"الحرب الخشنة في اساليب ناعمة" - بقلم العميد منير عقيقي

  • شارك هذا الخبر
Wednesday, February 19, 2020

اذا طالعنا الأبحاث والدراسات عن مراجع تتعلق بالحرب الناعمة أو القوة الناعمة، نرى اننا امام بحر من الأفكار والتناقضات والتوهمات والنظريات، ويكاد المرء يضيع بين الحرب الناعمة والقوة الناعمة، او يسأل أيهما التعبير الأكثر دقة.
قوام الحرب الناعمة هو في استبدال الدبّابة بالإعلام، والجيوش بالعملاء، والاحتلال المادي بالاحتلال الفكري والأيديولوجي، والسيطرة على الأبدان بخنق النفوس والأرواح والعقول والأفكار وأنماط العيش، وتكريس الهزيمة من دون حاجة لاستخدام القوة العسكرية.

الحال، ان مفهوم "الحرب الناعمة" يُعد من المفاهيم الجديدة التي استحدثت في عالم الحروب المعاصرة، والتي تستهدف الدول وانظمتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، باعتماد وسائل وأساليب للتأثير في الآخرين، من دون الحاجة المباشرة الى القوة العسكرية.

يتفنّن الممسكون بالقرار الدولي بابتداع المخططات والأفكار التي تديم هيمنتهم على العالم عموما، وعلى العالم الثالث خصوصا. من الذين كتبوا عن هذه الحرب وروّجوا لها، الأميركي الليبرالي جوزيف ناي الذي عرض هذا المصطلح سنة 1990 في كتابه "وثبة نحو القيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأميركية"، ثمّ أعاد استخدامه في كتابه "مفارقة القوة الأميركية" عام 2002. ثم طوّره في كتاب بعنوان: "القوة الناعمة، وسيلة النجاح في السياسة الدولية" سنة 2004. عرّف القوة الناعمة بأنها "القدرة على الحصول على ما تريد من طريق الجاذبية بدلا من الإرغام، وهي القدرة على التأثير في سلوك الآخرين للحصول على النتائج والأهداف الموضوعة من دون الاضطرار إلى الاستعمال المفرط للعوامل والوسائل العسكرية الصلبة.

تشير الدراسات الاستراتيجية، والمراجع السوسيولوجية المتخصصة في علم الهندسات الاجتماعية والرأي العام، الى ان المدة الزمنية المطلوبة للوصول الى تغيير مجتمع او تخريبه او تدميره بالكامل، تستغرق من 15 إلى 20 سنة، وذلك عبر استهداف "قيم المجتمع". وهو وقت كاف لتعليم جيل واحد من الطلاب او الاطفال، بحيث يتركز العمل خلاله على مخاطبة هذا الجيل عبر التسرّب الى مناهج دراسته وتشكيل النظرية الأيديولوجية للمرحلة التي تلي.

تشمل هذه االفترة العمل على التأثير بطرق مختلفة، منها تهديم اسس المجتمع، تكثيف الاساليب الدعائية، الاتصال المباشر عبر جمعيات تعنى بأمور معينة من مختلف المجالات التي يتشكل او يصاغ بها الرأي العام كالدِين، النظام التعليمي، نمط العيش، الحياة الاجتماعية، الحريات الشخصية والعامة، نظام الادارة والأداء السياسي الرسمي واجراءات انفاذ القانون. في كل مجتمع هناك أشخاص وجمعيات على خلاف ايديولوجي مع سياسة الدولة. وفي اللحظة التي يتم تحريك هذه المجموعات في اتجاه واحد، تتصدع البنى المجتمعية في اتجاه الوصول الى الأزمة ومن ثم الانهيار.اذا، هذا هو بالضبط الاسلوب
الناعم المعتمد في فن الحرب الخشنة.
في حالة الدول النامية، فإن العمل يبدأ بتصديع السلطة المنهكة التي أجهدتها الزبائنية، وفي هذه اللحظة يبدأ الظهور العلني للهيئات والمنظمات التي تدّعي العمل لمصلحة المجتمع، في حين ان ما يهتمون به هو استغلال الآم الناس لتحقيق الاهداف. اما المجالات الرئيسية التي يُطبق فيها التخريب فتتركز على البنى المجتمعية التي تشمل الدِين والتعليم والعائلة والصحة والبيئة...، بهدف ضربها واستبدالها بأنماط تتوافق مع الخطة الموضوعة والممنهجة وبعناوين برّاقة تخفي تحت اشعاعها شكلا جميلا من اشكال الانتداب الحديث. العامل المساعد هنا لاستثارة التململ ثم الغضب من السلطة هو التركيز على البيروقراطية وتفشي الفساد والرشوة في المؤسسات، والفشل في طريقة ادارة السلطة لشؤون الناس والبلاد بحيث تبدأ بالتآكل ببطء، تتبعها زعزعة الاستقرار وصولا الى الانهيار. الثابت هنا ان هذه المرحلة تكون مقدمة لسقوط النظام والكيان...

مواجهة اي دولة للحرب الناعمة، لا تحتاج لاطلاق النار على احد. في بساطة، المطلوب ان يمتلك مسؤولوها الايمان ونزاهة تطبيق القوانين. بمعنى أدق، اذا لم يمتلكوا بعد هاتين القوّتين، فلن يصمدوا امام اي قوة جارفة، ناعمة كانت ام خشنة.