مآسي حضارةٍ يعالجُها وباءٌ - بقلم الأب البروفسور جورج حبيقة
شارك هذا الخبر
Tuesday, June 30, 2020
في بداية شهر كانون الأول سنة 2019، تستفيق مدينة ووهان في وسَط الصين مذعورةً على وقع خبر وباء جديد يتفشى في المدينة. وفي نهاية الشهر عينه، الهيئات الصينية الرسمية، المولَّجة إدارة الشؤون الصحيّة، تُبلِّغ منظّمةَ الصحّة العالمية أن ڤيروسا مجهولَ الهُوِيَّة وسريعَ الانتقال يسبّب التهابا حادا في الرئتين، ثم تستتبعُ تبليغَها بتحديد هُوِيتّه، واضعةً إياه في أحد تفريعات الڤيروسات التاجيّة Coronavirus. وهكذا ابتدأت مغامرتُنا، في القارات الخمس، مع جائحة كوڤيد-19.
جائحةُ كورونا والطبّ مع انتشار هذا الوباء المستجدّ، رحلت أنظارُنا تلقائيا إلى مراكز الأبحاث الطبّية الشهيرة في العالم، نترقب بياناتها على مدار الساعة، لأننا دخلنا في عصر بات معه الاطمئنانُ إلى قدرة العلم اللاّمحدودة هو الذي يحدّد مدى الحداثة والتكيف في الأذهان والعقول. وإذا بنا ننذهل من هول الارتجال والتخبط حتى في الدول الرائدة والأكثر تقدماً. ما من بلد ذي سمعةٍ مرموقة في شتى مجالات التطور التكنولوجي والبحثي والعلمي، كان على مستوى التحدي الوبائي الطارئ. أليس من الحقائق الصادمة أن نسمع حاكم ولاية نيويورك أندرو كوومو (Andrew Cuomo) يصرّح قائلا: “إننا نجوب الكرة الأرضية بحثا عن مستلزمات طبية” (We are scouting the globe looking for medical devices) ؟ أليس من الحقائق الصادمة أن نرى جثث مواطنينَ لأعظم دولة في التاريخ، قاطنينَ عاصمة التجارة العالمية نيويورك، مكدّسين كنُفايات بشرية في حافلات حتى التحلّل وانبعاث رائحة الموت في شوارع المدينة؟
إن وباء كورونا قد فضح بشكل مدوٍ منسوبَ استهتار هذه البلدان بصحّة الانسان وكرامته، ووضَع في دائرة الضوء أولوياتها التي تظهر وكأنها محصورةٌ في مجال التسلّح الأكثر تطورا وفتكا، وفي غزو الفضاء الخارجي سعيا إلى المزيد من النفوذ والسيطرة والهيمنة، وفي حقل التكنولوجيا الأكثر تعقيدا والمستندة إلى الذكاء الاصطناعي، المستثمرة في قطاعات الصناعة والزراعة والأسواق الاستهلاكيّة. أين صحّةُ الانسان وسط هذه البيئة العلمية التي لم تلوِ على كرامة البشر يوم استبدلتهم بالروبوت؟ أين الأبحاثُ الطبّية التي يجب أن تكون الأولوية في بلدان تحترم الانسانَ وحياتَه وحقوقه الأساسية؟ ماذا ينفع الانسانَ أن يقطع باليقين إذا كان هناك من ماء على سطح المرّيخ أم لا، بكلفة باهظة تتخطّى الخيال، بينما هو بحاجة إلى كمّامة، أو إلى آلة للتنفس الاصطناعي أو إلى مكان لائق في مستشفى؟ ماذا ينفع الانسانَ إذا كانت دولتُه تُكدّسُ في مخازنها قنابلَ ذرية بمقدورها أن تُدمّر الأرضَ أكثر من ثلاثين مرة، وهو يتسوّل علاجا طبّيا ويموت حقيرا مقهوراً على مداخل مستشفيات مكتظّة بالمصابين حتى الاختناق؟ إنه بدون أيّ مغالاة لمشهدٌ سُرِّيالي، حتى المخيِّلةُ المريضةُ والـمُهلوسة لن تقوى على استحضاره في تصوراتها المتفلّتة من أيّ ضوابطَ عقلانية.
أضف إلى ذلك النظريّاتِ الطبّيةَ المتناقضةَ والمتعثّرة حول مصدر فيروس كورونا وطرق انتشاره ووسائل معالجته. الأمر الذي دفع بالقارئ والمستمع والمشاهد إلى التساؤل المحق: هل الطبّ علمٌ دقيقٌ وصائب، أم ضربٌ من ضروب الآداب والفنون وما إلى ذلك؟ من دون أن نقلّل من قيمة العلوم الطبّية وجدّيتها، ومن جهود الباحثين المضنية ومن إنجازاتهم الكبيرة في خدمة صحّة البشر، لا يمكنني هنا إلا أن أستذكر ما قاله في هذا المجال طبيبٌ إيطالي في أحد مستشفيات روما في حمأة تفشي وباء كورونا وحصده الألوفَ من الناس. قال: “عندما انتسبتُ إلى كلّية الطبّ، بادرني المسؤولُ بالقول: أنت هنا في كلّية علمية. والعلم يتنافى كليا مع المعتقدات الدينية. إن طاقة العلم في ذاته ولا يمكن أن يحقّق قفزاتٍ نوعيةً في اكتشاف الحقائق إلا إذا تحرّر من كل رواسب النظرات الدينية”.
اقتنع طالبُ الطبّ بهذا التحديد وراح يُشفقُ على والديه اللذين كانا يذهبان إلى الكنيسة كلّ يوم أحد ويقيمان الشعائرَ الدينية بفرح واقتناع. إلى أن انقضَّ على الناس وباءُ كورونا وبدأ طوفان المصابين يتدفّق على الأطباء وجرفهم بدون رحمة في عقر دار ما يُسمّى بالعلوم الطبّية. عندها تساءل الطبيبُ الإيطالي عن مدى صوابِ الكلام الذي قيل له يومَ انتسابه إلى كلّية الطبّ. كيف لهذا الفيروس، الذي لا يُرى بالعين المجرّدة، وليس بكائن حي، بل عبارةٌ عن غلاف دهني يحضنُ خليّة بروتيينيّة، يأخذ من أغشيتنا الـمُخاطية مقيلا له، يهبُه الحياةَ والقدرة على التكاثر الجنوني من خلال أنظمة تعطّل محطّات الإنذار في جهازنا المناعي، كيف له أن يهزم طبّا يتفاخرُ بمكانته الرفيعة في محفل العلوم؟ يخلُص الطبيب الإيطالي إلى النتيجة التالية: “أنا مدينٌ إلى جائحة كورونا، لأنها هي التي فتحت ذهني وعقلي، وبدأتُ أنظر إلى الطبّ كعلم من علوم الانسان الناقصة، يتطوّر ويتعثّر ضمن محدوديّة الانسان. والأكثرُ من ذلك كلّه، بفضل كورونا رجَعتُ إلى حُضن الكنيسة والإيمان، رجَعت إلى الله”. كم من تقاطع كامل بين ما انتهى إليه هذا الطبيب الإيطالي والدقائق المعدودات الأخيرة من حياة الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران. أمام تعثُّر الطبّ والآلام التي لا تطاق بسبب المرض العضال والعلاج الكيميائي، طلب قصيصة من الورق وكتب عليها: « une messe serait possible » “أن تقامَ ذبيحةٌ إلهية، قد يكونُ هذا الأمرُ ممكنا”، ثم أمر طبيبَه بإيقاف العلاج فورا. وهكذا عاد الرئيس الفرنسي إلى حضن الكنيسة التي هجرها في عمر الشباب، بعدما خدم بحماس في حركاتها الروحيّة. إن هذه الوقائعَ مجتمعةً تُثبت بقوّة سدادَ ما ذهب إليه عالمُ الرياضيات والمنطق والفيلسوفُ النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين (Ludwig Wittgenstein)، بقوله إن الإيمانَ بالله إنّما هو نتيجةٌ مباشِرة لهزيمة العلم.
في هذا السياق، تحضرني أيضا اللحظاتُ الأخيرة من حياة إسكندر المقدوني، أكبرِ فاتح في العصور القديمة، الذي وافته الـمَنِيَّةُ في 13 حزيران سنة 323 ق. م. في مدينة بابل، عن عمر لم يتجاوز الثانيةَ والثلاثين. بسبب الفتوحات المتتالية، كان جسدُه منهكا ومُثخنا بالجروح. فتعرّض لفيروسات عدّة وأصيب بالحمّى. وفي روايات أخرى، يُقال إن أعداءه سمموا له للتخلّص منه. مهما يكن من أمر سبب الاعتلال، ما يهمُّنا هنا هو روايةُ دعوته لجنرالاته، عندما تيقَّن أن حتفَه بات قريبا، بالرغم من محاولات ألمع الأطباء في ذلك العصر لإنقاذه، وتبليغُهم إرادتَه الأخيرة في ما يعود إلى تنظيم تشييعه الملوكي. في وصيته الأخيرة، يعود إسكندر المقدوني إلى حرم الفلسفة، التي كانت تحضن آنذاك جميع صنوف المعرفة، متجلببا عباءةَ التلميذ المتفوق والمتألق على يد معلمه الأكبر أرسطو. في غمرة لحظة الحقيقة هذه، قال إسكندر لمنظمي جِنازته: “على الطريق الذي سيسلُكه موكبُ التشييع، تضعون الذهبَ والفضّة والمعادن الثمينة التي جنيناها من فتوحاتنا؛ وعندما تمدّدونني في النعش، دعوا يديَّ خارجا، تتأرجحان في الهواء؛ والذين سيحملون بالنعش، هم الأطباء الذين كانوا يعالجونني”. سئل عن مغزى هذا الترتيب ودلالاته. فأجاب قائلا ما معناه: إننا نشنُّ حروبا ضارية وندفع أثمانا باهظة في الأرواح والعتاد لنسطو على هذه الثروات. غير أننا في نهاية المطاف ندوسها ونرحل. ما قيمتها في لحظة الرحيل من هذا الكون؟ لا شيء. أما بالنسبة إلى يديه المترنحتين خارج النعش في الهواء، فلكي يقول للناس إن إسكندر المقدوني، الفاتح الأكبر في التاريخ والمرهوب الجانب، بماذا يتذوّد؟ بلا شيء. وفي ما يخصّ المشهد الثالث والأهم، أراد أن يبعث بالرسالة التالية: إننا نضع ثقتَنا في الطبّ لكي يعالجنا من الأمراض التي نتعرض لها في حياتنا ويُبعدَ عنا بالتالي استحقاقَ الموت. فالأطباءُ الذين يحملون بنعشه يؤكدون بشكل لا لَبْسَ فيه فشلَهم الذريع في هكذا مَهمّة. إن النعشَ الذي يحملونه إنما هو أشبهُ براية الهزيمة في معركة البقاء واستمراريّة الحياة.
جائحةُ كورونا والاستهلاكيّةُ المسعورة مع انبلاج الثورة الصناعية في أواخر القرن الثامن عشر في إنكلترا (1760)، وتمدّدِها إلى أوروبا في القرن التاسع عشر ومنها إلى الولايات المتحدة الأميركية، زُفَّ للإنسان خبرُ العبورِ الوشيك إلى نمطٍ من الحياة لم يعرفه في السابق. والسببُ في ذلك، هو أنَّ الإنسانَ الذي كان يكدَحُ ليلاً ونهاراً بقوة عضلاته ليؤمِّنَ قوتَه، باتَ اليومَ بفضلِ الآلةِ التي أسقطت المسافات وقلَّصت أوقات العمل، يتمتَّع بهامشٍ كبيرٍ من الطواعيّة ليملأه بالتثقيف الحرّ المتفلّت من أسوارِ البرامج الجاهزة، والاكتساب المستدام للمعرفة من أجلِ المعرفة بعيداً من المعارف المتّصلة مباشرةً بالاستهلاكية النفعيّة في سوق العمل. ولكنْ، للأسف، إنَّ مآتي الثورة الصناعية لم تكن دائماً على موعدٍ مع هذا الرخاء الحياتي والتثقيفي، بل زجّت الإنسانَ في دوّامةٍ مجنونة من الإنتاج المفرط لمجتمعٍ استهلاكيّ مسعور، واضطرّته، في كثيرٍ من الأحيان، إلى أن يقومَ بعملَين أو أكثر، لا ليعيشَ بكرامته، بل ليؤجّلَ استحقاقَ البؤسِ.
هكذا قضت بشكلٍ واسع الرأسماليّةُ الجامحة، التي تغذّيها باستمرار الماديّةُ المتطرّفة، على وعود الثورة الصناعية وأجهزت على مساحاتِ الثقافة من أجل الثقافة، والعلم من أجلِ العلم، والاسترخاء والاستجمام. وبات معها الانسانُ يساوي ما يعمل. والقولُ المأثور في فرنسا خيرُ دليل على ذلك، المترو والعملُ والنوم (métro, boulot, dodo). والغريب في الأمر هو ما تنصح به كتبُ الآداب في نمطيّات حياتنا الحاضرة والذي يؤشّر بشكل بليغ إلى أيّ درك وصلت العلائق بين البشر في مجتمعنا الاستهلاكي: “إذا التقيتَ بصديق لك في الشارع، وسألك كيف حالُك، عليك أن تجاوب دائما وبدون إبطاء: جيّد جدّا، لأنه ليس له ما يكفي من الوقت لسماعك”. للتأكد من ذلك، يكفي أن نلقي بنظرة على المارة في شوارع مدننا الصّاخبة لنرى كيف أن الناسَ يهرولون مسرعين في جميع الاتجاهات وبدون هَوادة. والمعادلةُ الحياتية الوحيدة التي من خلالها يمكن للمرء أن يتأكّد من فعاليّة وجوده، باتت تلك التي تقوم حصرا على الإنتاج والاستهلاك. والصيغة الوجودية للإنسان التي تتجاوزُ منطقيا حقلَ عملِه الضيّق، لتلجَ الرحابَ اللاّمتناهية لجوهرِه البشري، نراها تتبسط إلى الغاية وتصبح فقط: أنا أستهلكُ، فإذا أنا موجود.
إن نمطَ الحياة الذي يتآلف كليا مع مبدأ الإنتاج والاستهلاك إنما هو القائم بشكل أساسي على الحركية الدائمة والتنقّل والتّرحال. لذا نرى في أيامنا الحاضرة أن شركات نقل الأثاث والأمتعة في أوروبا وأميركا عرفت ازدهارا غيرَ مسبوق. فالالتصاقُ بالجذور العائلية وبمسقط الرأس تداعى كلّيا وبات الانسان ينتمي حصرا إلى عمله حيثما كان وأينما كان. من هنا البداوةُ الحديثة التي يعيشُ على إيقاعها عالـمُنا الحاضر. رجالُ أعمالٍ في سفر دائم. لا “يخيّمون” في مدينة أكثر من يومين، لينتقلوا بعدها إلى أخرى. بل قل إنهم يقيمون فعلا في الطائرات ويهبطون تباعا في بلدان أعمالهم التجارية. في آخر إحصائياتٍ لعدد المسافرين جواً في سنة 2018، في رحلات نظامية، يناهز المجموع العام الـــ 4.3 مليارات. إن دلّ على شيء هذا الإحصاءُ فعلى حركيّة مجنونة يتدافع الناس فيها، في غالب الأحيان لاهثين وراء كسب مادي بحسب بروتوكولات خلق الثروات وإنمائها بشكل مُطَّرِد ومستدام. لا راحة، لا استكانة، لا استقرار.
إن انتشارَ جائحة كورونا، مع ما سببته من مآس مُفجعة في أرواح أناس من جميع الأعمار، وخسائرَ فادحةٍ في كل القطاعات بدون استثناء، عالج في المقابل بطريقة غير مباشرة جنونَ مدنِنا وصخبَها. من كان بوسعه أن يُقنعَ الناسَ بأهميّة السكون والهدوء من وقت إلى وقت؟ من كان بمقدوره أن يدفع بالسكان إلى مساحات التأمّل والصلاة والاختلاء بالذات؟ من كان قادرا على حثّ الناس على اكتشاف أهميّة العائلة وروابطها العاطفية والطبيعية والتلاقي والتقاسم والتعاضد والتشارك؟ كم من عائلة هنا في لبنان، لا تسمح لها وظيفةُ الأب والأم بلقاء طويل وعفوي وغير متشنّج مع فلذة الأكباد؟ كم من عائلة توكلُ أمرَ السهر على أولادها إلى المربّيات؟ من حسنات هذا الوباء أنه أرجع الجميعَ إلى حرم العائلة، إلى تقاسم لحظات الحياة في ضيافة الحبّ، وإن مصحوبا في بعض الحالات بتشنّجات ناتجة من انعدام الخبرة في إدارة اللّقاءات العائلية الطويلة.
وهكذا نرى، على إيقاع زحف وباء كورونا، مدناً ومناطقَ بل بلداناً بأكملها تتراجع إلى خطوط خلفيّة، تتمترس خلفها في حَجْر صحّي كامل. الشوارعُ والساحات والطرقات تفرغ من روادها ويسكنُها الصمت. المعامل والمصانع تُطفئ محركاتِها وتخلد إلى نوم قسري بعد تأرقٍ مزمنٍ وطويل. جبهاتُ القتال تفقد من حماوتها. إنه الزمنُ المجمّد الذي لا حراك فيه. إنه عهدُ الفيروس “التاجي” الذي نصّب نفسَه، بوجهه الخفي، سلطانا على الأرض كلّها. فالمصورون المحترفون يهرولون إلى المدائن الفارغة لكي يأخذوا صورا للشوارع والساحات والمربّعات والمخمّسات بدون بشر. حدثٌ فريد من نوعه. المدى طافحٌ بالفراغ. يسكنُه اللاشيء. من حقّ هذه الهندسات المدنية الرائعةِ المنظر أن تختلي بذاتها، أن تكون، ولو لفترة من الزمن، لوحدها، من دون صخب الإنتاج والاستهلاك. من دون عجلة التجارة المسعورة.
تأخذُني هذه الفكرة إلى أحد الأديار في فرنسا حيث يعيشُ رهبانٌ انقطعوا إلى الصلاة والتأمل والهزيز الروحي. في أحد الأيام، قام بزيارتهم وزير في الحكومة الفرنسية. بعد الاستقبال الخاشع، دخلوا معا إلى كنيسة الدير وراح الرهبان يُنشدون بأصواتهم المصقولة على أنّات الروح أناشيد ومزامير على اللّحن الغريغوري الأخّاذ. بعدها، توجّهوا جميعا إلى قاعة المائدة لتناول لُقمة المحبة. أثناء الحديث، أعرب الوزير عن دهشته الكبيرة لِما سمع من ألحان سماوية ولِما رأى من أجواءٍ حالمة ووادعة في أرجاء الدير. ثم سأل الأباتي قائلا: “حضرة الأباتي الجليل، ماذا تعملون هنا؟ أجابه الأباتي قائلا: بنعم الربّ وبركاته، إننا لا نعملُ شيئا“. نعم، كم نحن بحاجة ماسة إلى هذا النوع من فلسفة الوجود الإنساني. إن الحياة، الغنيّة في تشعّباتها والتي هي على تماس دائم مع اللاّمحدود، لا تساوي البتة ما يُنتجُ الانسانُ وما يعملُه. طبعا، وفي هذا الأمر لا جدال، فالعملُ والِجدُّ والجهاد ناموس مقدس في الحياة. بيد أن هذه الأخيرة تأبى أن تتشرنق في معادلة الإنتاجية المتفلّتة والجامحة. إنها تتجاوزها إلى مساحات الفكر والثّقافة والرّوح الأرحب والأعمق.
جائحةُ كورونا والبيئة إن النتيجة المباشرة للثورة الصناعية والعقلية الاستهلاكية المسعورة إنما هو الأذى الكبير والخطير على البيئة وحياة الانسان وديمومتها على الأرض. بسبب حجمه وسرعته، فإن تغيّر الـمُناخ يدفع النظم الطبيعيّة كافة إلى المجهول. ورفاهية الانسان ورغد حياته يخضعان قسرا إلى هذا النظام البيئي الطبيعي. إن الأضرار الناتجة من هذا الاختلال التراكمي والمستدام جسيمةٌ للغاية وقد تكون في أكثر الأحيان عصيّةً على أيّ معالجة ممكنة. إن تغيُر المناخ، بحسب دراسات علمية ومدقّقة، إذا استمر على وتيرته التصاعدية، سيقود عاجلا أم آجلا إلى إفناء ظاهرة الحياة على الكرة الأرضيّة بأكملها.
قبل القفزة النوعية التي أحدثتها الثورةُ الصناعية، كانت لا تزال عناصر الطبيعة تتمتّع بتوازناتها وتنوعاتها النباتيّة والحيوانيّة. الماءُ نقيّ وعذب، السماء زرقاء والهواء نظيف وعليل، الجداولُ والأنهر والبحار صافية، لا وسخ فيها ولا دنس. الغاباتُ ترفل بنضارة الحياة الفرحة. لا سحب سوداء وصفراء تُطربشُ المدنَ وتزنّرُها. ولكن مع دخول الآلة إلى حلبة الواقع، تبدّل كلُّ شيء. دخلنا إلى جوف الأرض واستخرجنا كميات ضخمة من البترول وأحرقناه في معاملنا ومصانعنا وفي مركباتنا المتنوّعة، برا وبحرا وجوا. بصنيعنا هذا، خلقنا فراغاتٍ شاسعة في أحشاء الأرض، ستسبب حتما بانزلاقات خطيرة في طبقات الأرض تؤدي في يوم من الأيام إلى زلازلَ مدمّرة. ثم قمنا بإحراق مشتقّات البترول، متوهمين أن الفضاء الفسيح والمترامي سيبتلع هذه الانبعاثات الملوّثة والقاتلة ويحلّلها ويعطّلها. وكانت المفاجأة المرة باكتشاف ما يسمى بالانحباس الحراري الذي أدى إلى ثُقب خطير في طبقة الأوزون التي تحولت من حاضنة للحياة إلى كفن للموت. فالانبعاثات الغازية والانحباس الحراري يقومان بتقويض تدريجيّ لمقومات النّظم البيئيّة الطبيعيّة. وهكذا بدأت الحرارة ترتفع كلّ سنة على سطح الأرض وراحت تنذر بتحوّلات مُناخية خطيرة للغاية. إن هذا التبدّلَ المناخي إنما هو نتيجة مباشرة لعمل الانسان وإدارته السيئة للموارد الطبيعية وسعيه الأناني لاستنفاد ما تختزن الأرضُ من خيرات وطاقات من دون أن يفكر بالأجيال الآتية. من سيوقف هذا الانتحارَ الجماعي الشامل؟ من سيلجم جشعَ البلدان الملوّثة بمصانعها من أجل ازدهار اقتصاديّ آني وعابر يوظَّفُ في استحقاق انتخابي داهم او في مخطّطات عمرانيّة واجتماعيّة على حساب صحّة الانسان؟ من سيعطّل آلةَ الموت هذه ويسمح لمغامرة الحياة بأن تتابع مسيرتها؟
في نهاية القرن التاسع عشر بدأت البشرية تستشعرُ خطرَ التلوّث وانعكاساته السلبيّة على توازنات الطبيعة. شرع الاعتلالُ يتمظّهر في الغابات، في المحيطات، في القطب الشمالي الذي يُعتبر المكيّف الطبيعي للكرة الأرضية. وراحت المؤتمرات الدولية تتوالى لمعالجة هذه الآفة العالمية. قراراتٌ وتوصيات لا تحصى. جميعُها تدل على درجة عالية من الإدراك والوعي، وفي الوقت ذاته تؤشر بشكل لا يعتريه الغموض إلى أنْ ليس هناك من أي إرادة صارمة للعبور إلى التنفيذ. إن مؤتمر باريس العالمي، الأول في التاريخ بحجمه، حول المناخ والاحتباس الحراري – COP 21, Paris Agreement، COP 21, Accord de Paris – تبنّاه 195 وفداً في لو بورجيه Le Bourget بباريس في 22 نيسان 2016، ووقَّعه 175 بلداً في مبنى الأمم المتّحدة في نيويورك ابتداء من 22 نيسان 2016 الموافق ليوم الأرض، وتبعهم بلدان أخرى حتى 21 نيسان 2017. بحسب شرعة المؤتمر، يكفي أن يوقِّعَه 55 بلداً تشكل انبعاثاتُها 55 % من غازات الاحتباس الحراري، حتى تُعتبرَ القراراتُ ملزمةً لجميع البلدان في العالم. وقد يكون من المفيد أن نُذكِّر هنا أن الصين هي البلد الأكثر تلويثا في العالم مع نسبة 20.09 %، تليها الولايات المتحدة الأميركية مع نسبة 17.98 %. عقد عالمنا الحاضر، القلِقُ والحائرُ والمرتجف من الآتي من الأيام، آمالاً كبيرة على مقرّرات مؤتمر باريس. بيد أن هذه الانتظارات الجميلة ما لبثت أن تبخّرت في جزء كبير منها في 1 حزيران 2017 عندما فاجأ الرئيس الأميركي دونلد ترامب العالمَ كلَّه بقراره الانسحاب الفوري من اتفاقية باريس، معتبرا إياها تدميريّة للاقتصاد الأميركي. فما كان من بعض حكّام ولايات أميركية إلا أن أعلنوا رفضهم القاطع لقرار الرئيس وأطلقوا ما سموه United States Climate Alliance، “التحالف من أجل المناخ في الولايات المتحدة الأميركية”. وأكّدوا في تحالفهم الجديد على سعيهم الصادق والدؤوب إلى تنفيذ مقرّرات اتفاقية باريس على صعيد السّياسات الداخلية للولايات، ضاربين بتوجيهات السلطة الفدرالية عُرضَ الحائط.
تجدر الإشارةُ هنا إلى أن اتفاقية باريس قد سبقتها، في فاصل زمني يناهز السنة، رسالةُ قداسة البابا فرنسيس المدوّية حول البيئة في 24 يونيو/أيار 2015، تحت عنوان: “كن مُسبَّحا”، Laudato si. إنها المرة الأولى التي يكرّس فيها رأسُ الكنيسة الكاثوليكية رسالةً عامة لموضوع “الإيكولوجيا الشاملة” (Integral Ecology – Oikos in Greek: house) ، أي علم البيئة الذي يعالج مسألةَ روابطِنا مع الأرض “كبيتٍ” لنا وأم. فهو يدعو إلى ثورة كاملة على سلوكيّاتنا وأدبيّاتنا وإقتصاديّاتنا لنحول دون التغيّرات المناخية الكارثية. يستمدّ البابا العنوان من “نشيد االخلائق” للقديس فرنسيس الأسيزي في القرن الثالث عشر، حيث يعيش هذا الأخير مصالحة كونية شاملة مع جميع كائنات الوجود الحسّي، الحيّةِ منها والجامدة، ويرنّم لها نشيدَ الحبّ. فيقول قداسة البابا: ” كان يذكّرنا، من خلال هذا النّشيد الجميل، بأن بيتَنا المشترك هو أيضًا كأخت لنا، نتشارك معها الوجود، وكأم جميلة تحتضنُنا بين ذراعيها. كُنْ مُسَبَّحاً، يا سيِّدي، لأختنا وأمِّنا الأرض، التي تَحمِلُنا وتَحكمُنا وتُنتِجُ ثمارًا متنوِّعةً معَ زهورٍ ملوَّنة وأعشاب…أختُنا هذه تحتجُّ على الأذى الذي نُلحقُه بها، بسبب الاستعمال غير المسؤول وانتهاك الخيرات التي وضعها الله فيها. لقد نشأنا معتقدين أنها مُلْكيَّةٌ لنا وبأننا المسيطرون عليها ومباحٌ لنا نهبُها. إن العنفَ القاطن في القلب الإنساني، المجروحِ بالخطيئة، يَظهر أيضًا من خلال أعراض المرض التي نلاحظها في التّربة وفي المياه وفي الهواء وفي الكائنات الحيّة. لهذا، توجدُ أرضُنا المظلومةُ والمـُـخرَّبة بين الفقراء الأكثر تعرضًّا للإهمال ولسوء المعاملة. أرضُنا “تَئِنُّ مِن آلامِ المـَخاض” (روم 8، 22). ننسى أننا نحن أيضًا تراب (را. تك 2، 7). جسدُنا ذاتُه مكوّنٌ من عناصر الأرض، وهواؤها هو الذي نتنسمُّه، وماؤها هو الذي يُنعشنا ويجدّدُنا”.
مع هذا الكم الهائل من الاستنفار العلمي والفكري والروحي لحماية الأرض من التصحُّر والموت، بقيت جميعُ المعالجات والتدابير من قبل الدول الفاعلة في دائرة الخجل والوضاعة. بكل حسرة في القلب وخيبة في الفكر، لا نزال نلاحظ، حتى اللّحظة، أن الاعتباراتِ الاقتصاديةَ ومبادئَ الإنتاجيةِ الجامحة والاستهلاكيةِ المسعورة هي وحدَها الآمرةُ والناهية. إلى أن انبرى وباءُ كورونا واجتاح عواصم القرار، من دون استئذان، وسدَّ الهوّة بين الطبقات المجتمعية، وبين الشعب والسّلطات، وتسلّل بسهولة إلى عُقر دار رؤساء الجمهوريات ورؤساء الحكومات وغيرهم من المسؤولين. وراح يُنفّذ بصرامة وتشدّد الرسالةَ البابوية ومقرَّراتِ اتفاقية باريس، متجاهلا كلّيا الأسباب التي دفعت بالرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب منها، ومتضامنا في المقابل من دون أي تحفُّظ مع موقعي “التحالف من أجل المناخ في الولايات المتحدة الأميركية”.
إن الإحصائيات الأخيرة في القّارة الأوروبية تكشف بشكل مذهل الإنجازاتِ الكبيرة وغيرَ المتوقّعة التي حقّقتها جائحةُ كورونا بالنسبة إلى الهواء. في إيطاليا وفرنسا وألمانيا، أدى الحجرُ الصحّي وإغلاقُ المعامل والمصانع إلى انخفاض غير مسبوق في تلوّث الهواء. آخذين في الحسبان أن الـجُسيْمات الدقيقة وثاني أكسيد النيتروجين (NO2) هي المسؤولة كلّ عام في أوروبا عن أكثر من أربع مئة ألف حالة وفاة مُبَكِّرة وفقًا لوكالة البيئة الأوروبية، حاول الباحثون تقدير عدد الأرواح التي تمَّ إنقاذُها بفضل هذا الانخفاض المدهش في مستويات التلوّث الذي لوحظ مع تنفيذ التدابير لمكافحة كوڤيد-19 على مدى شهر نيسان الماضي. وكان الحاصل التالي: تمّ إنقاذُ حياةِ حوالي أحد عشر ألف شخص في أوروبا وفقًا لدراسة نُشِرت الأربعاء في 29 أبريل/نيسان 2020، من قبل مركز حديث يُعنى بالأبحاث حول الطاقة والهواء النظيف (Centre for Research on Energy and Clean Air)، وهي منظمةٌ بحثيّة دوليّة مستقلّة، مقرُّها في فنلندا ومدعومةٌ بشكل خاص من قبل Climateworks وBloomberg Philanthropies. للوصول إلى هذه التقديرات، قام باحثو هذا المركز بتحليل البيانات من أكثر من ثلاثة آلاف محطّة لقياس تركيزات الـجُسيمات الدقيقة وثاني أكسيد النيتروجين (NO2) عبر أوروبا، بين 1 أبريل/نيسان و26 منه، بمقارنتها بمستويات السنوات السابقة مع مراعاة الظروف الجوّية. أظهرت التحاليلُ انخفاضًا عامًا بحوالي 40٪ في متوسط مستوى ثاني أكسيد النيتروجين (NO2) وبنسبة 10٪ في التلوّث الـجُزَيْئي. في تعليقها على هذه النتائج السّارة، تقول لوري ميلليڤيرتا Lauri Myllyvirta، كبيرةُ المحلّلين في المركز، إن “الفوائد غيرَ المتوقّعة للتدابير المتّخذة ضدَّ فيروس كورونا تُظهر مدى المضار الخطيرة التي يسبّبُها تلوّثُ الهواء على صحّتنا، وتُبيّن إلى أيّ مدى هذه التداعياتُ السلبية للتلوث لا تُعارُ الاهتمامُ الكافي. بعد انتهاء أزمة كورونا، يجب المحافظةُ على هذا التحسّن في جَوْدة الهواء من خلال إنشاء أنظمةِ نقلٍ وطاقةٍ صديقة للبيئة”.
في خاتمة عرضنا هذا، نطرح على أنفسنا هذا التساؤلَ الطوعي: مَن أكثرَ من جائحة كورونا أرجعنا إلى حجمنا الإنساني الطّبيعي، من دون نقصانٍ أو زيادة؟ من دون تقليصٍ أو انتفاخ؟ نحن دائما بحاجة إلى حدث كبير حتى يعالجَنا من أوهامنا، حتى يُرجعَنا من تيهنا. الانسانُ مفطورٌ على تجاوز الذات والإقامة في ضيافة الغُلوّ. لم يخطئ من قال إن الكائن البشري نصفُ إله. غير أن مأساتَه الكبرى ناتجةٌ من نصفه الثاني؛ نصفِه المحدودِ، الواهن، الضّعيف؛ نصفِه المعدِّ للهوانِ والاعتلال والموت والتلاشي. معارفُه العظيمةُ والمبدعة والخارقة، يسكنُها أبدا النقصُ والتعثّرُ والسقوط. كم كان مُلهَماً بسكال Pascal، العالمُ والمفكّر واللاّهوتي الفرنسي، عندما حدّد الانسانَ بالقصبة المفكّرة (roseau pensant)! إنه يجسّدُ المعادلةَ الكيانيّة التالية في أبهى إسقاطاتها: العظمةُ في الهشاشة. القصبةُ في الطّبيعة هي أضعف النباتات. سريعةُ العطب. والفكرُ أعظمُ قوّة في الوجود. وكان الانسانُ الموقعَ المثالي لإقامة العظمة في الهشاشة. كان لزاماً على الانسان المعتلي قممَ المعرفة الشاهقة والمحقِّقِ الإنجازات العظيمة أن يضربَه وباءُ كورونا حتى يتيقَّن أنه لا تنقصُه المعرفة في معالجة مآسي الحضارة التي بناها، بل الفِعل. وهكذا جاءت جائحةُ كورونا، بوجهها الخفيّ، المتواري عن الأنظار، احتراما للإنسان المتربِّع على عرش الوجود الحسّي، لتوقظَنا من غَفْلتنا وغيبوبتنا، وتُريَنا مآسيَنا المتعدّدة، وترشدَنا إلى مُداواتها بالخلود إلى الهدوء والسّكينة واللّقاء مع الذّات. في خُلاصة مقاربتنا، لا نُغالي البتّة إن قلنا إن مآسي حضارتِنا لن يعالجَها إلا وباءٌ.