رويدا الزعر - أميركا.. الدولار ونحن

  • شارك هذا الخبر
Thursday, February 20, 2020

عند مغادرتي لبنان في كانون الأول 2019 متوجهة الى الولايات المتحدة الأميركية في زيارة لشهرين, قررت أن أقف على مسافة من لبنان ومن الانتفاضة لعلّي التقط أنفاسي وأجد قليلاً من الراحة. حملت تعاستنا وشقاؤنا وقهرنا الى حيث نظن ان الناس لا تعاسة لديهم ولا شقاء, بينما في الواقع لهم تعاستهم وشقاؤهم. خلال الرحلة تبيّن لي ان الوطن والانتفاضة لن ينفصلا عني. حملتهما في الجرائد التي قرأتها, لازماني طوال إقامتي في الولايات المتحدة من خلال البث التلفزيوني والأخبار والمقالات المحلية والعالمية، ومن خلال مطالعتي لكتاب أمين معلوف (Le naufrage des civilisations) الذي حمّسني لتحرير هذه الأفكار.

لن أدّعي في هذه السطور سوى تحرير أفكار ولّدتها ملاحظات تكررت يومياً أمامي وعلى مسمعي. لقد تابعت, مثل كل اللبنانيين, ولا أزال حركة العملة اللبنانية مقابل الدولار, كيف لا وقد جمعت نفقات سفري وإقامتي خارج لبنان على مدى شهرين من الكرّ والفرّ الى المصرف, وقد حملت بطاقتين مصرفيتين لم أتمكن من استخدامهما. زادني إصغائي للتحليلات الاقتصادية والمالية والسياسية خوفاً وغضباً وقناعة بأن لبنان مدولر. رأيت معاناة الناس أمام المصارف وداخلها ومعها, استمعت لتصريحات ومقابلات لخبراء ومحللين وحاكم المصرف المركزي, كل ذلك أكّد لي اننا نعيش في وطن مدولر وان حياتنا مدولرة وليس فقط اقتصادنا.

الدولار الأميركي يمارس علينا عبودية جديدة

في لبنان نعيش الدولار في مأكلنا وملبسنا ومشربنا وسلوكنا الاستهلاكي وكلامنا واتجاهاتنا الفكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

يتحكّم الدولار في معجون الأسنان الذي نبدأ معه يومنا وننهيه, في البطاطا (لحم الفقراء) البلدية والمستوردة التي نطبخها بدءاً من البذار الى السماد الى الأدوية كلها مقرّشة على الدولار. أرجلنا مدولرة بدءاً من الجوارب الى الحذاء الى البنطلون الى حبة دواء إلتهاب المفاصل. هو حاضر في هاتفنا المحمول وفي الحاسوب وفي لمبات النور في غرفنا.

الولايات المتحدة «أم الدولار» حاضرة في كل مستويات حياتنا: في دردشاتنا على الـ «واتساب», حيث كان عليّ أن أتعلم الرموز اللغوية الأميركية للدردشة الالكترونية (لقد استعلمت عن معنى OMG لأعرف انها Oh my god وان IDK هي I don’t know), في المفاهيم المتداولة بين شبابنا، مثل الإبداع الحرّ, التفوّق, التغيير, القوة, اسقاط المقدس, الحوكمة الرشيدة, الشفافية, المجتمع المدني...

الولايات المتحدة دولرت العالم وليس مجتمعنا فحسب. الدولار يحكم اقتصاد وسياسات معظم دول العالم بواسطة أدوات وآليات شديدة الفعالية مثل البنك الدولي, صندوق النقد, نظام المصارف, مراكز الأبحاث على أنواعها الاستراتيجية والعسكرية والطبية والمالية والبيئية والمناخية والفضائية... الجامعات ونظام accreditation, الوكالات التجارية، شركات التأمين وإعادة التأمين, المنتديات والمؤتمرات والمنصات الدولية, وسائل الإعلام والإعلان والتواصل والاتصالات، شركات الاستثمار, مؤسسات التصنيف المالية وغير المالية, نظام التسليف والائتمان والسحب النقدي ATM, دورات التدريب training and coaching, برامج التعليم...

نصّب الدولار نفسه إلهاً بعد أن صادر كل الآلهة, زرع قيم التفوّق والنجاح المرتبطين بالدخل والمال, حتى الإنسان نفسه أصبح مدولراًً لان حجم مدخوله بالدولار يجدّد ماهيته.

في الولايات المتحدة «أم الدولار» القضية المحورية التي تشغل بال الفرد الأميركي هي دفع الفواتير حيث عبارة my bills لا تسقط عن لسان الفرد الأميركي وان خياراته السياسية ونظرته للشعوب الأخرى تحكمها قدرته على دفع فواتيره. لا يهتم الأميركي سوى بما وبمن يعطيه القدرة على دفع his bills. هذه الفواتير التي تزداد كلما سعى لرفاهية أكبر وكيف لا والجميع غارقون في الاستهلاك الذي لا يتوقف. لا يهمّه ماذا يفعل سياسيوه واقتصاديوه في العالم, إنما المهم عنده هو فرص العمل والبحبوحة والمال أي الدولار الذي يجنيه.

يملأ الرئيس الأميركي الشاشات والأخبار ووسائل التواصل. لهجة الاستقواء والغطرسة في خطابات هذا النموذج الأميركي لصاحب القرار, مع الفوقية التي يتوجه بها الى العالم, تدفع كل أميركي الى اعتبار نفسه إنساناً من الدرجة الأولى:

الأميركي القادر, القوي, الذي لا يقهر, الذي لا يتراجع, الذي يذلل أي صعوبة, الذي يجد الحلول, الذي يفعل، يؤثّر ويحكم. انه الـ «بروفايل» الأميركي, قيمه صارت عالمية إنسانية: الإبداع الحرّ حتى لو كان جنوناً, حريات لا محدودة حتى لو كانت مؤذية للاستقرار (الأميركيون لا يحبون الوضعيات الستاتيكية الجامدة فهم براغماتيون), التغيير حتى لو أدّى الى الفوضى المنظمة, الفردية حتى لو أضعفت الجماعة، القوة حتى لو دمّرت بلداناً وشعوباً. الأميركي يقدّس الفرد والنجاح والمال ويجاهر بذلك.

غريب أمر الأميركيين, انهم يجمعون النقيضين معاً:

الأنا/ الفرد مع نحن العائلة (اجتماع العائلة في عيد الشكر وعيد الميلاد صار نموذجاً عالمياً تقلدّه الجماعات التي عاشت لفترات في أميركا الشمالية ومنها اللبنانيين).

الاستقواء على الآخرين والتنمّر على الشعوب الأخرى مع الإعلان الدائم عن حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها.

المساواة بين الناس مع التأكيد المباشر وغير المباشر على التمايز الأميركي بالقدرة والقوة والامكانات ومع تصنيفات «الدول المتحضرة» و«غير المتحضرة».

عدالة إنسانية مع نظام ليبرالي متوحش يوسّع الفروقات الطبقية في مداخيل الأميركيين وعند باقي الشعوب وهم يخلقون فئات نخبوية في الدول النامية.

ديمقراطية في تحالف مع الأنظمة السياسية القامعة لشعوبها.

خير البشر والإنسانية مع التملص من توقيع الاتفافات حول المناخ والانبعاثات الكربونية الصناعية ومع وضع الشروط الاستغلالية لتنمية الشعوب الأخرى.

الانفتاح الثقافي مع سيطرة وغزو النمط الثقافي الأميركي لثقافات العالم.

قبول الآخر المختلف مع الاستخفاف والتنمّر على الشعوب الأخرى.

حفظ السلام مع توسيع المواجهات العسكرية والتكنولوجية والسياسية.

ما يريده الدولار يحدث, ما يزرعه ينبت, ما تقوله الولايات المتحدة يسمع, ما ترفضه يغيب.

لقد أصبح الدولار كابوسنا بعد ان كنا نظن انه مصدر للاطمئنان والراحة والبحبوحة. كان اللون الأخضر يمثّل الخصب والأمل, صار اليوم يمثّل الخوف والقحط والانهيار.

أغار منكم أيها الأميركيون وأحسدكم وكآنه لم يكن كافياً لي حجم المشاعر السلبية التي حملتها معي عند قدومي الى «أم الدولار». أتساءل هل ان تحويلي لمشاعري السلبية نحو الدولار بدلاً من توجيهها لحكامنا وإدارتهم السيئة للسياسة والاقتصاد هو دفاع عن الذات المذنبة المخطئة أم هو الترانسفير النفسي الذي يريح ولا يداوي؟


اللواء