وانعدام الثقة فيه كسلطة دستورية يخضع لسطوة عدالتها كل الهرم الوطني رأساً وقاعدة.

اذا ما اختلى أي لبناني مع ضميره يصعب عليه، حتى لا نقول يستحيل عليه، أن يُخرج السياسي الذي يناصره من مقولة "كلن يعني كلن"، فإما أن يكون الزعيم أو السياسي مشاركاً بالجريمة وإما أن يكون ساكتاً عنها. فصاحب الأمر أو المغلوب على أمره شريك بالمسؤولية ويجب اخضاعه لعملية "إعادة التدوير" اذ ربما تكون فرصة لأن يخرج من لدنه ما يفيد البلاد والعباد.