نادر فوز- أربعة منتحرين بيومين: انتحار عام لا شخصي والكرامة أيضاً

  • شارك هذا الخبر
Sunday, July 5, 2020

خالد يوسف، انتحر. شارك في ندوة ثقافية، حضرها وعاد إلى منزله وأطلق النار على نفسه. من مواليد عام 1938، كأنه شبع من مآسي هذا البلد. تقريباً، عاش كل مآسيه من حروب وانهيارات، فقرّر تركنا في معاناتنا المستمرة.

لا شيء حولنا يدعو إلى الهدوء. دولارات ضائعة، كهرباء مقطوعة، رغيف مسروق، قمع واستدعاءات، تشبيح وبلطجة، وجوع ينتشر. من كل صوب، تبعث يومياتنا فينا شعور عام بالعجز تجاه أي شيء وأي كان. واقع محبط حدّ الكآبة واليأس، يخرج من صدر أزمات، من رحم سلطة وأحزابها. واقع دفع خالد وسامر وعلي إلى الانتحار في الساعات الماضية. وجاءهم رابع، اسمه توفيق، يعاني من مرض مزمن، رمى بنفسه عن شرفة منزله. التحقوا بمن سبقهم، جورج ونزيه وداني وأنطونيو وعبد القادر وناجي وجلال وآخرين. هؤلاء أسماء عشرة أشخاص، نعرف عنهم. زادوا واحداً إضافياً وربما أكثر. عرفنا عن معاناتهم بعد فوات الأوان. حتى لو عرفنا بأحوالهم قبل أن يقرّروا مغادرتنا، لما فعلنا شيئاً أصلاً. لكنا أطلنا أمد معاناتهم لأسبوع أو اثنين، لا أكثر. فنحن، جميعاً، محكومون بالمعاناة إلى حين نقرّر العكس. إلى حين نقرّر الذهاب بعيداً عن هنا، أو إلى مكان أبعد لا رجوع منه.

مشهد علي الهقّ
علي الهق، ترأس المشهد لا لشيء إلا لأنه ستّيني قرّر التعبير قبل الرحيل. فكتب "أنا مش كافر". قطع الطريق أمام كل مَن وما مِن شأنه أن يخوّنه بأبشع الأوصاف الاجتماعية، الكفر. قرّر خوض مواجهة أخيرة في موته، مع مرض لا شفاء منه، التكفير. اختار شارعاً مليئاً بحياة مفترضة، على مقربة من خشبتي مسرح، وأدى رقصته الأخيرة أمام مشاهدين عاجزين. انصدم الجمهور، ولم يصفّق. تسمّر في مكانه، أمسك رأسه، التفت حول نفسه للتأكيد من كون الجميع رأوا ما حصل. اتّصل الجمهور بالأجهزة المعنية، فبقي الرجل على الأرض لساعات. حضر بعدها ضابط من القوى الأمنية يشتكي من واقع أنه تمّ استدعاء العناصر لسبب تافه.

موت مختلف
"جابونا لهون كرمال واحد ميّت"، قال الضابط. ففضحته كاميرا إحدى الناشطات كانت موجودة في المكان. لحظة موت ثانية أقسى من موت علي. فما كنا نقوله ونتداول به، عموماً وبشكل عرضي، كرّسته عبارة الضابط. "نحن رخاص، نحن الناس رخاص"، كنا نقول حول فنجان قهوة أو كأس. لم نكن بحاجة إلى برهان حسّي على ذلك. فرخص حيواتنا ويومياتنا وصحتنا وحقوقنا وأموالنا، وكل ما فينا، كرّسته السلطة وأزلامها منذ زمن. حدّد بعضنا أسعارهم بصوت انتخابي، وآخرون بالتضرّع اضطرارياً لورقة استشفائية، وثالثون من أجل منفعة أو وظيفة في الدولة. هي الدولة نفسها، التي تمثّل زعامات وأحزاب وطوائف وشخصيات، التي لا تعمل لنا شيئاً. التي تحتقرنا، تعاملنا برخص ولا مبالاة. ماتت فكرة الدولة، سقطت كما سقط علي. نفس السقطة، لكن طعمها أمرّ.

انتحار واحد
في الساعات الماضية، واحد أطلق النار في رأسه أمام الناس، وآخر في غرفته. ثالث شنق نفسه، ورابع ارتمى من شرفته. سيناريوهات مختلفة لواقع واحد. خلاصة يأس وإحباط من جهة، وعجز وفشل من جهة أخرى، هذا في مقلب. أما في مقلب آخر، فهو خلاصة تجربة واحدة مهما تنوّعت. نتيجة فشل عام لا خاص، وعجز الكل لا الفرد. هو انتحار واحد. جامع ومشترك. أشبه بمصير شامل، خرج من رحم معاناة شعب جاع وفقد إيمانه وآماله بكل شيء. انتحار مدفوع بما تبقى من عزّة وكرامة، ومحافظةً عليهما. في الانتحار، جانب من تحصيل الكرامة الشخصية والمحافظة عيها، في رفض التذلّل أو الاستمرار به. في عدم القبول بالإهانة وردّها. في ردّ الاعتبار للذات، الانتحار صفعة.

أما ردّ الكرامة الجماعية فيستوجب فعلاً مشابهاً، لكن مختلف. قد تكون نهايته الانتحار، ربما، لكن يجب أن تسبقه خطوات قليلة لكن أساسية. صفع ممارس الذل لا يكفي. شتمه، البصق في وجهه، لا يكفيان أيضاً. ثمة ما هو أكبر من كل هذا، يجب ارتكابه مع ممتهني الذلّ ودوس الكرامات والطموحات والوجود والمستقبل.