آنَ الآوان لاستِبدال هذا النَموذَج السياسي الإقتِصادي الّلاأَخلاقي، الذي انبثَقَت منه، مُنذُ التسعينيّات، مَنظومَة سياسيَّة ماليَّة فاشِلَة، تَغَذَّت مِنَ الفَساد والرَيع، وسَبَّبَ سُوءُ إدارتِها واقِعنا المَرير. فَقَد حَمَّلَت لبنان دَيناً حُكوميّاً قارَبَ الـ 95 الف مليار ليرة لبنانيّة مِن جِهَة و35 مليار دولار مِن جِهَة ثانية، كما تَكَشَّفَت فُجوَة في حِسابات مَصرِف لبنان تَجاوَزت الـ 54 مليار دولار هيَ الأساس في إضاعة الناس لأكثَر مِن نِصف إيداعاتِهِم بالدولار.
ومعَ ذَلِك، إمكانيّات المُساءَلة لا تَزال شِبه مَعدومَة لأنَّ القُدرَة على التَعطيل والتَسويف لا تَزال أقوى، وَسطَ تَغييبٍ مُتَعَمَّد لِلأرقام الرَسميَّة الصَحيحة في دَولَة طالَما كانَ الرَقمُ فيها اجتِهادات غَير مُلزِمَة أو وُجهَات نَظَر مُتَناقِضة مِمّا يَزيد مِن إضاعَة البُوصَلَة وَذَرِّ الرَماد في العُيون.
ويَبدو أنَّ الخُطُوات نَحوَ مُعالَجَة الإنهِيارات، كما ظَهَرَ إلى الآن، لا تُوازي مُطلَقاً حَجم الأَخطارِ الحَقيقيّة. يَتَأتَّى ذَلِك مِن حالَة إنكار بَعض المَسؤولين الواقِع الأليم أو جَهل العَديدِ مِنهُم لِلأَرقام ولِحَقيقة الوَضع المأسوي لِلبَلَد، وهوَ ما يُفقِدُهُم زِمامَ المُبادَرة للإصلاح.
لِهَذِه الأَسباب وغَيرِها، نَحتاج اليَوم، وَنحن على أعتابِ الجُمهُوريّة الثالِثة، إلى إنتاج عَقدٍ اجتِماعيٍّ جَديد في لبنان، عِمادُهُ سُلَّم قِيَم هادِف، يُساهِم في بِناء اقتِصادٍ مؤَنسَن يُخَفِّف مِنَ الفَوارِق بَين شرائِح المُجتَمَع قِطاعيّاً ومَناطِقيّاً. وبِما أنَّ لا سَلام يُبنى على القَهر والظُلم بَل على العَدالَة والغُفران، كما قالَ القِدّيس يوحنّا بولس الثاني، عَلَينا كمُجتَمَع أن نَجهَد لإرساءِ مَفهوم الحِوار الدائِم البَنّاء بَينَ مُكَوِّنات الإنتاج، عُمّالاً ورُوّادَ أعمال. وفي هذا السِياق، يُفتَرَض اعتِماد نِظام ضَريبي جَديد، عادِل اجتِماعيّاً وكَفيا اقتِصادّياً، يَرتَكِز على مَبدأ الضَريبة التَصاعُديّة والصَحن الضَريبي المُوَحَّد للأُسرَة، بِما يُساهِم في استِعمال جُزء مِنَ الثَرَوات الوَطَنيّة في تَحقيق النُمُوّ الإقتِصادي المُتوازِن والمُستَدام. نَحنُ في حاجة الى إجراء تَحَوُّلاتٍ جَذريّة في بُنيَة الإقتِصاد الوَطَني لأنسَنَتِه، وإعادة ضَخّ الحَياة فيه؛ فَشِراء الوَقت، كما يَتَوَهَّم بَعضُهُم، لَمْ يَعُد يَنفَع.
لبنان مَشروعُ عَيشٍ مُشتَرَك يُبنى كُلَّ يَوم، ومَشروعُ شَراكَةٍ حَضارِيّة لا عَدَديّة. هُوَ مَدعوّ لِيَلْعَبَ دَوراً رِياديّاً في المِنطَقَة العَربيّة والأورومُتَوسِطِيَّة. هَذا يتَطَلَّب تَنقيَةَ ذاكِرتِنا المُثخَنَة بِجِروح الحُروب وما تَلاها مُنذ التِسعينيّات، وإعادة النَظَر بِسُلَّم القِيَم الذي تَصَدَّعَ مُذّاك، والتَعاطي بِتَسامُح، وقُبول الآخَر بمَحَبَّة empathy، والابتِعاد عَنْ الغَوغائيّة التي هيَ نَقيضُ حُرِّيَة الفِكر، والارتِداع عَن خِطاباتِ الضَغينة، والتَصَدّي لِنَكءِ الجِروح.
لبنان في حاجَة ماسَّة الى مَواقِف مُختَلِفَة ولِكَلام جَديد، فَالمُجتَمَعات لا تَعرِف الجُمود، تَماماً كالأفكار التي غالِباً ما تُشكِّل قوَّة الدَفع لأي تَطوّر. عَلينا استِنباطَ مَشاريع نَهضَوِيّة جَديدة كما فَعَلَ أجدادُنا مُنذُ قَرن، ولَيسَ تَنقيحَ أفكارٍ ماتَت أو العَودَة إلى أضغاثِ أحلام، والأكيد، عَدَم القيام بِرَدّاتِ فِعل على الصَعيد الفِكري. وَالأهَمّ، تَرجَمَة كُلّ ذَلِك بِسُلُوكيّاتِنا
Nous sommes ce que nous faisons.
وَرِثنا مِن الجُمهُوريّة الأُولى المُمتَدَّة حتى أواسِط السَبعينات، حَسَنات في مَجالات كَثيرة، مِنَ النمُوّ الإقتِصادي إلى العُمران إلى بِناء العَديد مِن مؤَسَّسات الدَولَة وإلى الثَقافة وَالفَنّ. لَكِنَّ تِلكَ المَرحَلَة أفضَت الى حُروب أليمَة، مِمّا يَعني أنّنا جَميعاً أخطَأنا بِنِسب متفاوتة، عَن قَصد أو جَهل أو عَصَبيّة. أمّا بَعضُ ما ارتُكِبَ في الجُمهُوريّة الثانية، مُنذُ التِسعينات، ماليّاً وإداريّاً، فَلا يُمكِن اعتِبارُه أقَلّ مِن خَطايا قاتِلة.
- تَعزيز، لا بَل تَأمين الشَفافيّة في مُختَلَف مؤَسَّسات الدَولَة وفي العَمَل السياسي والوَطني عموماً، والإفصاح عَن كُلّ ما يَهُمّ المواطِنين، واعتِبار التَهريب والتَهَرُّب الضَريبي بِمَثابة جَريمَة ماليّة ولَيسَ فَقَط مُخالَفة وتَذاكياً.
- بِناء دَولَة الإنتاج، سِلَعَاً وخَدَمات وتكنولوجيا، مِن خلال تَحفيز المؤَسَّسات الصَغيرة والمُتَوَسِّطة الحَجْم في المَناطِق، ولَيسَ دَولَة الرَيع والسَمسَرات على اختِلاف تَنَوُّعِها، تأميناً لِتَنميَة مُستَدامَة ولِرَفاه اجتِماعي على مَساحَة الوَطَن.
- تَزخيم دَور المَرأة في سُوق العَمَل وخُصوصَاً في القِطاعات ذات القيمَة المُضافَة العاليَة.
- إرساء قِيَم التَضامُن الإجتِماعي، لَيسَ فَقَط بَينَ أبناء مِنطَقَة واحِدَة أو طائفَة أو مَذهَب، بَلْ بَينَ كافَّة المُواطنين بِدون تَمييز أو تَفرِقة، واعتِماد شَبكَة مُتَكامِلَة للحِماية الإجتِماعيّة لا سيَّما لِذَوي الدَخل المَحدود.
- الإلتِزام الوَطني تَربَويّاً وتَعليميّاً. فالإنسان هو إبنُ بيئَتِه، صَحيح، لَكِنَّهُ أيضاً وخُصوصاً إبنُ تَربيَتِه أخلاقيّاً وعِلْميّاً. فَما يَتَرَبّى عَليه ويَتَعَلَمُه هو خَزّانُ ثَروَتِه الحَقيقيّة الذي يَنطَلِق مِنه ملتَزماً بتَطوير نَفسِه ومُجتَمَعِه.
- إعتِماد الدَولَة المَدَنيّة بِكُلّ أبعادِها. فَالإنسان المُواطِن هوَ الأساس ولَيسَ ابن الطائِفة أو المَذهَب. وكما قيل: «علينا أنْ نكونَ مواطِنين قَبلَ أنْ نَكونَ بَشَراً».
يَتَّصِل ذلِك بِإرساء المُساواة الحَقيقيّة بَينَ المُواطِنين بِلا أيِّ تَمييز بَدءاً مِن قانون مُوَحَّد للأَحوال الشَخصيّة. فَمَثَلاً، لِماذا الاستِمرار في التَكاذُب على ذاتِنا وعَلى بَعضِنا بِعَدَم قُبول الزَواج المَدَني إلّا إذا عُقِدَ في الخارِج؟!
عَلى الدَولَة المَدَنيّة التي تُؤَمِّن العَدالة والمُساواة أمام القانون وتُحاكي الحَداثَة وتُواكِب تَطَوُّر الفِكر العِلمي، أن تَكونَ واسِطَة عَقدِنا بَعيداً عَن أساليب التَرهيب وإثارَة الغَرائِز وتَخويف الناس مِن بَعضِها. وهذا يَقودُنا حُكماً إلى صِدق نِيّات القيادات السياسيّة والتِزامِها بِتَنفيذ خُطَّة مُتَكامِلَة على أيدي أُناس أكفياء. دَولَة كهذه لا تُبنى على القِطعَة، أَي نأخُذ مِنها ما يُناسِبنا مَصلَحِيّاً ولا نَهتَمّ بِما يَتَعارَض مَعَ تَطَلُّعات فَريق أو مَجموعَة أفرِقاء وفقَ مَوازين قِوى آنيّة. هَذا ما حَدَثَ ولِلأَسَف، في مَوضوع الّلامَركَزيّة المُوَسَّعة التي وَرَدَت نَصَّاً صَريحاً في «اتِّفاق الطائِف» تاريخ 5 تشرين الاول 1989 وَلَمْ تُقَرّ الى حِينِه أيّ قَوانين لها بِحِجَج واهيَة أو بِتَمييع للمَلَفّ لدى مراجِع عِدَّة.
عَلَينا أنْ نُقِرّ أنَّ زَمَن «التَشاطُر» اللبناني و»المُعجِزَة» اللبنانيّة انتَهى. الشاطِرُ فِعلاً اليَوم هُوَ مَن يَعرِف أنْ يُحَوِّل العَجز إلى إنجاز وهَذه لا تَحتاج إلى مُعجِزَة، بَل إلى نِساء وَرِجال أكفياء يَعمَلون بِوَحي ضَميرِهِم الحَي مُستَنِدين إلى سُلَّم قِيَم يُفتَرَض أن نُعيدَ له المَكانَة المُستَحَقَّة في السياسة والاقتِصاد والادارة والأعمال، كَما في سُلوكيّاتِنا اليَوميّة.