المحامي فؤاد الاسمر- تعظيم التخلف

  • شارك هذا الخبر
Monday, October 26, 2020

دأب الاباطرة والحكام منذ التاريخ القديم على احاطة انفسهم بهالة من القدسية، يؤازرهم رجال الدين وكهنة المعابد، وذلك حفاظاً على سلطة هؤلاء الديكتاتوريين الظالمين ومنعاً من انقلاب الشعب ضدهم. فالمكاسب السلطوية والظلم والفساد كان محمياً بغطاء الألوهية.
وكان دعم الملوك والامراء يتم من خلال احدى النظريتين : ١-نظرية القانون الالهي المطلق Le droit divin surnaturel والذي بمقتضاه تتدخل الارادة الالهية مباشرة باختيار وتسمية الملك او الحاكم. ٢- نظرية قانون العناية الالهية Le droit divin providentiel والذي بموجبه تسمح وتبارك العناية الالهية سلطة الملك الحاكم.
ان اعتماد احدى هاتين النظريتين لم يكن الا من باب حمل الشعب على الخضوع لسلطة الحاكم دون اية معارضة، رغم كل الظلم والفساد وحتى الانحراف الذي ينقاد اليه وتنساق معه الحاشية الحاكمة، على اعتبار ان الارادة الربانية هي التي اختارته وهي التي تحميه ولا يمكن معارضة الرب الاله تحت طائلة التعرض للغضب الالهي.
وقد درج الملوك منذ اقدم العصور على اطلاق تسميات الالوهية على انفسهم فكان يُطلق على اباطرة الرومان تسمية : Dominus Noster أي "الرب السيد" وقد اضاف نيرون على هذه التسمية تسمية أخرى اطلقها على نفسه وهي : Divinité .
وليست التسميات هذه الا امتداداً لتسميات فراعنة مصر وملوك بلاد ما بين النهرين الذين اتخذوا مباشرة اسماء وصفات الآلهة (خوفو وتعني الاله خنوم يحميني - توت عنخ امون وتعني الصورة الحية للاله امون...)
ان هذا التقليد عرفته مختلف الحضارات القديمة وامتد الى اوروبا في عصور الظلمة فجاهر الملك لويس الرابع عشر الملقب Dieudonné بأن سلطته استلمها من الله مباشرة دون تدخل من اية ارادة بشرية.
Nous la tenons de Dieu seul sans qu aucune personne, de quelque condition qu elle soit, puisse y prétendre.
ان هذا التعظيم الالهي ما نزال تشهده مختلف الدول المتخلفة الى يومنا هذا، مروراً بعهد السلطان العثماني الذي كان يلقب ب: ظل الله الملك العادل والسلطان الغازي ممهد الدولة وغياث الدين...
وبعهد هيلاسيلاسي امبراطور الحبشة الذي كان يُلَقَب بملك الملوك وسيد الاسياد الاسد المنتصر لقبيلة جودا المختار من الله.
Roi des rois, Seigneur des seigneurs, Lion conquérant de la tribu de Juda, élu de Dieu.
من الواضح ان هذه التسميات شائعة ومعروفة في الانظمة المتخلفة الاستبدادية الظالمة الذي يسود فيها الفساد ويستشري ظلم الاجهزة الامنية القمعية في حين نرى غالبية الدول الديمقراطية الحضارية تكتفي بتسمية الحاكم باسمه او حتى يتم اختصار اسمه كما هو الحال بالنسبة للرئيس الاميركي بيل كلينتون وحتى في اكثر المناسبات رسمية يُكتَفى بعبارة Mr President. مع العلم بأن المشهد السياسي في هذه الدول لا يحتمل الرئيس الحاكم الا لفترة وجيزة مهما علا شأنه ومهما عَظُمَت انجازاته.
اما في لبنان فقد عرفنا طوال مئات من السنين نوعاً من الاستقلال الذاتي حيث لم نعتد تأليه الحكام بل عرف اللبنانيون مناخات الحرية والفكر النيّر. ومع اعلان دولة لبنان الكبير وصولاً الى الاستقلال والعهود التي تلته سادت الديمقراطية والاسلوب الحضاري في تكوين السلطة بحيث لم نعتمد يوماً مبدأ التأليه ولم نطلق يوماً على حكامنا صفات الله الحسنى.
والمستغرب ان خروج غالبية الدول من عصور الظلمات ترافق مع نزعة لبنان اليوم الى التوغل عميقاً في عتمة العصور الغابرة فبات من الشائع في لغتنا وتفليسة ادبياتنا السياسية عبارة "صرماية الزعيم" تجتاح السفسطة والنقيق السياسي ويرددها جهابذة وفطاحل السياسة عندنا كالصنوج التي ترن والطبول التي تطن بعدمية هاماتهم الفارغة.
فهنيئاً لنا لبنان من واحة الحضارة وموئل الاحرار وسويسرا الشرق ولؤلؤة المتوسط ، لبنان البطريرك الحويك وكميل شمعون ورياض الصلح والامام موسى الصدر الى ظلمة نيرون المعظم وهيلاسيلاسي المبجل والسلطان عبد الحميد ظل الله على الارض. هنيئاً لنا طائر الفنيق المنطلق يُدفن في التراب وشارل مالك الفيلسوف يندثر ازير رصاص ودوي مدافع وجبل حرمون ينتهي سرداباً معتماً بأقزام ترجيع العهود المنقضية.