بديع يونس- في "يوم القدس".. الصراخ في بيروت والصلاة في قم

  • شارك هذا الخبر
Saturday, May 23, 2020

كتب الاعلامي بديع يونس في https://www.alarabiya.net/

دأبت إيران منذ سنوات عبر أذرعها وبينها حزب الله على تنظيم ما تسمّيه بـ"يوم القدس" في آخر يوم جمعة من شهر رمضان. ففي العواصم التي تفاخر بـ"احتلالها" عبر ميليشياتها كحزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن وأخرى مجتمعة في العراق وسوريا، وصولا حتى أوروبا وألمانيا تحديداً حيث كانت تنشط وتحيي سنوياً (قبل تصنيفها "إرهابية" وحظرها) "يوم القدس" هناك، تحاول طهران "الاتجار" بالقضية الفلسطينية المحقّة واستخدامها وقوداً لاستمرارية محورها "الممانع" قولاً لا فعلاً. بهذه الشعارات السنوية والتصريحات العلنيّة المتكرّرة تلعب إيران على الوترين "العاطفي" و"الإنساني". فعندما تكون نصرة "القضايا المحقة" هدفاً، لا يمكن لها أن تكون استنسابية ومزدوجة. على سبيل المثال لا الحصر، لا يمكن نصرة قضية شعب محقٍ هنا (فسلطين) ومهاجمة شعبٍ آخر هناك (سوريا – اليمن – العراق – لبنان) وفق ما تقتضيه أجندات دنيوية ماديّة بعيدا عن روحية الحقوق الإنسانية الكونية. يكفي النظر إلى حال شعوب الدول حيث تكون طهران فاعلة في المعادلة لفهم النقيض المُشار إليه أكان إنسانياً أو عسكريا. تلتمس حينها كمراقبٍ شعوباً مأزومة ومهجّرة ومقتولة ومنتهكة بأبسط حقوقها في سوريا والعراق واليمن ولبنان من نفس الجهة التي تدّعي الدفاع عن "حقوق الشعب الفلسطيني" في خطاباتها لا بأفعالها.

تبقى الجغرافيا أكثر الثوابت على مدار آلاف السنوات. "طريق القدس" في الألفية الثالثة ليس "طريق روما" في بداية الألفية الأولى وبالتالي لا "كلّ الطرق" (بخلاف روما) توصل إلى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. يبدو أنّ إيران اختارت أن تجوب العالم ولا تقترب من القدس إلا بالتصريح والوعيد لمدة "يوم واحد" سنوياً لتجييش النفوس. إيران وحزب الله وغيرهما من الجماعات المتطرفة مثل تنظيم القاعدة وداعش لاحقاً وجماعة الإخوان قبلاً يجتمعون جميعاً في البروبغندا حول "تحرير القدس".. فحيناً من أفغانستان وباكستان (القاعدة) وحيناً آخر من العراق وسوريا (داعش) ومرّة من سيناء (التكفيريون وجماعة الإخوان) ومراراً من صنعاء (الحوثيون) أمّا أقرب المواقع لـ "تحرير القدس" قد يكون من جنوب لبنان حيث حزب الله، إلا أنّ الأخير انتقل من "مقاومة" إلى ميليشيا تركت موقعها في أقرب نقطة إلى القدس وحوّلت وجهتها إلى سوريا والعراق واليمن ووصلت أوروبا وأميركا اللاتينية وأفريقيا ولم تقترب من "تحرير القدس" إلا في إطلالة زعيمها في خطاب مخصص سنوياً لـ"يوم القدس" فيحمل على يسار الشاشة صورة المسجد الأقصى وكتابة "يوم القدس" وإصبع يريد إلغاء إسرائيل فيما في الموازاة تصوّب فوّهات أسلحته على الشعوب العربية المناصرة للقضية الفلسطينية فعلا وقولا. ففي الممارسة يتظهّر مع مرور كل عامٍ على أنّ المشروع الإيراني التوسعي ـ بعيداً عن القدس ـ لم يصبّ إلا في إفادة العدو الإسرائيلي وتكريس احتلاله.

في الداخل الفلسطيني، قوّضت إيران "الوحدة الوطنية الفلسطينية" والتي استغلها الاحتلال لتكريس احتلاله. غذّت طهران "الجهاد الاسلامي" ضد حركة حماس في قطاع غزة، ثمّ دعمتهما معاً بوجه السلطة الفلسطينية والقوى الفلسطينية الأخرى، وغذّت الشرخ بين غزة والضفة الغربية وعززت التناقضات بين الفصائل الفلسطينية.

وفي شمال سيناء، خدمت إيران مصالح اسرائيل بتشجيعها ودعمها وتمويلها للإرهاب، في محاولة منها لـ"صبغ" فلسطينيين بهذه التهمة وذلك بعد أن أثبتت السلطات المصرية ضلوع إيران منذ عهد محمد مرسي بدعم التكفيريين بهدف تأمين قواعد خلفية ولوجستية لقوى سيناء الظلامية.
ولا يُخفى دور إيران في تخريبها على الفلسطينيين تفاهماتهم في أوسلو و واي ريفر وواي بلانتيشين من خلال تشجيع الخطاب التنظيري غير الواقعي أو البراغماتي. هذا وسعت طهران للتخريب على التعاون والتنسيق الفلسطيني الأمني عندما أرسلت باخرة محملة بالأسلحة، وقامت هي نفسها بإفشاء سرّها سلفا، فداهمتها إسرائيل في البحر الاحمر ضمن ما سُميت بـ"عملية سفينة نوح" (يناير 2002) وأفرغت حمولتها في ميناء أشدود واستعراضتها على شاشات التلفزة الأميركية بشكل ترويجي لـ"اتهام ياسر عرفات شخصيا بالإرهاب" فيما نفى الأخير أي تورط له بها. وبعدها كانت النتيجة "المدروسة" إيرانياً بمقاطعة الأميركيين لياسر عرفات ومحاصرته، لتكون طهران قبل منحت الفرصة السانحة لتل أبيب و"الحجة القوية" لاغتيال القائد الفلسطيني.

إن مواقف إيران الدوغماتيكية وتسويقها " للوعد الإلهي " بتحرير القدس ورمي إسرائيل بالبحر، هي التي قادت تداعياتها السلبية إلى إعلان إسرائيل جهاراً عن سياستها التوسعية وضم هضبة الجولان المحتلة الى أراضيها نهائيا وبناء المستوطنات عليها. وبصيغة تبسيطيّة أخرى، كلّما صعّدت إيران كلامياً بوجه إسرائيل بادرت الأخيرة لتكريس احتلالها على أرض الواقع. بعدما أرادت طهران في خاطاباتها "محو تل أبيب عن الخارطة " ردّت إسرائيل بـ"إعلان القدس عاصمة نهائية لها" وواكبتها واشنطن لاحقاً بنقل سفارتها إليها.

في جنوب لبنان، ترفع ايران مجسما خشبياً لقاسم سليماني وسباب يده موجها نحو الاحتلال الإسرائيلي في الجانب الآخر من الحدود. هي "مسرحية" لا تقل عن تلك هزليّة عن تلك التي تستخدمها إيران وحزب الله في الخطابات الرنّانة.. فيما على أرض الواقع، ومنذ العام 2000، لم يعد سلاح حزب الله موجها صوب تلك الناحية، ولم تعد إسرائيل وجهته، ولا القدس مقصده.

لو أرادت إيران فعلاً لا قولاً مواجهة إسرائيل والسماح لنا بالصلاة في القدس مهد الديانات السماوية الثلاث (وهي أمنية كل مكوّنات الشعوب العربية)، لكانت طهران حافظت على المقاومة بوجه إسرائيل (عام 1982 تشكّلت المقاومة من أحزاب يسارية من مختلف المذاهب قبل أن تحتكرها إيران عبر حزب الله لاحقا). اليوم لا تسير "المقاومة" يداً بيد مع ميليشيا حزب الله، وفيما أضاعت إيران أو حاولت إخفاء خارطة الوصول لـ"طريق القدس" واستذكرتها فقط في خطاباتها لإيقاد المشاعر، يتكرّس تباعاً هدف طهران عبر ميليشياتها وحزب الله على رأسها، ليتأكد أنّ "تحرير فلسطين" بالنسبة لهم شعارٌ .. والصلاة في قم أساسٌ .. و"القدس الشريف" ليست هدفاً ولا وجهةً لـ"محور الممانعة