عذرًا يا أبي فقد قررت الرحيل...

  • شارك هذا الخبر
Monday, January 20, 2020

" اعذرني يا أبي، لأنني لم اتحمّل رؤية دموع امي التي انسكبت منذ اتخاذي قراري النهائي بالرحيل، ولم تنقطع حتى ساعة مغادرتي لبنان. لم أتمكن من إطالة النظر الى وجهك المتأثّر ودموعك المحبوسة خلف عينيك الهادئتين، وكلامك الرصين لحظة اعطائي توصياتك الوالدية الأخيرة."
جمل قصيرة قالها لي ابني "طارق" قبل حوالي السنتين امام مدخل المطار قبل ان يدير وجهه نحو قاعة المغادرين حيث يتوجه يوميًا خيرة شبابنا لطلب العلم والأمان، والبحث عن فرص العمل. عبارات قصيرة اختصرت معاناة الشباب في لبنان، صبية وفتيات في عز عطائهم ضاقت بهم مساحة الوطن، فقرروا الهجرة لتأمين مستقبل واعد وعيش يليق بشبيبة تعلّمت وناضلت وجرّبت عبثًا التعايش مع الواقع المرير في هذا الوطن المعذب. وتابع "طارق" كلامه:
"سامحكما الله يا والديّ فقد كذبتما عليً طوال حياتي. اريتماني كل ما هو جميل وانيق في لبنان، انشأتماني على الصدق والأمانة والإخلاص، ربّيتماني على اجواء الحرية وحب الوطن واحترام الآخرين مهما كانوا مختلفين. سامحكما الله، فقد كبرت واصطدمت بحقيقة الحياة المرّة، فلم أرى في وطني إلا الكذب والدجل والنفاق، وشعرت بمناخات الحقد والطائفية والمذهبية والحذر من الآخرين تملأ الأجواء. راقبت سرعة انتشار الكسارات التي نهشت جبالنا الخضراء، وذهلت من اخبار تلويث مياهنا وينابيعنا، وانسدت انفاسي من رائحة النفايات المتروكة على الطرقات ومن دخان مولدات الكهرباء المزروعة بين المنازل. عاندت مذلة الواسطة السياسية والمذهبية، وتأكدت كم ان المنافسة الشريفة مغيّبة في غالبية القطاعات. وتحققت من فشل الإدارات العامة على مر السنوات في تأمين الكهرباء والمياه ومعالجة النفايات. شاهدت الفقير المعدم يقف عاجزًا على أبواب المستشفيات، وذليلًا على أبواب الزعماء لالتماس دواء لصحته او وظيفة لإطعام أولاده.
وطن أمواله منهوبة، ارضه مسلوبة، حقوقه مهدورة وكرامته مداسة. شعب يعاني يوميًا بين مطرقة القوانين الجائرة وسندان الوساطة السياسية والحزبية والمذهبية. اما القضاء، فقد لجئت اليه يومًا ورأيت كم هو مسيس ومرتهن للسياسيين وامراء الحرب والسلطة والمال. وطن ملعون بسياسييه، ملعون بمسؤوليه، ملعون بحكّامه الذين يدوسون على كرامات المواطنين ويعيثون في الدولة فسادًا ولا من يحاسب ولا من يسأل.
رأيت في بداية الثورة اخبارًا مشجعة وواعدة، فتابعتها بأمل ورجاء، خلت نفسي مناضلًا بين الثوار وشعرت ان كل مطالبهم تمثل مطالبي: محاسبة الفاسدين، استرداد الأموال المنهوبة، استقلالية القضاء، الانتخابات المبكرة على أساس قانون عصري، الغاء الطائفية السياسية واستبدالها بالكفاءة والجدارة في الوظائف العامة، محاسبة كل من اغتنى باطلًا على حساب المال العام، محاسبة كل من عاث فسادًا بجبالنا وبحرنا وبيئتنا، وكل من ساهم في تشويه التنظيم المدني حتى صارت مدننا وقرانا اشبه برجم حجارة مبعثرة، محاسبة كل من هدر الأموال العامة وتسبب بإفقار الشعب.
لكن اين نحن اليوم من تحقيق أي من تلك المطالب بعد مضي أكثر من ثلاثة أشهر على بداية هذه الثورة، هل تحرّك أحد من الحكام الحاليين لتنفيذ أي منها؟ هل استفاق ضمير أي من المسؤولين وباشر بأية محاسبة مهما كانت صغيرة؟ هل شاهدنا أحد من امراء المال او السلطة او كبار الموظفين خلف القضبان؟ طبعاً لا، رأينا سلطة قابعة في مكانها تحاول ان تستغل هذه الثورة طائفيًا وسياسيًا وتأخد مطالبها الى امكنة أخرى علّها تتمكن من تشتيتها او ايقاف زخمها.
رأينا محاصصة وتناتش للمغانم، رأينا سلطة مستكبرة، مستهترة بوجع الناس. سلطة يرقص اشباه رجالها على اشلاء الوطن ويتقاسمون بقاياه. يقترعون على تعب الثورة وانهيارها بعد طول بقاء في الشوارع. سلطة مسترخية لا تسمع صرخات الناس وانينهم، سلطة صمّت آذانها واغلقت أبواب قصورها وحصّنت نوافذها خشية ان يتسرب اليها صخب الشارع.
لكن اطمئن يا ابي، فأنا هنا قد بدأت بحياة جديدة، ولم تكد تنقضي السنة الأولى لي في الخارج حتى نلت بكفاءتي ترقيتين أوصلت راتبي الى ما يفوق سنوات من العمل في لبنان. ليس ذلك فقط، بل انني اتمتع بمطلق كرامتي وكامل احترامي كمواطن. لم اضطّر يومًا لاستجداء أي واسطة لنيل أي مطلب، شعرت بأهميتي كانسان وبحقيقة مساواتي بجميع الناس. فلا فقير مهمل ولا غني مدلل، لا تمييز بين عرق ابيض او اسود او اصفر، لا فرق بين مسلم او مسيحي او يهودي او بوذي او ملحد. لم اشاهد اي موظف عام يحتقر مواطنيه، فالموظف هنا موجود لتأمين خدمات المواطنين وحاجاتهم، وليس لاستعبادهم واذلالهم."
اتفهم قرفك واشمئزازك يا بني من هذه الأوضاع التي عانيت منها كما غالبية الشباب اللبناني من عمرك. تنقبض نفسي ويتملّكني شعور مهول يحفر في قلبي مشاعر حزن وكآبة، لم اختبرها في حياتي ولا أتمنى لأي شخص المرور بتجربتها. قلب اب يتقطّع على انسلاخ اولاده عنهم بسبب وطن ملعون لا يستحقهم، قلب مواطن فقد ثقته بوطنه وفقد امله بعودة أولاده من المهجر.
سأجيبك يا ولدي على كل هواجسك في القريب العاجل، على امل ان يكون المستقبل الواعد الذي نتمناه لوطنا قد أصبح وشيك التحقيق...