خضر حسان - تسعيرة بطاقات الخليوي: أين تذهب دولارات الشركتين؟

  • شارك هذا الخبر
Sunday, November 3, 2019


تأسس الكيان اللبناني على عرف تقاسم المناصب والمصالح بين أقطاب الطوائف. حاول المؤسسون إقناع سكان الكيان بأن التقاسم يعكس التناغم بين المكوّنات الطائفية. نجحوا بذلك لفترة طويلة. لكن لم يخطر ببالهم أن الكذبة ستُحوِّل السكان إلى حقل تجارب لمغامرات زعماء الطوائف وشركائهم من أصحاب رؤوس الأموال، الطامحين لتذليل كل العقبات أمام مراكمة ثرواتهم، وإن على حساب القانون والصالح العام. وملف الخليوي، بكامل تشعباته، يُعدُّ مسرحاً مهماً لتنفيذ كافة أشكال هذا النوع من المغامرات.

فوضى الأسعار
لم يترك شح الدولار في السوق باباً إلاّ وطرقه باتجاه رفع الأسعار. وللمفارقة، أبرز تلك الأبواب تمسّ يوميات المواطنين بشكل مباشر، على غرار الطحين والمحروقات والدواء والخليوي، الذي تتفرّع منه قضية بطاقات تشريج الخليوي المسبقة الدفع، وهي بطاقات مسعّرة بالدولار، استناداً إلى مرسوم صادر عن مجلس الوزراء، حسب ما يقوله وزير الاتصالات في حكومة تصريف الأعمال محمد شقير.
تسعير البطاقات بالدولار وليس بالليرة اللبنانية، جعلها تدخل أتون فوضى ارتفاع أسعار الدولار مقابل الليرة، ما دفع اللبنانيين للبحث عن الدولار لتعبئة هواتفهم الخليوية، أو إكراههم بصورة غير مباشرة على دفع فروقات التصريف التي جعلت بطاقة التشريج لخطوط شركة تاتش على سبيل المثال، تصل إلى نحو 50 ألف ليرة لبطاقة 22 دولار، بعد أن كانت تُباع قبل شح الدولار بنحو 39 ألف ليرة. وترافق ارتفاع الأسعار مع ندرة توفّر البطاقات في الكثير من مراكز البيع، ما جعل المواطنين أسرى بورصةٍ لبطاقات التشريج، خُلِقَت على عجل وجهل بالمبادىء الاقتصادية.

وهذه البورصة تذكّرنا بشهر آب من العام 2017، حين استغل بعض التجار والموزعين، حجة ارتفاع الأسعار بشكل عام في الأسواق إثر دفع سلسلة الرتب والرواتب، ليرفعوا أسعار بطاقات التشريج بنحو 2500 ليرة.

الخزينة لا تستفيد
يستفيد التجار في عمليات تبديل الدولار والليرة، لكن خزينة الدولة لا تستفيد. وفي حالة أموال شركتي الخليوي ألفا وتاتش، تقبل الدولة الأموال المحوّلة من الشركتين كما تأتيها، أي موزّعة بين الدولار والليرة، علماً أن الوزير جورج قرم، الذي كان وزيراً للمال في العام 1999 خلال حكومة الرئيس سليم الحص، أصدر مذكرة تمنع قبول الجهات الرسمية أي فواتير بغير الليرة اللبنانية. ولو أن العمل بتلك المذكرة مستمر حتى اليوم، لكان على الشركتين دفع الأموال لوزارة الاتصالات بالليرة اللبنانية. لكن الدولة التي لا تحترم عملتها، سيسهل على القطاع الخاص عدم احترام العملة والتسعير بعملة أجنبية، تشكّل ضمانة واستقراراً أكبر مقارنة مع العملة المحلية، التي يُنظر إليها بعين الخطر الدائم.

خروج الخزينة من دائرة الاستفادة من فارق الأسعار، لم يحفّز الحكومات المتعاقبة على البحث في كيفية إفادة المواطنين وتجنيبهم رحلة البحث عن الدولار عند كل أزمة. والحل سهل جداً، وهو إجبار شركتي الخليوي على تحديد أسعارها بالليرة اللبنانية حصراً، إذ "ليس من مهام المواطنين البحث عن الدولار لشراء أي شيء، فيما عملتهم هي الليرة"، على حد تعبير وزير الاتصالات السابق بطرس حرب، الذي يشير في حديث لـ"المدن" إلى أن "التسعير بالدولار يخالف قانون النقد والتسليف". وهذه ما تتوافق مع ما طلبه وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال منصور بطيش، في كتابٍ لوزارة الاتصالات، يتضمن "إلزام الشركتين المشغلتين لقطاع الهاتف الخليوي ألفا وتاتش التقيّد بنصّ المادتين الخامسة والخامسة والعشرين من قانون حماية المستهلك لناحية إعلان الأسعار وتحديد تعرفة الخدمات وإصدار الفواتير بالليرة اللبنانية"، مشيراً إلى أن "التسعير بالدولار وعدم قبول العملة الوطنية يعدّ عملاً مخالفاً للنصوص القانونية". لكن شقير تذرّع بحالة الحكومة القانونية، داعياً المواطنين إلى "إعادة تعبئة خطوطهم وبالأسعار الرسمية، عبر موقعي شركتي الهاتف الخلوي الإلكتروني".

علامات استفهام
لا شيء يمنع السلطة السياسية من تعميم الفوترة بالليرة في كافة القطاعات، والإجراء الذي يحتاج لقانون، فها هو المجلس النيابي، كما أن مجلس الوزراء حاضر، فحالة تصريف الأعمال ليست سوى مرحلة استثنائية. وللدولة حق احترام عملتها إن أرادت فرض الاحترام، وليس لأي شركة أو وكيل أو موزّع أو مواطن، رفض التعامل بالعملة المحلية أو تفضيل أي عملة أجنبية على عملة بلاده. فلماذا الاستخفاف بتفصيلٍ مهم لهذه الدرجة؟ وما يثير الغرابة، هو أن قطاع الخليوي لم يعد قطاعاً خاصاً كما كان حين إنشائه، بل هو قطاع للدولة، وهو ما يُفترض به أن يكون سبباً إضافياً لاعتماد التسعير بالليرة، في كل ما يتعلق بخدمات القطاع.

الكثير من علامات الاستفهام تحيط بأسباب التسعير بالدولار، وإلى أين تذهب تلك الدولارات، تحديداً وأن حسابات الموازنة تجري بالليرة وليس بالدولار. وعليه، لا يوجد بيانات توضح أين تذهب الدولارات حين تُستبدَل بالليرة في ظل عدم وجود نص معمول به، يُلزم تلقّي الوزارات أموالها بالليرة، ويرصد اتجاه الدولارات المبدّلة.

عملية استفادة كبيرة تحصل في الخفاء، ضحيتها المواطن وبطلها سلطة سياسية تتحاصص كل شيء، حتى فارق أسعار تبديل العملة المحلية بعملة أجنبية، وهو ما كان خارج الأضواء حتى الأمس القريب، حين لم يعد بالإمكان تمويه تداعيات التآمر على العملة المحلية. كما أن الجشع المتعاظم لجرف حتى الدولار الواحد إلى جيوب النافذين، جعل البحث عن زوايا الاستفادة من الدولار، مادة إعلامية ضرورية تجتهد لكشف التفاصيل رويداً رويداً.


المدن