سعد كيوان- عون وهاجس الاستئثار بالسلطة

  • شارك هذا الخبر
Monday, August 12, 2019


يعيش اللبنانيون كابوس العودة ثلاثين سنة إلى الوراء، عندما أسفرت أزمة عدم انتخاب رئيس للجمهورية ضمن المهلة الدستورية خريف عام 1988، عن تعيين رئيس الجمهورية الأسبق أمين الجميل، تحاشياً للفراغ الرئاسي، قائد الجيش العماد ميشال عون رئيساً لحكومة عسكرية مؤقتة، مهمتها تهيئة الأجواء لانتخاب رئيس جديد. غير أن تعطش الأخير إلى السلطة دفعه إلى تحويل هذه المهمة المؤقتة التي أوكلت إليه دائمة، وتمترس في القصر الجمهوري، وراح يشن حروبه العبثية يميناً وشمالاً، مرّة بقصفه القسم الغربي من بيروت، فكانت مجزرة 14 مارس/ آذار 1989، وأخرى ضد الجيش السوري التي عرفت بـ "حرب التحرير"، وثالثة ضد "القوات اللبنانية" التي أطلق عليها "حرب الإلغاء"، والتي كانت الأكثر قساوةً ودمويةً، وذهب ضحيتها آلاف في المناطق المسيحية. فلا "حرب التحرير" أخرجت الجيش السوري من لبنان، ولا "حرب الإلغاء" قضت على "القوات اللبنانية". حجة عون أنه كان يدافع عن الدولة، وعن الشرعية، على الرغم من أن الحكومة التي ترأسها تحوّلت لحظة تشكيلها إلى حكومة غير شرعية، بسبب رفض أعضائها المسلمين (سنة وشيعة ودروزاً) المشاركة فيها. إلا أن البلد كان منقسماً وغارقاً في الحرب، والبرلمان معطلاً لا قدرة له على الاجتماع، أو اتخاذ أي قرار! فاستمر عون في نهجه التدميري، متحدّياً معظم الأطراف اللبنانية والعربية التي سعت

لا "حرب التحرير" أخرجت الجيش السوري من لبنان، ولا "حرب الإلغاء" قضت على "القوات اللبنانية"" أكثر من مرة للتوسّط من أجل وقف الحرب، وكذلك الأطراف الدولية. وهو بعكس ما يعلن اليوم، ويتخذ من مواقف، كان عسكرياً متطرّفاً في نهجه وسلوكه، إذ كان هو من شارك في الهجوم على مخيم تل الزعتر الفلسطيني عام 1976، وكان يتباهى في ذلك. ثم واكب من موقعه ضابطاً مسؤولاً عن إحدى القطع العسكرية بشير الجميل الذي كان قائداً لمليشيا "القوات اللبنانية"، ثم أصبح قائداً للجيش. ثم خاض عام 1985 باسم الشرعية معركة سوق الغرب ضد قوات الحزب التقدمي الاشتراكي (وليد جنبلاط)، التي شهدت أيضاً مجازر في بعض قرى جبل لبنان، التي عاد واستذكرها بالأمس جبران باسيل، رئيس "التيار العوني" وصهر عون، في زيارته الجبل أخيراً، مسترجعاً "بطولات" عمّه، ما شكل استفزازاً وتحدياً لمناصري جنبلاط، نتج عنه حادثة قبرشمون الأليمة التي أدت، في 30 يونيو/ حزيران الماضي، إلى مقتل شابين درزيين، وكادت أن تطيح الحكومة اللبنانية.
كانت حروب الجنرال عون دونكيشوتية عبثية، وخطاباته ديماغوجية شعبوية، تعكس شخصيته المغامرة والمضطربة في آن واحد، شخصية قريبة، في طباعها ونزواتها، إلى شخصية موسوليني التي تدغدغها الإطلالة على الحشود، واستثارة مشاعرها، والحصول على تصفيقها ودعمها. إذ كان خلال السنتين اللتين قضاهما في القصر الجمهوري منصّباً نفسه مكان الرئيس، من دون أن يسهّل عملية الانتخاب، يطل من شرفة القصر، كما كان يفعل موسوليني من ساحة البندقية في روما، ليحيي الجماهير التي كانت تحتشد كل مساء في باحة القصر لمبايعته، وتتبرّع له بما تملك من مال ومن حليّ.. كما أن عون ليس فقط لم يسع إلى إيجاد مخرج لانتخاب رئيس، بل إنه حارب كل الجهود والمساعي والوساطات العربية والدولية من أجل ذلك، وحاول في خريف 1989 منع النواب من السفر إلى السعودية، للمشاركة في مؤتمر الطائف الذي وضع حدّاً للحرب التي كانت دائرة منذ خمس عشرة سنة.

"أعمت السلطة بصيرة عون. لا يستشير أحداً، ولا يسمع لأحد، فغرق في معارك "علي وعلى أعدائي"" أعدائي". قاتل باسم الشرعية وسقط بفعلها، لم يشأ أن يغادر القصر، حتى بعد انتخاب رئيس جديد اعتبر أن انتخابه غير شرعي، فكان أن أخرج بالقوة من جرّاء قصف طيران النظام السوري القصر الجمهوري، نتيجة صفقةٍ تمت يومها بين دمشق وواشنطن، وقضت بمشاركة قوات سورية في التحالف الدولي الذي قادته واشنطن لإخراج صدام حسين من الكويت. علماً أن عون كان قد مدّ جسوراً مع صدام الذي عمل على مدّه بالسلاح والذخيرة، محاولاً تأليبه ضد حافظ الأسد، فلجأ يومها إلى السفارة الفرنسية التي تدبرت أمر انتقاله إلى فرنسا، حيث عاش هناك خمس عشرة سنة.
وإذا كانت المصادفة أو الظرف الاستثنائي، قد حمل عام 1988 عون إلى قصر بعبدا رئيساً لحكومة عسكرية، فإن ممارسة السلطة فيه على مدى سنتين لم تشف غليل الجنرال، وظل يحلم بالعودة إليه رئيساً شرعياً منتخباً، وهذا هو هدفه الحقيقي في السياسة، لا بل هاجسه الوحيد الذي من أجله أسس تياره السياسي. وقد مهد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق، رفيق الحريري، في 14 فبراير/ شباط 2005 الطريق أمام عودة عون إلى لبنان، ليخوض غمار العمل السياسي، بعد أن عقد صفقة هذه المرة مع النظام السوري، خصمه السابق الذي كان يريد أن يدق "آخر مسمار في نعش حافظ الأسد"، بحسب ما صرح يوماً خلال "حرب التحرير" التي أعلنها ضد قوات الجيش السوري. نقل "البارودة من كتف إلى كتف"، شارك تياره في انتفاضة 14 آذار 2005، ولكنه سرعان ما انقلب عليها بلقائه أمين عام حزب الله حسن نصرالله، في فبراير/ شباط 2006 وتوقيع ورقة تفاهم وشراكة معه، بعد أن كان يعتبر حزب الله مليشيا إرهابية خارج سلطة الدولة يحرّكها النظام السوري. ولأنه يجيد الخطاب الشعبوي، وينحو نحو التطرّف، فقد أخذ جمهوره المسيحي المتعصب، والريفي بمعظمه، إلى أحضان حزب الله، ودفعه إلى المشاركة في كل المعارك التي خاضها، بدءاً من تغطيته له في حرب تموز 2006، وانتهاءً بمشاركته احتلال وسط العاصمة سنة ونصف السنة. وجاء استحقاق رئاسة الجمهورية عام 2007، فحاول عون المستحيل لفرض نفسه رئيساً، فعرقل الانتخابات ستة أشهر، رافضاً أي مرشح تسوية. وفي مايو/ أيار 2008، قرّر حزب الله أن يحسم عسكرياً، فغزا بيروت، واجتاحت مليشياته، بدعم من حركة أمل التي يرأسها نبيه بري، القسم الغربي من العاصمة، وفرض أمراً واقعاً أجبر قوى 14 آذار على الذهاب إلى تسوية تم توليفها في الدوحة التي استضافت طرفي النزاع، وحصل خلالها حزب الله على حق النقض (الفيتو) في داخل مجلس الوزراء، فيما حصل عون على مقاعد إضافية في مجلس النواب، ولكنه لم يتمكّن من انتزاع الرئاسة، إلا أنه لم يستسلم.


"منذ انتخابه في خريف 2016، وهو يسعى إلى الاستئثار بالسلطة والتعدّي على صلاحيات رئيس الحكومة خلافاً للدستور" إلى ما لا نهاية، حتى يسلم له خصومه بالرئاسة، وهكذا كان، إذ استمر الفراغ الرئاسي سنتين ونصف السنة، إلى أن تراجع رئيس تيار المستقبل (السني) سعد الحريري، وقرّر دعم عون في الرئاسة. وعلى الرغم من أن عون دخل هذه المرة القصر الجمهوري رئيساً شرعياً منتخباً، إلا أن سلوك الجنرال لم يتغير، وتعطشه إلى السلطة ازداد. وإذا كان، في فترة ترؤسه الحكومة العسكرية، يرفع شعار الشرعية، فهو اليوم يتلطى بشعار استعادة "حقوق المسيحيين"، وهو شعار تعبوي ديماغوجي بامتياز، يستبطن استعداء المسيحيين المسلمين، وتحديداً السنّة، لكونه متحالفاً مع الشيعة (حزب الله)، فمنذ انتخابه في خريف 2016، وهو يسعى إلى الاستئثار بالسلطة والتعدّي على صلاحيات رئيس الحكومة خلافاً للدستور، ويحرص على المشاركة في معظم جلسات مجلس الوزراء، لكي يترأس هو، وليس رئيس الحكومة، ويتدخل في كل شاردة وواردة، وفي أعمال الوزارات، وخصوصاً الأشغال والمشاريع، فيما أوكل السياسة الخارجية إلى صهره باسيل الذي لم يترك مكاناً للصلح مع الدول العربية، باستثناء النظام السوري، فكل المؤسسات والإدارات الحكومية مستباحة اليوم من أنصاره ومحاسيب تياره. غير أن الأخطر في أداء عون هو التدخل في عمل القضاء، باسم استقلالية القضاء. وبدل أن يتصرف رئيس الجمهورية حكماً، كما ينص عليه دوره في الدستور، فإنه لا يجد حرجاً في الانحياز طرفاً، ويخوض معارك مع من يعتبرهم خصومه من القوى السياسية. وفي حادثة تسبب بها باسيل في الجبل، وأدت إلى تعرّض وزير درزي لإطلاق نار، وكادت تؤدي إلى فتنة بين الدروز، وقف عون ليعلن أن في حوزته معلومات تؤكد أن المستهدف كان صهره، واضعاً السلم الأهلي على كف عفريت.
على الرغم من مرور ثلاثة عقود، ما زال عون منشدّاً إلى الماضي، يمارس السياسة كجنرال، ولم يشف من عقدة السلطة.