مصرف لبنان ضمانة للإستقرار النقدي... والإجتماعي

  • شارك هذا الخبر
Monday, November 4, 2019

إذا كانت الانتفاضة ضد الفساد والمحسوبية الزبائنية، فإنّ أولى الإجراءات الوقائية الواجب تطبيقها هي المادة الخامسة من الفصل الثاني من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، التي تنصّ على وضع سياسات فعّالة منسّقة لمكافحة الفساد تُعزّز مشاركة المجتمع، وتجسّد سياسة القانون من نزاهة وشفافية ومساءلة.
قام مصرف لبنان، وفي أحلك الظروف وأصعبها وأكثرها دقة، بتعزيز استقلاليته وإيجاد مبادرات متعددة بُغية تحفيز الاقتصاد وتكبير حجمه، وتأمين السيولة اللازمة لنشاطه، وإرساء قطاع مصرفي سليم ومتين.

في ظل الوصايات والحروب والضغوط والاغتيالات وتغليب سياسات المحاور والزواريب، يمكن للمراقب أن يَلحظ تَمسّك مصرف لبنان بسياسة التثبيت النقدي الذي يقوم على منطق ذي حدّين:
أولاً، اعتبار أنّ المصلحة الاقتصادية تقتضي أنّ أي تحسّن في سعر الصرف ينبغي أن يستند إلى قاعدةٍ متينة تقوم على تقدّم فعلي في الاقتصاد الحقيقي الكلي، كي يعكس وضعية واقعية لهذا الاقتصاد.

ثانياً، اعتبار أنّ أي تعديل يخفّض من سعر الصرف من شأنه أن ينعكس سلباً على الاستقرار الاجتماعي الاقتصادي بما فيه الاستقرار الاستثماري والتسليفي ومستقبل سياسات الشراكة ما بين القطاعين العام والخاص، وغيرها من سياسات تحفيز الاستثمار الانتاجي، خصوصاً في ظلّ الواقع المختلّ للميزان التجاري في لبنان كبلد مُستورد.
ولأنّ الاستقرار النقدي لا يكفي لنهضة البلد اقتصادياً واجتماعياً وأخلاقياً، كان لا بدّ للحكومة من أن تعمل على تأمين سياسة رشيدة ورشيقة وسريعة، نظراً لدقة المرحلة التي تتطلّب حكمة وجرأة ورجاحة عقل وتوافقاً شديدَين.

من أبرز الميزات التفاضلية التي تميّز لبنان، رأسماله البشري، الذي يشكّل ثروة لبنان المُستدامة. ويعود الفضل لهذه الميزة إلى البيئة المتنوعة والذهنية المنفتحة اللتين يتمتّع بهما المجتمع اللبناني، ويتوجّب المحافظة والتعويل عليهما. إذ إنّ الطاقات الموجودة لدى اللبنانيين المؤمنين باقتصادهم الوطني كانت دائماً عَصيّة على كل الأحداث والأزمات التي شهدها لبنان ولا يزال.
إنّ تأمين المناخ الاجتماعي الاقتصادي المستقرّ هو شرط لا بدّ منه للحفاظ على هذه الثروة البشرية والبناء عليها. فإن هاجرت ستعود، وإن بحثت عن فرَص عمل واستثمار في الوطن فسوف تجدها.

ومن هنا لا بدّ أن يتمّ تحييد المؤسسة النقدية، إذ إنّ الاستقرار النقدي يشكّل حجر الزاوية للاستقرار الاجتماعي الاقتصادي في لبنان. ومما لا شك فيه أنّ السنوات الماضية، وما حَفلت به من تحدّيات على مستوى الاقتصاد اللبناني، فرضت على مصرف لبنان اعتماد مقاربات مالية غير تقليدية تَخطّت العمل المصرفي التقليدي لتشمل جوانب أخرى من الاقتصاد اللبناني، يقوم البعض اليوم بانتقادها من دون الأخذ بالاعتبار الوضع العام الذي أجبَر المصرف على اتخاذ تلك الإجراءات في حينه، إن لجهة ضَخ السيولة أو امتصاصها بحسب أوضاع الأسواق المحلية والخارجية والتقلّبات السياسية والأمنية العاصِفة محلياً ودولياً.

لقد تركّزت جهود مصرف لبنان، خلال السنوات الماضية، على تقديم الحوافز المتنوعة للمصارف من أجل الانخراط في برامج تسليفية تشجّع القطاع الخاص على الاستثمار بكلفة مخفّضة في القطاعات الانمائية والسكنية والبيئية والتعليمية. كل تلك المبادرات المالية التي ابتكرها المصرف هدفت الى تنشيط الطلب الداخلي والحركة الاقتصادية عموماً، إلّا أنّها ترمي أيضاً إلى تحقيق أهداف أخرى. فمن خلال دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم في القطاعات الإنتاجية، يهدف مصرف لبنان فعلاً إلى خَلق فرص العمل.
وعن طريق دعمه القروض السكنية، يسعى إلى المساهمة في الاستقرار الاجتماعي. وبواسطة دعمه تمويل قروض التعليم العالي، يوفّر للأجيال الجديدة فرصاً متساوية في التأسيس للمستقبل. أمّا دعمه لمشاريع البيئة والطاقة البديلة، فيهدف إلى المحافظة على بيئة قليلة التلوّث وتأمين وَفر بكلفة الطاقة على ميزانية الأسَر والمؤسسات والدولة.

ساهم مصرف لبنان، من خلال البرامج والحوافز التي أطلقها، في تأمين الاستقرار الاجتماعي والعيش الكريم عن طريق توفير المسكن لأكثر من 130 ألف عائلة. لكن بالرغم من كل المبادرات التي يقوم بها، فإنّ الوضع التسليفي في لبنان هو وضع دقيق، ذلك أنّ السيولة أصبحت منخفضة محلياً وإقليمياً ودولياً.
إنّ الاقتصاد اللبناني بحاجة إلى ضَخّ رساميل جديدة. في سنة 2018، كانت نسبة النمو تقارب الـ1 في المئة في لبنان، بينما قاربت في المنطقة الـ 2 في المئة. إنّ الحصول على تمويل محلي من المصارف اللبنانية زاد صعوبة، فالقروض المصرفية للقطاع الخاص باتت تمثّل أكثر من 110 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، وهي نسبة مرتفعة نظراً لحجم الاقتصاد، باعتبار أنّ النمو لم يتحقق حتى تاريخه.

من هنا، فإنّ قدرة المصارف على تطوير التسليفات أو سوق التسليف في الوقت الحالي، هي محدودة.
إنّ سياسة البلد الاسكانية او الانتاجية ليست من مسؤوليات مصرف لبنان، بل هي من مسؤولية الحكومة. وما يحتاجه البلد هو مبادرة الحكومة بالاصلاحات الضرورية لخفض العجز، وأيضاً لإعادة تفعيل روح المبادرة في لبنان ليعود النهوض الإقتصادي وتَتأمّن فرص العمل للشباب اللبناني. وفي غياب الاجراءات الحكومية، قام مصرف لبنان بمبادرات لدعم الاقتصاد في هذه المرحلة الصعبة.
المشكلة في لبنان أنّ القطاع العام توسّع وباتَ حجمه أكبر مما يتحمّله الاقتصاد اللبناني، والقطاع الخاص بحاجة الى إعادة تحفيز وتشجيع من القطاع العام.
في لبنان قطاعات واعدة من شأنها أن تشكّل البنية الهيكلية في دعم القطاعات التقليدية، وتؤمّن مستقبلاً أفضل للبنان، هي: القطاع المالي، قطاع اقتصاد المعرفة الرقمي، وقطاع الغاز والنفط .

إنّ المصرف المركزي مَعني بالقطاع النقدي وتنظيم القطاع المالي، علماً أنّه أول مَن أطلقَ قطاع اقتصاد المعرفة قبل 5 سنوات، ولبنان بحاجة إلى جهود حكومية فعّالة على مستوى تأمين البنية التحتية اللازمة.
إنّ القطاع المالي والمصرفي يضطلع بدور رائد في تنمية الاقتصاد اللبناني وتطويره وتحديثه، غير أنّ النمو مرتبط إلى حدّ كبير بتحسين القدرة التنافسية للبنان، بما يساعد على تطوير اقتصاد المعرفة.
لقد أرسى مصرف لبنان القوانين المناسبة والممارسات الفضلى، بحيث باتَ هناك قطاع مصرفي متين يستوفي كل الشروط المطلوبة دولياً، ويتمتع بملاءة، ويحترم القواعد الدولية.

إنّ القوانين اللبنانية سمحت بوجود أجهزة الرقابة، فلجنة الرقابة على المصارف تأسست منذ زمن طويل، وأضيفت اليها مهمة جديدة تقضي بحماية مصالح المتعاملين مع القطاع المصرفي. فأُنشِئت وحدة حماية المستهلك لدى لجنة الرقابة، وهي تقوم بمتابعة فعالية الانظمة والتجهيزات والرأسمال البشري لدى المصارف، بما يكفل التعاطي الشفاّف مع الزبائن، ويحسّن سمعة القطاع المصرفي.
كما أنشأ مصرف لبنان هيئة التحقيق الخاصة، وهي جهاز يسمح بالتأكّد من أنّ المصارف لديها كل الأنظمة، وتقدّم التدريبات اللازمة لموظفيها، وتتقيّد بمكافحة تبييض الأموال.

هذه الهيئة لا تُواجه بالسرّية المصرفية، أي يمكنها الاطلاع على الحسابات الدائنة والمدينة، ولديها أيضاً دور في تطبيق القوانين في حال مخالفات تتعلق بتمويل الإرهاب، وحماية القطاع المصرفي من أموال غير شرعية، ولاسيما تلك التي يُمنع التعاطي بها. فلكي يبقى لبنان مُنخرطاً عالمياً، على مصارفه مراقبة الأموال التي تمرّ عبرها، لأنّها ستمرّ بدورها عبر المصارف المراسلة في الخارج...

لقد مَر لبنان بتجارب وأزمات قاسية خلال الأعوام الـ25 التي خَلت، بدءاً من الاعتداءات والحروب الإسرائيلية خلال التسعينات والعام 2006 مروراً بالأزمات السياسية الداخلية المُستعصية، إضافة إلى تداعيات الأزمة المالية العالمية التي انفجرت في العام 2008، وصولاً إلى الحرب السورية وتداعياتها على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية.

كانت هذه التجارب بمثابة اختبارات لمدى فعالية سياسة مصرف لبنان النقدية وكفاءتها ومناعتها، ولاسيما في ما يتعلق بالحفاظ على استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية. ومن هنا، وللحفاظ على الحد الأدنى وعلى المؤسسة الوطنية، فإنّ التعويل على وَعي الانتفاضة الشعبية هو الأساس للبدء بورشة بناء لبنان الواحد.


الجمهورية