تعصف بالمجتمع اللبناني موجة من الهواجس والمخاوف نتيجة إعلان الحكومة عبر وزير الاقتصاد عن توجهها الى رفع الدعم عن المحروقات والقمح بعد 9 أشهر على اندلاع انتفاضة 17 تشرين المطالبة بمحاسبة ورحيل الطقم السياسي المتهم بالفساد والهدر وسوء الادارة. يقع لبنان اليوم حكومةً وشعباً تحت سطوة الجهات المُقرضة والبنك الدولي بذراعه التنفيذية صندوق النقد، المنقذ العالمي للدول المفلسة الرازحة تحت الديون، والذي يضع بناءً على تجارب سابقة ومشابهة، شروطاً إصلاحية قاسية لقاء تقديم خدماته الإنقاذية، دون مراعاة الابعاد الاجتماعية والإنسانية.
ففي ظل ازمة اقتصادية خانقة وانهيار الليرة وغياب الحلول الملموسة والبدائل الحسية، يقف لبنان أمام تحدٍ جديد من تنفيذ طلبات صندوق النقد برفع الدعم عن المواد الاستراتيجية الضامنة للأمن الاجتماعي. وهي إجراءات سبق واتبعها في دول أخرى عانت من ظروف انهيار مالي، ما يضع اللبنانيين تحت ضغوط تؤدي بهم الى انهيارات مشابهة وانفجار أعنف من انتفاضة 17 تشرين. تترافق هذه الطروحات مع تحذيرات من مغبة الإقدام على هكذا إجراء، خصوصاً وأن دولاً عدة ذات أنظمة اقتصادية ليبرالية تلجأ الى خطوات الدعم عبر الإدارة المباشرة وذلك حفاظا على امنها واستقرارها الاجتماعي.
فخطوة رفع الدعم بحجة استنزاف احتياطي البنك المركزي من الدولار تحتاج الى التريث ودراسة معمقة من جدوى تطبيقها، وذلك بناءً على تجارب دول بظروف مشابهة لتلك التي يمرَ بها لبنان، نفذّت شروط الصندوق دون اعتراض، ما أدى الى ارتفاع أسعار السلع الاستراتيجية بشكل جنوني وانهيار اجتماعي معيشي شامل استمرّ لسنوات دون إنقاذ.
إنّ التهريب المنظم للسلع الاستراتيجية المدعومة في لبنان الى سوريا في ظل غياب أي معالجة لضبط التهريب عبر الحدود، يجعل الاقتصاد اللبناني اقتصاداً لدولتين. ويصبح دعم السلع موجه الى بلدين وشعبين في ظل انخفاض احتياط البنك المركزي اللبناني من الدولار نتيجة تهريب رؤوس الأموال الى الخارج والمضاربة على سعر الدولار في السوق السوداء وانهيار اقتصاد لبنان بالكامل دون الإعلان الرسمي لإفلاسه.
من هنا إن رفع الدعم الرسمي عن السلع الاستراتيجية، كالمحروقات والطحين والدواء دون معالجة مشكلة التهريب، يُنبئ بتصدعات اجتماعية، تأتي بعد التصدعات المالية والاقتصادية في الأشهر الماضية. ولقد تجلَت أولى مظاهره بصورة لم يألفها اللبنانيون منذ الحرب وهي صفوف الناس أمام الافران. وقد يطرأ مشاهد مماثلة في حال السير باقتراح توزيع قسائم دعم البنزين، وهي قسيمة تحتسب الفارق بين السعرين السعر المدعوم وسعر السوق، وتُعطَى لكل من المزارعين والصناعيين وسائقي المواصلات العمومية. ويغفل هذا التوجه غياب وجود خطة نقل عام ومواصلات في لبنان منذ عام 1990 وعدم تأهيل وترميم شبكة سكك الحديد المدنية المُنشأة عام 1961 او المتعلقة بنقل المعدات العسكرية والبضائع المنشأة في عهد الانتداب الفرنسي وغياب المترو او الترمواي المتوقف منذ الستينات وعدم وجود شبكة حافلات مريحة آمنة تصل العاصمة بالمدن الرئيسية كباقي الدول الراقية والتي لم يتم إنشاؤها منذ انتهاء الحرب، ما ينبئ بازدياد معاناة الناس.
لم تتطرق التبريرات الحكومية الى موضوع تهريب المواد المدعومة الى سوريا، بل تحدثت عن ان رفع الدعم مرده الى رفعه عن غير المستحقين، باعتبار أنه يطال شرائح مرفهة تستفيد من خدمة دعم المحروقات كأصحاب السيارات الفارهة وأصحاب اليخوت. إلا أن ذلك لا يبرر هكذا إجراء يطال الطبقة الوسطى المدمرة والشرائح المحدودة الدخل. وكان الأجدى حصره بهذه الشريحة بدلا من اعتباره عقوبة جماعية على الشعب اللبناني المنهك اقتصاديا في ظل اقتصاد متآكل وإجراءات خانقة تضاف الى عقوبات دولية على لبنان ما قبل قانون قيصر وما بعده.
وفي حال رفع الدعم عن مادة البنزين والمازوت، سيصار الى احتساب كلفة هذه السلع بموجب سعر الصرف المتفلت للدولار في السوق السوداء، ما سيجعل سعر صفيحة البنزين يقفز من 23.500 الى 50.000 ليرة وسعر صفيحة المازوت يقفز من 11.000ل.ل. الى حوالي 40.000 ل.ل. على سعر صرف بين 4000-5000 ل.ل للدولار الواحد. ومن الممكن ان ترتفع سعر صفيحة البنزين لغاية ال 100.000 ليرة وسعر صفيحة المازوت الى 75.000 ليرة في حال وصول سعر صرف 1$ الى 10.000 ليرة في السوق السوداء. علماً أن الدولار لامس في الأيام الماضية ال 7500-8000 ل.ل. ومن الممكن ان تتغير هذه الأسعار بحسب ارتفاع سعر النفط في الأسواق العالمية، ما قد يجعل ثمن صفيحة البنزين يلامس ال 70.000 ل.ل. وثمن صفيحة المازوت يلامس ال 50.000 ل.ل. حتى لو احتسبت على سعر صرف يتراوح بين 4000-5000 ل.ل.
إن التصعيد لأصحاب محطات الوقود بدأ يلوّح بالأصعب كما بدأ تصعيد أصحاب الافران بالإقفال. والاقتراح الذي يجري تداوله للتخفيف من مضاعفات هكذا إجراء يقوم على ان تحتكر الدولة بدلا من شركات القطاع الخاص استيراد السلع الاستراتيجية، وتتحكم بأسعارها وكمياتها وتوفرها وتُخرج المسألة من يد الشركات والتجار والقطاع الخاص، وبالتحديد فيما يتعلق بمادتي المحروقات والطحين كي لا يكون السعر مربوط بيد أصحاب الشركات، واضطرارهم للجوء الى السوق السوداء لتأمين الدولار ما يجعل الكلفة ترتفع.