حكيم مرزوقي- القتلة اثنان.. سلاح في حوزة أرعن وتديّن في عقيدة أهوج

  • شارك هذا الخبر
Sunday, April 5, 2020

حين تباع قطع السلاح مثلما تباع الأواني البلاستيكية في الأسواق الشعبية، يصبح اقتناؤها وتجميعها أسهل وأهون. عندها، تولد الحاجة -ولو على سبيل التسلية- إلى تشكيل ميليشيات مقاتلة، وذلك لسد الفراغ عبر ذلك “الفائض” من محرّضات القتل وأدواته.

عرفنا هذا المشهد في عدد كبير من أفريقيا وأميركا اللاتينية، وكذلك لبنان فترة الحرب الأهلية، وما زلنا نشهده في اليمن من خلال الميليشيات الحوثية التي لا تمدها إيران بالمواد الغذائية ووسائل البقاء بل بمختلف الأسلحة الهجومية ووسائل الموت والفناء.

قس على ذلك من “وفرة” دور العبادة، ومناهج “التربية الإسلامية” في زعم رعاتها المزيفين، إذ أصبح الكثير منها بمثابة الفخاخ المنصوبة للأغرار والمرتبكين في فهم العقيدة والاهتداء إلى طريق الله.

هذه “الوفرة” في دور العبادة، وتكدّس الكتب الورقية والرقمية التي تدعي الحفاظ على الدين وتعاليمه، ليست مدروسة على جميع المستويات التربوية والدعوية، وحتى على الصعيد الديمغرافي أو العمراني، ثم إن غالبيتها لا تراعي التوازنات الثقافية بين مكونات المجتمع، ولا كذلك التوجهات العلمانية والمدنية لبعضها الآخر.

المملكة العربية السعودية مثلا، وكأرض تضم غالبية المقدسات الإسلامية، وترعى فيها الدولة وتراعي هذه الخصوصية عبر توفير شتى الخدمات للحجيج والمعتمرين والزائرين، تأتي في المرتبة الخامسة من حيث عدد المساجد، وذلك بما يقارب المئة ألف مسجد، مقارنة بالهند، أكبر ديمقراطيات العالم وأكثرها تنوعا إثنيا ودينيا، والتي تحوي ما يقارب المئتي ألف مسجد. وتتفوق على السعودية في تعدد المساجد كل من إندونيسيا وبنغلاديش وباكستان ومصر، بكمّ هائل من المساجد التي تبنيها جمعيات أهلية عن طريق التبرعات خارج إشراف الدولة.. وهو أمر غاية في الخطورة من حيث غياب عين المراقبة الحكومية وإفساح المجال لحضور دعاة الدولة الموازية من إسلاميين وتكفيريين.

السعودية، ومع سياستها التحديثية وعزمها تطهير البلاد من التطرف وأوكاره، صارت تزايد عليها أطراف أخرى بالحرص على “التدين” الذي وقع تحريفه لصالح الجماعات التحريفية من الإخوان والسلفيين والدواعش الذين فرّختهم المساجد والبرامج التعليمية غير المراقبة.

ألم يسأل مؤمن نفسه: كم مسجدا كان على أيام النبي؟ وكم حانة كان يملكها النصارى واليهود في يثرب زمن قوة الدعوة الإسلامية وتألقها مصحوبة بانتصارات عسكرية كثيرة؟

هل الغاية في الكثرة والوفرة أم في توحيد الهدف وإيضاح الرؤية بعيدا عن الشطط والاهتمام بوحدة الخطاب السياسي الاستراتيجي، وحمايته من الاختراقات والمزايدات؟

لننظر في حال بلد عربي يفخر بأنه الأقرب إلى المدنية، وتغليب دولة القانون والمؤسسات: هذه صفاقس، أكبر المدن التونسية، وأكثرها احتضانا لمنظمات نقابية وأحزاب سياسية.. إنها تضم، وبحسب أحمد عظوم، وزير الدولة للشؤون الدينية الأسبق، 600 جامع ومسجد، بالإضافة إلى 300 كتّاب (مدرسة لتعليم القرآن حسب زعم أصحابها)، أي أن هناك دولة موازية بمؤسساتها التعليمية والدينية، وهو أمر يثير التوجس والسؤال، على اعتبار أن الكثير من الناس ما زالوا يعتبرون أن حالة الحكم المتمثلة في الفتوى، مصدرها الجوامع ومنابرها، وليس الحكومة وبلاغاتها الرسمية والإعلامية.

وانطلاقا من القاعدة القائلة إن وفرة الملاعب تشجع على الرياضة، وكثرة المكتبات ترغّب في القراءة، فإن لا أحد ينكر أن توفّر دور العبادة يغري بالإقبال عليها، ولو على سبيل الفضول والرغبة في ممارسة تلك “التشاركية” الروحانية، خصوصا في الأعياد والمناسبات.

وهنا يقع “مربط الفرس” أو “حطّنا الجمّال” كما تقول العامّة، إذ أن خطب الجمعة التي يستثمرها الإسلام السياسي كوسيلة جذب، تشبه -وإلى حد بعيد- رشقات الطلقات التي تطلقها الأسلحة الفردية في الأعراس الشعبية لدى الكثير من البلدان العربية والإسلامية. يبدأ الانبهار، أولا، بقطعة السلاح على كتف حامله كقطعة إكسسوار مكملة لحالة الهيبة لدى الرجل فيما يشبه الخنجر لدى اليمني أو العماني في لباسه التقليدي، ثم يتحول تدريجيا إلى الرغبة في استعماله متجاوزا بعده الفولكلوري.

كذلك الأمر بالنسبة إلى خطيب الجمعة في المساجد التي تكثر وتتفرق وتتنافس في استقبال “زبائنها” وإرضاء طموحاتهم، فلولا كثرتها لما تباهى مسجد بـ”عروضه” السخية أمام من يجلس قبالة منبره، وينصت بقلب أعمى إلى ما يقوله المتهافتون والمحرضون ضد الأمن العام والسلم الأهلي، وهم في ثياب توحي بالورع. عدم احتكار الدولة للسلاح، و”العنف” بمفهومه القانوني والمدني، يجعل أي بلاد فريسة للفتنة والفوضى والقتل المجاني، كذلك الأمر بالنسبة إلى حكومة تدع الحبل على الغارب، وتسمح لمن هب ودب ببناء المساجد واحتلال منابرها بقصد احتلال عقول مصليها.

وكما في الحالة الإيجابية المتعلقة برغد العيش فإن وفرة الغذاء توقظ مخيال الطهاة وتجعلهم أكثر إبداعا في ابتكار الأطعمة وتنوعها.. الأمر ينطبق تماما، وفي الاتجاه السلبي، حين تتوفر أوكار التطرف وتنمو في دور العبادة، وكذلك تتكاثر أسلحة القتل وتباع لمن هب ودب باسم الدفاع عن النفس والذود عن الكرامة.

كل هذا المشهد البائس، تختصره صورة طفل يمني يشكو سوء التغذية، ويختفي من شدة نحافته، خلف سلاح منحه إياه الحوثيون بعد أن حرموه من التعليم، وملأوا رأسه أوهاما وأباطيل.. إنها المزاوجة المقيتة واللقاء الملعون بين عقيدة زائفة وعدائية، وسلاح متوفر ومجاني في غياب سلطة الدولة.

قال واضع علم الاجتماع، والمفكر الذي ينبغي أن يتباهى به العرب جميعا، عبدالرحمن بن خلدون: إن ألف يوم مع حاكم ظالم، لهو أهون ألف مرة من يوم واحد دون حاكم.

أدرك ابن خلدون، منذ ثمانية قرون، أن غياب الدولة يعني الفوضى، وفتح الباب أمام كل من تسول له نفسه تقديم “الدولة البديل”.. وهذا ما يحدث اليوم، فوق منابر تُفتك من أئمتها الشرعيين.

الأمر لا يختلف في بلدان أوروبية تحتكم إلى العلمانية منهجا والديمقراطية أسلوبا في إدارة الحكم، إذ أن الأمور قد خرجت عن السيطرة حتى في بلد عرف بصرامته مثل ألمانيا التي يبقى فيها عدد البنايات والأندية التابعة للمساجد مجهولا. ومنذ النزاع حول المسجد التابع للاتحاد الإسلامي التركي في كولونيا، اشتعل النقاش مجددا حول المساجد في ألمانيا، لأن الكثيرين يربطون مبنى المسجد الكبير هناك باستعراض القوة من جانب الدولة التركية.. وهو “قمة في الوقاحة الأردوغانية” التي تستند إلى ثغرة قانونية مفادها أن الدستور الألماني لا ينص على واجب التسجيل بالنسبة إلى المجموعات الدينية، يعني “ما دامت هذه المجموعة الدينية -أو الاتحاد الديني- ليست هيئة عامة، فإنها لا تخضع للتسجيل” حسب خبير الشؤون الإسلامية ميشائيل بلومه.

لنقارب هذا الأمر من جانب آخر كنا قد بدأنا به حديثنا في معرض الكلام عن احتكار السلاح ودور العبادة بقصد استباحة هيبة الدولة لدى الإسلاميين، وافتكاك الحكم بطريقة تبدو ناعمة وغير محسوسة.

إن حيازة السلاح في دول أميركية وأوروبية كثيرة أمر يكفله القانون بدافع الصيد أو الدفاع الشخصي بالإضافة إلى دخوله ضمن التقاليد الشعبية في دول كسويسرا والنرويج والسويد وغيرها. وبناء على ما تقدم فإن جماعات إسلامية كثيرة تعيش في هذه البلدان وتتمتع بجنسياتها فلا موانع لدى هؤلاء من اقتناء قطع سلاح وفقا لضوابط قانونية كما هو الأمر في حرياتهم بممارسة العبادة كما تقتضيه دساتير هذه البلدان.

السؤال الأخطر في هذه الحالة العصيبة والمعادلة الصعبة: كيف تضمن أن المتشددين والمتطرفين الإسلاميين لا يستخدمون هذين السلاحين (دور العبادة واقتناء السلاح) في “ممارسة قناعاتهم الأيديولوجية” المتمثلة في ازدراء وتصفية كل من يخالفهم الرأي؟

يقول المثل الشائع في أنحاء العالم العربي وبلهجات مختلفة “السلاح بيد الوغد يجرح”.. نعم إنه يجرح بالتأكيد، وإلا فما رأيك أن يترك العالم نظاما فاشيا مثل إيران، يمتلك سلاحا نوويا؟

السلاح الخطير كان، وعلى مدى التاريخ، وسيلة لحماية الأيديولوجيا الخطيرة والذود عنها، بل وبالقتال لأجل فرض هيمنتها.

لا غرابة إذن في أن يتحد السلاح مع العقيدة المتطرفة إلى حد التماهي والبحث عن هذا التزاوج في النصوص المقدسة، مع الاجتهاد الكبير في التماس المسوغات والتبريرات، حتى لدى الجماعات المسيحية التي استنجدت من الأناجيل بعبارة يقول فيها المسيح “من لم يكن لديه سيف، فليبع رداءه ويشتريه”. وقد سبق لتنظيمات تتستر تحت القضية الفلسطينية أن استخدمته مثل “أبونضال” و”أبوموسى” و”أحمد جبريل”. أما عن إرهاب الإسلاميين فيكفي أن نستشهد بشعار حزب الله في تلك الراية الصفراء التي تحرف كلمات وردت في القرآن وتشكل منها رسما لصورة سلاح.