السياسات الشرطية والتباسات الحوكمة في زمن الثنائي الشيعي والاوليغارشيات المتواطئة- بقلم د. شارل شرتوني

  • شارك هذا الخبر
Monday, February 24, 2020

لقد وصلنا الى قعر جهنم ولا تزال هذه الطبقة السياسية الرديئة مقيمة على التباساتها، ولا رغبة لديها في إعطاء اجوبة حاسمة في مجالات إصلاح الحوكمة المالية والاقتصادية، كما كان هو الحال في المراحل السابقة. لقد مررنا في مؤتمرات باريس الأربعة، وبقيت هذه الاوليغارشيات على غموضها فيما يعود الى اعتماد الإصلاحات المالية والإدارية والحكومية، ولا اجماع فيما بينها الا حول تلقي الدعم المالي غير المشروط بالإصلاحات، علها تزيد رافدا اضافيا الى سياسات النهب المنهجي الذي اعتمدته صعودًا مع بداية سياسات القروض التفاضلية على قاعدة شراء سندات الخزينة من قبلها وقبل شركائها في الداخل والخارج، لتمويل سياسات اعادة الإعمار من خلال التلزيمات بالتراضي لمشاريع انشائية ذات كلفة مضخمة، وأولويات خاطئة ومشبوهة، وجودة مهنية غير مطابقة للمواصفات الدولية، وتصريفات طوائفية واجتماعية تمييزية مبرحة، ونزولا عند تحصيل الفوائد الريعية التي كانت بأساس انهيار المالية العامة.
واقع الأمر هذا يفسر لما استبعدت سياسات الاستدانة الأخرى: القروض الميسرة ذات الآماد الطويلة ومعدلات الفائدة الرمزية، والهبات العينية، والمقايضات القطاعية، وتحفيز الاستثمارات عبر التلازم بين تثبيت الاستقرار السياسي والحركة الاقتصادية التي استبعدت نظرا لارتباطها بسياسات شرطية ( Politics of Conditionality ) ملزمة تفترض مراقبة وتدقيقا وتقييما ومحاسبة، الأمر الذي يحول دون السياقات السياسية والمصالح المالية والاقتصادية المبرمجة على خطوط تواصل الطائف الخارجية والداخلية …،.
الأوضاع الحالية تتطلب وضوحا وحسمًا في الخيارات على مستويات الحوكمة وصيانة التوازنات البنيوية في البلاد على كل المستويات، والا فالمعالجات المالية سوف تبقى دون الأهداف التي ترتبط بها والتي تتمحور حول استقامة العمل الحكومي، والمعالجة الفعلية للمشاكل العامة البالغة الخطورة (عجز الميزانية العامة، أزمة السيولة والملاءة، عجز ميزان المدفوعات والميزان التجاري، التراجع المميت للاستثمارات والعمل الاقتصادي المنتج لحساب سياسات الريوع التي أنتجتها حكومات الطائف منذ تسلم رفيق الحريري ووصولا الى يومنا هذا، مفارقات سياسات اعادة الإعمار لجهة أولوياتها، وكلفتها، ومترتباتها المهنية، والممارسات الفاسدة العائدة لأعمال التلزيم بالتراضي، والمحاصصات الريعية، والنهب المبرح لأموال اعادة الإعمار التي لم ترتبط بأية رؤية تداخلية لجهة صياغتها التقنية وأهدافها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والتربوية والسياسية العامة…،.).
ان أسوأ ما في هذا النهج السياسي المديد هو التباساته الإرادية التي تحجب سياسات سيطرة فئوية من قبل اوليغارشيات الطائف التي حكمت بقوة وصايتها الإقليمية ( السنية السياسية على خطوط تقاطع وتنازع السياسات السعودية والخليجية والسورية والإيرانية والتركية، والشيعية السياسية على خطوط تقاطع وتنازع السياسات الإيرانية والسورية ومحاور النفوذ السنية اقليميا )، وعلى أساس خريطة توزع المسالب والريوع والحيازات والمحسوبيات بين مراكز القوى السنية والشيعية ومرجعياتها الإقليمية الضابطة، ومواليهم في الأوساط المسيحية، والأهداف السياسية والاستراتيجية الإقليمية التي تحكم تموضعات العمل السياسي الداخلي التي تتحرك خارجا عن أية ضوابط دستورية، وموجبات مدنية، واعتبارات ميثاقية أو ديموقراطية، تعطي للاداء السياسي ابعاده ودوره الناظم في صيانة تماسك البنية الدولاتية والسياسات العامة، وإعطاء البلاد حيثيتها الكيانية والوطنية الجامعة التي تعلو وتؤطر الديناميكيات السياسية الفعلية.
لقد تماهى العمل السياسي في العقود الثلاثة المنصرمة مع سياسات النهب المعلنة للأموال العامة، والإقفالات الاوليغارشية التي قوضت المؤسسات الدستورية وحولتها الى اداة تزوير للثقافة الديموقراطية، وتغطية واقع الفساد العميم الذي حكم الحياة العامة في الثلاثين سنة الماضية، وواقع التبعيات التي نتجت عن واقع السيادة المعطلة والاستنسابية والمحدودة.
ان أية محاولة لفهم الأسباب التي أدت الى هذه الانهيارات العميمة خارجا عن التلازم بين حيثيات العمل السياسي والتدبير المالي والاقتصادي وتردداته المتنوعة، تنطوي على اخطاء منهجية مضللة وغير مساعدة في بلورة أفق اصلاحي مبني على تقاطع السيادة الدولاتية الفعلية، وإلاصلاحات البنيوية على تنوع محاورها المالية والاقتصادية والايكولوجية والتربوية .
السؤال الأساس الذي يطرحه السياق السياسي الحاضر، هل الثنائي الشيعي بقيادة حزب الله بصدد اداء سياسي يهدف الى اعادة التماسك البنيوي للدولة اللبنانية، أم انه بصدد ترتيب أولوياته السياسية من منطلق الاستراتيجية الإقليمية الإيرانية؟
هل تولي المصالح الاوليغارشية التي تتقاطع مع سياسات الثنائي الشيعي اعتبارا لأولوية إصلاحات الحوكمة، وما تمليه من مواءمة السياسات المالية والاقتصادية مع احكام النظام الديموقراطي لجهة تعددية مواقع القرار الاقتصادي والمالي، واحكام العدالة التوزيعية، وادغام البعد البيئي بآلية صياغة الاستثمارات وإنفاذها، والتصرف على أساس الرباطات المواطنية الفعلية وموجباتها التي تتناقض مع واقع المخارجات القائمة التي تنبني على قاعدة فراغات مدنية واتيكية وتدبيرية نافية لها.
ان انتفاء صدقية الدولة اللبنانية واقع موثق على مدى ثلاثة عقود، وعلى الرغم من ذلك أعلنت كل من الولايات المتحدة، وفرنسا، والسعودية استعدادها دعم لبنان على أساس الالتزام الصريح بموجبات السياسات الإصلاحية الشرطية على تنوع مندرجاتها.
ان تداول الحكومة الحاضرة مع صندوق النقد الدولي يبقي شكوكا وأسئلة أساسية حول الاستعداد الحقيقي لأخذ المنحى الاصلاحي المشترط، وما يمليه من تبدلات بنيوية ترى فيها الاوليغارشيات نهاية لحيثياتها الادائية ولشبكة ارتباطاتها، وللأهداف التي انتظم على اساسها العمل العام الذي اعادت صياغته على قاعدة مصالحها الخارجية والداخلية المتحركة.
لسوء الطالع، لم تنجح الحراكات المدنية في فرض معادلة متكافئة تجري على اساسها وضع مرتكزات العمل الاصلاحي، ومرحلة أولوياته وتحديد أهدافه على تنوع مراميها.
لقد آن اوان الانتقال من وضعية النقد والممانعة على أهميتها، الى وضعية الائتلاف المرحلي المنتظم حول برنامج وفاقي يضع حدًا للتركة الاوليغارشية واقفالاتها، كشرط منشىء ومقدمة لأية ديناميكية اصلاحية تراكمية ومستدامة.