محمد نمر- "مسرحية" خلاف أهل القصر لم تصمد إلى العصر

  • شارك هذا الخبر
Monday, September 9, 2019

أعربت أوساط قضائية عن صدمتها من المواقف الأخيرة لوزير العدل ألبرت سرحان بشأن التعيينات القضائية ولا سيما في ما يتعلق بتعيين رئيس جديد لمجلس شورى الدولة. سرحان وهو قاض متقاعد من المجلس المذكور حيث أمضى حياته المهنية إلى جانب التعليم الجامعي عُرف عنه في تلك الفترة دفاعه الدائم عن خصوصية القضاء الإداري واستقلاله ولا سيما تمايز هذا القضاء الذي يتمثل بمجلس شورى الدولة عن القضاء العدلي الذي يتألف من المحاكم العادية، اتخذ اليوم في التعيينات موقفاً مناقضاً لماضيه القضائي.
هذا التمايز كان ولا يزال يتطلب تخصصاً قانونياً وقضائياً لدى القضاة عملاً بمبدأ خصوصية القضاء الإداري الذي يتولى البت في نزاعات تكون الدولة أو الإدارة العامة طرفاً فيها وهذا النوع من القضايا يختلف بصورة جذرية عن الدعاوى العادية التي يكون الخصوم فيها من الأفراد أو الشركات الخاصة. ولهذا السبب يدخل القضاة الإداريون إلى قسم خاص بهم في معهد الدروس القضائية يسمى "قسم القانون العام" حيث يتم تكوينهم المهني عبر برامج متخصصة من دروس وأبحاث وتدرج تتناول فروع القانون الإداري وهو القانون الذي يحكم الملفات القضائية والدعاوى التي سيتولون النظر فيها.

وعلى هذا الأساس من البديهي أن يكون رئيس مجلس الشورى وهو المحكمة الإدارية العليا التي تتولى القضاء الإداري، قاضياً إدارياً من عداد قضاة مجلس شورى الدولة الذين تكوّنوا وتدرجوا مهنياً وقانونياً في هذا الاختصاص. وهكذا أتى القانون ليكرس هذه القاعدة عندما حدد كيفية تعيين رئيس مجلس شورى الدولة حيث نص صراحة على أن يجري اختيار الرئيس من بين القضاة الإداريين أي قضاة مجلس شورى الدولة مشترطاً فقط أن يكون المرشح من بين رؤساء الغرف أو المستشارين من الدرجة الثانية عشرة على الأقل. بحيث أن المشترع لم يشأ أن يقيّد صلاحية مجلس الوزراء بالقاضي الأكبر سناً أو الأقدم في المجلس بل ترك له حق ممارسة صلاحيته بتعيين من يراه مناسباً من بين القضاة الحائزين على الدرجة 12وما فوق وفقاً لمعايير أساسية تتعلق بالكفاءة والنزاهة والقدرة على الإدارة والقيادة.

وإلى جانب قاعدة اختيار رئيس مجلس شورى الدولة من بين قضاة المجلس المذكور، لحظ القانون ومن باب الاحتياط وعلى سبيل الاستثناء من القاعدة المذكورة، إمكان تعيين الرئيس من القضاة العدليين من الدرجة نفسها، وذلك لسد الثغرة التي قد تتكون في حال عدم وجود أي قاض إداري في مجلس شورى الدولة تتوافر فيه شروط التعيين. وبذلك تتم الاستعانة بقاض عدلي لملء المركز الشاغر ولتلافي الفراغ رغم عدم حيازته الاختصاص المطلوب، لكن تجنب الفراغ في مثل هذه الحالة وتأمين استمرارية عمل المرفق العام وحسن سير العدالة يبرر اللجوء الى مثل هذا الخيار. إلا أن التعامل مع خيار التعيين من بين القضاة العدليين كأنه القاعدة، وليس الاستثناء أو الشواذ على القاعدة، فانه ومن دون شك يتعارض مع المعنى الحقيقي للنص القانوني ويخالف إرادة المشترع وينسف مبدأ تمايز القضاء الإداري واختصاصه عن القضاء العدلي الذي كرسه الإجتهاد في فرنسا ولبنان منذ أن نشأ القضاء الإداري نفسه.

قاض بلا خبرة

اليوم يتجه وزير العدل الى اقتراح تعيين رئيس للمجلس المذكور من خارج هذا المجلس وقد تداولت وسائل الاعلام اسم القاضي الذي يتولى سرحان تسويقه وهو قاض عدلي ليست له أي معرفة أو خبرة في القانون الإداري حيث أمضى حياته الوظيفية بكاملها في القضاء العدلي، لكنه يتمتع بموقع مميز لدى الوزير بحكم زمالته له في التدريس في جامعة الروح القدس في الكسليك فضلاً عن طراوة طبعه وهذه الصفات اذا ما اجتمعت مع عدم المعرفة وانعدام الخبرة في مجال العمل الجديد في القضاء الإداري، من شأنها أن تجعل الرئيس المقترح لرئاسة المجلس بحاجة دائمة إلى رعاية الوزير ما يفسح المجال أمام هذا الأخير إلى الاستمرار بممارسة نفوذه في غرف المجلس بموافقة رئيسه طبعاً.

ان هذا التوجه بدأ يسبب حالة من التململ داخل مجلس شورى الدولة ولا سيما بين القضاة الذين تتوافر فيهم شروط التعيين في رئاسة المجلس. وتتخوف الأوساط القضائية المتابعة من تطور ذلك إلى حالة اعتراضية واسعة والى التقدم بطعون قضائية بأي مرسوم لتعيين القاضي العدلي رئيساً للقضاء الإداري.

استراتيجية المعركة

وتحقيقاً لما يهدف اليه سرحان أبدى معارضة شديدة لتعيين قاضية مستقلة وبارزة من مجلس شورى الدولة هي ريتا كرم التي تستوفي الشروط القانونية كما تتمتع بخبرة طويلة في الشأن الإداري وتنظيم العمل المؤسساتي فضلاً عن كونها من عداد مجلس القضايا لدى مجلس شورى الدولة وهو الهيئة الأعلى التي تتولى بت القضايا الهامة وتوحيد الاجتهاد والتي على سائر الغرف القضائية اتباع ما يقرر فيها من توجهات في صوغ قواعد القانون الإداري.

واتبع سرحان لتحقيق هدفه هذا استراتيجية كلاسيكية تقوم على التمسك في الظاهر بترشيح قاض اداري آخر يعلم بأن حظوظه السياسية منعدمة هو القاضي يوسف نصر مرضياً هذا الأخير بترشيح اسمه في الظاهر وهو يعلم أنه مرفوض لأسباب سياسية فضلاً عن عدم قدرته على ترؤس المجلس وقد ثبت ذلك في الفترة الأخيرة التي تولى فيها نصر إدارة المجلس بالإنابة بعد شغور منصب الرئيس بإحالة القاضي هنري خوري إلى التقاعد. وذلك لكي يطلب بعدها استبعاد الاثنين، كرم ونصر معاً، ومن ثم الخروج بمرشحه الحقيقي من القضاء العدلي على سبيل التسوية.

وفي هذا السياق تم تسويق تمثيلية الخلاف في البيت الداخلي أو كما سميت تمثيلية أهل القصر حيث تم عرض مسرحية مفادها أن خلافاً نشب بين المعنيين بالملف القضائي في البيت العوني وأن كرم مدعومة من وزير العدل السابق سليم جريصاتي ومن خلفه الوزير جبران باسيل في حين أن سرحان يدعم القاضي نصر ويرفض تعيين كرم تبعاً للأقدمية. وتبين لاحقاً ان كل ذلك كان بهدف استبعادهما والإتيان بالمرشح الحقيقي لسرحان والذي لو لم يقم بهذه التمثيلية لما استطاع المجاهرة بترشيح قاض عدلي من خارج السلك القضائي الإداري كما هي القاعدة التي كرسها قانون تنظيم مجلس شورى الدولة.

حجة قانونية

أما المسألة التي أثارت استغراب الأوساط المطلعة فهي أن سرحان استخدم حجة قانونية واهية لاستبعاد كرم من التعيين رغم اقتناع المعنيين بأنها الأفضل ورغم عدم وجود أي اعتراض من أي جهة سياسية على اسمها لانها تتمتع بالاستقلالية ولم تتخذ طوال سنوات عملها القضائي أي صبغة سياسية. الحجة تتمثل بالقول إن شرط حيازة الدرجات الاثنتي عشرة لا يتوافر في كرم رغم أنها تخطت الدرجة 14، زاعماً ان الدرجات الاستثنائية التي منحت للقضاة بموجب قانون الموازنة ليست كافية ولا تحتسب عند التعيين، علماً انه عندما كان ما زال قاضياً في المجلس وقّع أحكاماً تقضي بعكس ذلك (مثلاً القرار الصادر عن مجلس شورى الدولة بهيئة مجلس القضايا في قضية القاضي الياس ناصيف ضد الدولة رقم 493تاريخ 19 /5 / 2005) وهي مسألة محسومة ومتفق عليها علماً واجتهاداً في القضاء وتمت على أساسها جميع التعيينات والمناقلات القضائية سابقاً وستتم طبعاً على اساسها لاحقاً. والغريب أن سرحان استعان بنص قانوني لا يطبق على القضاة ليقول إن الدرجات الاستثنائية لا تحتسب وهو قانون سلسلة رتب ورواتب الموظفين رغم كونه ينص صراحة على انه لا يطبق على القضاة.

وبالاضافة الى ذلك برزت الحدة التي اتسمت بها مواقف سرحان في مسألة التعيينات المتعلقة برئاسة مجلس شورى الدولة بعد أن كان يؤخذ عليه في السابق أنه يتجنب المواجهة ولا يتخذ القرارات التي كانت تتطلبها بعض الملفات ولا سيما في موضوع وقف القضاة المحالين على المجلس التأديبي عن العمل.

لقد أحسن سرحان إدارة مصالحه في هذا الملف ومن الطبيعي الا تكون السلطات الدستورية المعنية بالتعيين أي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والقوى الممثلة في مجلس الوزراء مطلعة على هذه الحيثيات وهي لا تزال مسلمة كما يبدو في الظاهر بالمهنية التي عرفت عنه حين كان قاضياً ولم تتنبه الى ان هناك مصالح خاصة متضاربة ذات طابع عائلي وراء رغبته الشديدة في تأمين تعيين رئيس يرتاح اليه في مجلس شورى الدولة وهذه المصالح أصبحت متداولة على نطاق واسع في اروقة قصور العدل ووزارة العدل.