منير الربيع- سقوط عقيدة "الرئيس القوي": منعاً لحروب الإلغاء والانفجار الطائفي

  • شارك هذا الخبر
Tuesday, February 18, 2020

وضعت ثورة 17 تشرين الصيغة اللبنانية على مشرحة البحث. لذا، عاجلت جهات محلية وخارجية إلى إعداد دراسات وتصورات حول مستقبل الكيان اللبناني ونظامه. وتجتمع كل هذه الجهات على خلاصة واحدة، مفادها أن أي تغيير حقيقي في الصيغة، أو إجراء تعديل جذري في اتفاق الطائف، يحتاج إلى عاملين. إما حرب أهلية، تغير موازين القوى وتفرض موازين جديدة تثبت بالنصوص. وإما توافق وطني ودولي جامع على فكرة التغيير. النقطتان غير مطروحتين حالياً، بالنظر إلى الوقائع المستمدة من مواقف داخلية وخارجية.

صفات الرئيس
أخطأت بعض القوى اللبنانية في فتحها لسجال "الصلاحيات" و"استعادتها". نصائح كثيرة وجهت إليهم بوجوب وقف هكذا نقاشات، لأنها سترتد على أصحابها سلباً، وسيكتشفون أنهم الأضعف في المعادلة. وبالتالي، "المناصفة" التي يتمتعون بها قد لا تستمر، وستؤدي إلى مثالثة، أو ستؤدي إلى استنفار طائفي يفتح نقاشاً جديداً حول مسألة التعداد السكاني.

بعد معركة الصلاحيات التي خاضها رئيس الجمهورية مع رئيس الحكومة، وانفجار الثورة، يعود الحديث مجدداً في بعض الأوساط المسيحية بطرح الفدرالية أو اللامركزية الموسعة. لكن هذا النقاش لا يبدو واقعياً أيضاً، حالياً على الأقل، على الرغم من أن تغييرات كثيرة ستطال التركيبة اللبنانية.

ما حصل فعلاً وبشكل لا يقبل أي لبس، هو سقوط معادلة "الرئيس القوي"، التي لم تنجح إلا في تغذية الصراعات الطائفية والمناطقية. والجدال الأساسي يدور حول نوع القوة التي يجب أن يتمتع بها رئيس الجمهورية. فلا تكون بالتأكيد قوة قائمة على الادعاء أو على الاصطدام بالآخرين، بقدر ما هي قدرة على الجمع بين اللبنانيين، وتُستمد من إجماع اللبنانيين على شخصية هذا الرئيس، أي أن يكون لديه مقبولية لدى الطوائف الأخرى، فلا يكون منبوذاً منها ويحظى بدعم طائفته وحسب.

تجارب تاريخية
لا تخرج النقاشات، من البعد التاريخي والجدّي لمقاربة الوضع الماروني بالتحديد. إذ أن الرؤساء الأقوياء حقاً، بأفعالهم ومشاريع بنائهم للدولة ومؤسساتها، لم يكونوا أصحاب خطاب طائفي أو مذهبي، ولم تبن قوتهم على استنفار القوى الطائفية الأخرى. من كميل شمعون الذي وُصف بفتى العروبة الأغر، وجاء بدعم شيعي ودرزي وسني، واستمرت مقبوليته لدى الطوائف الأخرى إلى أن ذهب في نهاية عهده إلى تصلب مسيحي وتغليبه على الوطنية، والانخراط بمشاريع تتعارض مع نصف اللبنانيين، كالانحياز إلى "حلف بغداد". بعده، أتى عهد الرئيس فؤاد شهاب والذي عرف بعهد البناء والمؤسسات والتنمية، استمد قوته من إجماع اللبنانيين حوله، وتوافر ظروف إقليمية ودولية وفرت الحماية والحرص عليه وعلى عهده، مع العلم أن شهاب لم يكن محبوباً عند الأحزاب المسيحية الذي تدّعي القوة وتطلبها. كذلك بالنسبة إلى الرئيسين شارل حلو والياس سركيس، على الرغم من بعض الخلافات معهم من قبل القوى المختلفة والمتنوعة.

في هذه النقاشات أيضاً، أن المسيحيين وصراعاتهم فيما بينهم على مفهوم "القوي"، أو على قاعدة من يكن متعصباً أكثر، أو مستفزاً للآخرين، هو الذي من حقه أن يتبوأ رئاسة الجمهورية، قد دفعت بهم إلى الهلاك وإغراق لبنان في صراعات دموية أثرت على دورهم ووجودهم فيه. وأوصلت المسلمين إلى حدّ الانفجار في العام 1975 مع الاعتبار "للمعطيات الخارجية والدخيلة على الواقع اللبناني". لم يتأخر الصراع عن العودة إلى داخل البيئة المسيحية في الثمانينيات، والذي أيضاً أسهم في تدمير المسيحيين وتهجيرهم أو إضعاف دورهم، الذي تكرس فيما بعد باتفاق الطائف.

"العهد" الإلغائي
جاء ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، تحت العنوان القديم ذاته، "الرئيس القوي"، وبطموح تقوية المسيحيين واستعادة صلاحياتهم. فقامت سياسته على استفزاز أكثرية شرائح المجتمع اللبناني، ليسقط التوافق في الأيام الأولى لولاية عون. ولم يقتصر على الخلاف المسيحي الإسلامي، إنما توسع إلى حرب الإنقضاض والإلغاء التي خيضت ضد قوى مسيحية أخرى كالقوات اللبنانية وتيار المردة، وتهشيم المستقلين، تحت عنوان القوة، فأوصلت اللبنانيين إلى الانفجار الكبير الذي وقع، ولم يعد بالإمكان العودة إلى ما قبله.

هكذا، سقطت معادلة الرئيس القوي، محلياً وخارجياً. وهناك خلاصة خارجية أيضاً تتحول إلى ما يشبه اليقين، أن ادعاء هذه القوة لدى طرف مسيحي، لا يؤدي إلا لإضعاف المسيحيين أكثر، أو ينعكس سلباً على وجودهم. والجديد هذه المرة، أن الخروج من معادلة الأقوياء في طوائفهم لن تقتصر على المسيحيين، إنما ستنسحب على الطوائف الأخرى.

الشخصيات التوافقية
ولذلك، يبرز تنافس خفي في الكواليس السياسية في التحضير لمعارضة هذا العهد، وقطع الطريق على أي محاولة لاستنباط ما يشبهه. وهذا لا ينفصل عن رؤية دولية للواقع اللبناني، تقوم على مبدأ إضعاف الأقوياء في الاختيار للمناصب الأولى. وهذا ما يفتح الباب أمام منافسات من نوع آخر، لدى السنة والموارنة والدروز والشيعة. والذي اخذ طابعاً واضحاً في خروج سعد الحريري من السلطة والمجيء برئيس ضعيف سنياً، ما سيكون مقدمة لاستنساخ التجربة في رئاستي الجمهورية ومجلس النواب لاحقاً، فالتنافس الماروني مستمر، وكذلك الشيعي.

وهناك جبهة سياسية قيد التشكل، لا تزال من دون أي خطة أو برنامج مشترك، لكن أقطابها يلتقون على فكرة ويختلفون على الكثير، إلا أن نقطة الجمع بينهم تقوم على أساس إضعاف التيار الوطني الحرّ، وإعادة اللعبة السياسية في إنتاج الرؤساء على قاعدة الشخصيات التوافقية وليست الاستفزازية ولا من الذين على خصومة مع أكثر من نصف الشعب اللبناني.