البير نجيم- الفلسطينيون والحراك الشعبي اللبناني

  • شارك هذا الخبر
Monday, January 13, 2020

حسنا فعل الاخوة الفلسطينيون في لبنان بعدم مشاركتهم الا لماما في الحراك الشعبي اللبناني الأخير، وذلك لما فيه مصلحتهم ومصلحة علاقتهم بالسلطة اللبنانية من جهة، ومصلحة الحراك نفسه من جهة أخرى، خاصة وان "الثورة" لم تسلم من الاستهداف السياسي المعاكس ولم يكن ينقصها مادة إضافية تزيد من هذا الاستهداف، فضلا عن انها هي نفسها ومن داخلها او جوانبها وروافدها كانت عرضة لثغرات او عورات لا بد من الاشارة اليها والاقرار بها، وفي كل الأحوال ليس هناك من ثورات "فاضلة" او منزهة وللبحث في هذا الاطار صلة...

بالأمس القريب كان للفلسطينيين حراك او ردة فعل غاضبة على قرار اتخذه وزير العمل في حكومة تصريف الاعمال الحالية واثار جدلا واسعا في مختلف الأوساط التي انقسمت بين مؤيد ومدافع، وبين معارض ومندد، وبصرف النظر عن حيثيات هذا القرار وحيثياته المتشعبة موضوعيا وسياسيا، فان المشهد الفلسطيني المشحون والثائر حيال هذا القرار، عفويا ام على خلفيات معينة، أعاد الى اذهان اللبنانيين صورا مقلقة لم ينسها جيل الحرب اللبنانية ولا يستسيغ الجيل اللاحق رؤيتها بفعل ما يسمعه ممن سبقوه. وتحت هذا العنوان او غيره من العناوين المماثلة تأتي الإشارة الى ما تقدم أعلاه.

وبالأمس القريب السابق أيضا تحركت شرائح الشعب الفلسطيني في لبنان احتجاجا على توقيف خدمات "الاونروا"، واذا كان اللبنانيون عامة، على المستويين السياسي والشعبي مع مضمون المنحى المطلبي والاحتجاجي هذا وعلى قاعدة ان هذه الخدمات ساهمت على مدى سنوات طويلة في الحد من البؤس والمأساة الفلسطينية ووفرت ليس فقط على الفلسطينيين بل أيضا على اللبنانيين بعضا من المعاناة جراء القضية الفلسطينية وانعكاساتها، فان المشهد الفلسطيني الغاضب على مساحة انتشار المخيمات في المناطق المختلفة اشاع جوا مقلقا مما يمكن ان يكون الوضع عليه اذا ما تفشى الغضب الفلسطيني وخاصة اذا ما فقدت الضوابط والكوابح. ومن حسن الحظ ان المعالجات اوجدت بدائل مقبولة منها بشكل رئيسي المساعدات المنتظمة من دول غربية وعربية وفق منهجية مختلفة.

استطرادا وعلى ارض الواقع، وبالعودة الى البداية، كيف توزعت خريطة التموضع الفلسطيني بشكل عام خلال "الثورة"؟

ان نظرة افقية الى الواقع الفلسطيني في لبنان تظهر ان الفلسطينيين ينقسمون سياسيا وتنظيميا الى ثلاثة اقسام واذا صح التعبير الى ثلاث سياسات متباينة:

- منظمة التحرير الفلسطينية والسفارة الفلسطينية في بيروت المنضبطتين على وقع سياسة رام الله والتي تشدد، على الأقل في العلن، على منع التدخل بالشأن اللبناني ومحاسبة أي فرد او عضو مخالف تحت طائلة الفصل.

- الفصائل التي كانت ولا تزال تتأثر بموقف وتوجيهات القيادة السورية والتي تنتهج سياسة محددة في هذا الاتجاه إزاء القضايا اللبنانية والعربية كافة.

- حركة حماس ومعها بعض الإسلاميين، وهي لا تخرج في سياستها المعلنة عن الخط العام القاضي بعدم التدخل، لكنها بالواقع تعمل وفق اجندة متقلبة أحيانا ومنسجمة مع تحالفاتها المباشرة في لبنان أحيانا أخرى.

ولعل فضيلة احجام أي جهة لبنانية عن طلب أي مساهمة او مساعدة فلسطينية في المرحلة الأخيرة الماضية، دفعت بمشهد المخيمات الفلسطينية الى الخلف حيال الحراك اللبناني، مع بعض الاستثناءات الميدانية كتلك التي سجلت في مخيم البداوي وبعض مناطق الشمال، ليس على خلفية مطلبية بقدر ما هو على خلفية مجاراة حالة شعبية معينة رافقت استقالة الحكومة وعملية الاستشارات والتكليف.

ولا بد من المسارعة في كل الأحوال الى التنويه بان خطة الضبط الأمني المرتفعة المستوى والواعية للمخاطر من كل الاتجاهات، من قبل الأجهزة العسكرية والأمنية اللبنانية، كانت وتبقى دائما عاملا أساسيا ومساعدا في الانكفاء الفلسطيني المطلوب عن قضايا الداخل.

قلة من الفلسطينيين التابعين لمنظمات أهلية أطلقت أصواتا خافتة في ظل الحراك اللبناني، من دون ان تترك اثرا في الاذن اللبنانية. وربما كان أكثر ما استرعى الانتباه في سياق متصل ظهور عدد من السيدات اللبنانيات المتزوجات من فلسطينيين، من ضمن حملة المطالبة بمنح الجنسية اللبنانية لكل من يولد من ام لبنانية.

أيعني انكفاء ظاهرة النشاط الفلسطيني المرتبط بالحالة اللبنانية، وتبعا لذلك بالحراك الشعبي اللبناني، انه لم يكن في أي مرحلة من سلة مطلبية للفلسطينيين؟

يحملنا هذا التساؤل على العودة الى مطلع التسعينيات حيث كانت السلطة اللبنانية المنبعثة اثر سنوات الحرب الطويلة واثر اتفاق الطائف منهمكة في لململمة ذيول الحرب سياسيا، ماليا، اقتصاديا، واجتماعيا، وحيث اطلت منظمة التحرير الفلسطينية بمذكرة مطلبية تزامنا مع تشكيل لجنة وزارية خاصة بالشأن الفلسطيني، وبرز في حينه كمعد لهذه المذكرة ومدافع عنها ودافع باتجاهها، مسؤول الجبهة الشعبية – لتحرير فلسطين صلاح صلاح، اما اهم ما تضمنته المذكرة فقد اندرج تحت العناوين الرئيسة التالية:

- ضرورة توفير الحقوق السياسية والاجتماعية والمدنية للفلسطينيين في لبنان تطبيقا لقرارات جامعة الدول العربية التي اكدت على هذه الحقوق في مختلف دول اللجوء مع تأكيدها أيضا على منع التوطين.

- منح كل فئات الفلسطينيين المقيمين في لبنان نفس الحقوق المعطاة لفئة اللاجئين عام 1948

- اعتماد سجلات مديرية شؤون اللاجئين فقط كمرجع نهائي وعدم تطبيق شرط الحصول على بطاقة الاونروا لاعطاء الفلسطينيين المقيمين في لبنان وثائق سفر.

- تقديم التسهيلات للفلسطينيين في مجال العمل ومساواتهم في كل شيء بالعمال اللبنانيين.

- فتح أبواب المؤسسات التربوية اللبنانية امام الطلبة الفلسطينيين اسوة باللبنانيين.

- الاجازة للفلسطينيين بالانتماء الى النقابات والاتحادات اللبنانية.

- إعادة اعمار المخيمات ومساهمة الحكومة اللبنانية في الاعمار.

- التشديد على الحريات الديمقراطية تحت ثلاثة مطالب رئيسية هي: حرية التعبير (نشاط فكري، ثقافي، واعلامي)، الممارسة السياسية (عمل سياسي ونضالي من خلال الأحزاب اللبنانية والفلسطينية)، عدم شطب أسماء الفلسطينيين الذين يهاجرون الى الخارج من سجلات مديرية شؤون اللاجئين.

- تشريع حق الفلسطيني في التملك.

كلفت المديرية العامة للأمن العام في ذلك الوقت بوضع ملاحظات تفصيلية على هذه المذكرة، وكلفت انا شخصيا من قبل الرؤساء المباشرين (كحقوقي)، وكنت يافعا في السلك في تلك المرحلة، باعداد ما يلزم، وهذا ما نشره لاحقا في مذكراته احد كبار الضباط المعني بشكل أساسي بالموضوع. وقد ركزنا في الرد على التالي من النقاط التي نوردها باختصار كلي:

- تعداد ما قامت به الدولة اللبنانية في اطار الحقوق الاجتماعية والمدنية للاجئين الفلسطينيين منذ العام 1959 وحتى العام 1992، مع الإشارة الى انه لم يكن الفلسطيني المقيم في أي بلد عربي آخر بوضع افضل مما هو عليه في لبنان الذي يتحمل قياسا مع قدراته ومساحته العبء الأكبر من أعباء اللجوء، والاشارة بالتالي الى انه كان من الممكن تطوير مجالات الاهتمام بهؤلاء اللاجئين لولا جملة اعتبارات منها تمادي التنظيمات الفلسطينية في التدخل بالشؤون اللبنانية ما كاد يقضي على الدولة بالكامل.

- التأكيد على ان الفئة المطالب باعتبارها كفئة اللاجئين عام 1948 ليست بقليلة العدد خلافا لما تزعمه المذكرة، وان عددها بحسب التقديرات يتجاوز المئة ألف فلسطيني.

- التشديد على ان بطاقة الاونروا هي المستند الأكثر دقة لاثبات هوية الفلسطيني الذي يتقدم بطلب وثيقة سفر.

- لفت النظر الى ان الأكثرية الساحقة من الفلسطينيين تعمل بحرية في لبنان دون أي تشدد او رقابة من قبل الدولة اللبنانية باستثناء المهن التي يحكمها نظام النقابات كالطب والهندسة والمحاماة...

- الإشارة الى ان الانتماء الى نقابات او اتحادات قد يتحول لاحقا الى نواة لتحركات سياسية تحت ستار العمل النقابي، سيما وانه من ضمن اهداف العمل النقابي الضغط على الدولة بوسائل عدة منها الإضرابات، التظاهرات، الاعتصامات، المؤتمرات، وغيرها.

- استغراب مطالبة الحكومة اللبنانية بالمساهمة في إعادة اعمار المخيمات في الوقت التي تسعى جاهدة للحصول على مساعدات تمكنها من إعادة اعمار المناطق اللبنانية المدمرة ومعالجة قضية المهجرين اللبنانيين.

- استحالة استثناء الفلسطينيين من الشروط التي وضعها القانون اللبناني لتملك الأجانب، خاصة وانهم يشكلون النسبة الأكبر من الأجانب المقيمين في لبنان.

ربما ان القيادة الفلسطينية أدركت في حينه بعد نقاش طويل ان ما تطالب به الدولة اللبنانية غير قابل للتطبيق لاعتبارات جمة، منها ما هو متعلق بقدرات هذه الدولة الناهضة من تحت الركام جراء حرب اقحمت التنظيمات الفلسطينية بدورها نفسها بها من دون وجه نفع للقضية المركزية، وكان لها لاحقا جرأة الاعتراف بالخطأ، ومنها أيضا عدم جواز المقارنة بما هو معمول به في سوريا حيث املت ظروف وسياسات معينة على الدولة السورية اصدار قانون يقضي بمساواة الفلسطينيين المقيمين في سوريا بالسوريين أصلا، الامر الذي يختلف عن الاعتبارات اللبنانية وابرزها العدد الكبير للفلسطينيين المقيمين في لبنان قياسا مع عدد اللبنانيين.

هذا من ناحية الأمس، اما من ناحية اليوم، فاذا كان صحيحا وواقعا اننا والفلسطينيين المقيمين في لبنان في مركب واحد هو مركب الدولة اللبنانية المعرضة للانهيار، فان الاصح هو وجوب عزل الواقع الفلسطيني من كافة النواحي السياسية، الأمنية، الاجتماعية، وغيرها، عن الحالة اللبنانية المتردية والخطيرة، وهذا ما يبدو ان القيادات الفلسطينية على اختلافها مدركة له سواء عن قناعة تامة ام بفعل ولاءات اقليمية ومحلية معينة، والأهم بفعل إجراءات الدولة نفسها.

يقلق المعنيين كثيرا ان الازمة الداخلية الراهنة والمرشحة للأسف للتمادي على ما يبدو، هي على تماس دقيق مع واقعي اللجوء الفلسطيني المزمن والنزوح السوري الى الأراضي اللبنانية، ما يفترض العمل الواعي في كل الاتجاهات ومن قبل كل القوى على استمرار عزل هذين الواقعين عن الحالة الداخلية بصرف النظر عن موقف السلطة من الحراك الشعبي او موقف هذا الحراك من السلطة، كما بصرف النظر عن مواقف الأحزاب والافرقاء السياسيين المتضاربة في هذا الاطار.


البير نجيم، ع.م. في الامن العام اللبناني، باحث، حقوقي، ومحلل سياسي–امني