كعادتها في تصدير إشكالياتها إلى الأمام تسعى إيران من جديد إلى التلاعب على المتناقضات، علها تجد مهرباً أو مفراً من الأسوأ الذي لم يأت بعد، وها هو يطرق أبوابها.
على عتبات البوابات الإيرانية الحقيقية والمجازية، تقف الضغوطات والعقوبات الأمريكية، وحكما ستلحقها الأوروبية عما قريب، وعلى الناظر أن يتأمل مليا المشهد الأمريكي الأخير المتصل بفرض عقوبات مالية على وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، الصوت الإيراني الناعم، الذي يخدم الدبلوماسية الإيرانية في الخارج، لا سيما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، وهو من يدرك إدراكا جيدا أن الرأي العام الأمريكي لا يتطلع إلى حروب جديدة في خارج الحدود الإقليمية، ومن هنا يمكن للمرء أن يتفهم خطورة دوره.
العقوبات التي فرضت على جواد ظريف هي في الأصل رسالة إلى المرشد الأعلى خامنئي، وهو المقصود في الأصل، ودلالاتها تعني أن واشنطن لن تقبل بالتفاوض مع أقل من أعلى سلطة وهرم هيراركي في البلاد، حتى وإن كانت قد أخضعته من قبل إلى عقوبات قاسية، عقوبات تطال ملياراته التي تتراوح ما بين مائتين وأربعمائة مليار، تم امتصاصها من خيرات وثروات البلاد فيما الشعب الإيراني يتضور جوعا وفاقة.
تدرك إيران أن تحركات بعينها قد جرت بها المقادير بشكل سريع في الأيام الأخيرة، ومنها ذلك الاجتماع الاستخباراتي والأمني عالي المستوى الذي شهدته مدينة تامبا بولاية فلوريدا الأمريكية، حيث يوجد هناك مقر القيادة المركزية الأمريكية، وحضره عشرات من المسؤولين الكبار مدنيين وعسكريين ومن مختلف دول العالم استعدادا لفرض خطة إنقاذ بحري لمضيق هرمز.
لم يتوقف الأمر عند هذا النحو، فقد تم الإعلان عن بدء تزويد الطائرات الأمريكية المقاتلة من طراز " أف – 15 "، بذخائر عنقودية تعمل بالأشعة تحت الحمراء، ودفعها للمشاركة في طلعات جوية فوق مضيق هرمز لتحديد الأهداف الإيرانية المعادية، ومعروف أن هذا النوع من الطائرات ثنائي الأدوار بمعنى أنها مصممة لأداء مهام جو – جو، وجو أرض، والهدف الرئيس منها المواجهة والقضاء على القوارب الإيرانية الصغيرة التي يستخدمها الحرس الثوري الإيراني في الخارج.... هل توقف المشهد الأمريكي عند هذا النحو؟
بالقطع لا، فقد أكد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، أن الولايات المتحدة سوف تستمر في تطبيق العقوبات على إيران، ما يفيد بأن الحصار البري والبحري والجوي سيؤدي بإيران إلى التهلكة، وأنه ربما لم يعد لديها من أمل سوى أن تقحم الآخرين في معاركها، علها تضحى معركة عالمية، وساعتها سوف يختلط الحابل بالنابل وقد تفلت إيران من المصير الواقف خلف الباب منتظرا أن يتسيد عليها... لكن كيف لإيران أن تواجه النسر الأمريكي المحلق عاليا، وعلى أعلى درجة من الاستعداد متحينا ساعة الصفر للانقضاض على فريسته والتهامها دفعة واحدة ، ومن دون رأفة أو شفقة.
قبل نحو أسبوعين وقّع قائد البحرية الإيرانية الأميرال "حسين خانزادي"، خلال زيارته إلى روسيا والتي استغرقت ثلاثة أيام، مذكرة تفاهم من أجل توسيع العلاقات الثنائية بين الجانبين.
لم تلبث وسائل الإعلام الإيرانية أن أخذت في الترويج المقصود لمعلومات مغلوطة عن عمد، أشاعت فيها أن إيران وروسيا اتفقتا على إجراء مناورات عسكرية مشتركة في منطقة الخليج العربي، الأمر الذي يعني أن احتمال المواجهة الأممية سوف يزداد بالفعل، لا سيما حال وجود قطع الأسطول الروسي في المنطقة. يراهن الإيرانيون على أن جر الروس إلى مياه الخليج العربي أمر قد يرفع عنهم مخاوف الحصار البحري من الجانبين الأمريكي والأوربي دفعة واحدة، بل إنهم يسعون إلى أن يضحى الأمر سيناريو ذاتي الحدوث أو من قبيل التنبؤات التي تحقق ذاتها بذاتها.
غير أن الجانب الروسي في واقع الأمر لم يثبت الأقوال الإيرانية، بل يمكن القول إنه لفت إلى أنها غير واقعية، حتى وإن كانت روسيا تدعم طهران في العديد من مواقف السياسة الخارجية، أو تعارض تشكيل قوات التحالف البحرية التي بادرت إليها الولايات المتحدة لضمان حرية الملاحة في منطقة الخليج.
لم تجد إيران مفرا أو مهربا من أن تغير روايتها، والقول بأن البعض فهم قصة التعاون الروسي الإيراني والمناورات على سبيل الخطأ، فالمقصود تعاون وربما مناورات في منطقة الخليج الهندي، وليس في منطقة بحر عُمان أو الخليج العربي، وبالقرب من المضائق المهمة لا سيما مضيق هرمز.
تراجعت الأصوات الزاعقة الإيرانية إذن، بعد ما نفى الروس بشكل مبطن نواياهم في أن تكون المعركة معركتهم، إذ لا يزال الصراع الروسي الأمريكي على خارطة الشطرنج الإدراكية خليجيا وشرق أوسطيا بعيدا كل البعد عن ميدان ضرب النار.
روسيا تعرف خطوط الطول والعرض التي يمكن أن تعزف من خلالها معزوفتها الدولية، فقد تصيغ على سبيل المثال رؤية تقدمها للأمم المتحدة حول "إنشاء منظمة أمن وتعاون في منطقة الخليج"، يكون هدفها محاربة الإرهاب البحري والبري وفي جميع أشكاله، وحال اقتراب الأمريكيين من الحدود الروسية عبر أوكرانيا أو بولندا، فإنه يمكن جدا للروس تزويد الإيرانيين بصواريخ " إس – 400"، تلك التي تجعل المجال الجوي لإيران منطقة حمراء بالنسبة لأحدث الطائرات الأمريكية، وهكذا يكون الرد التصاعدي.
القيصر غير مهموم أو محموم بالدخول في معركة من أجل عيون الملالي، سيما وأنه لم يرَ خطوات حقيقية على الأرض، بل حالة من التخاذل الأمريكي والأوربي معا، في مواجهة التمدد الإيراني، وكأن الدب الروسي الذي أضحى ثعلبا صغيرا رشيق الحركة، لا تهمه مجريات المعركة في الحال، بل يتحين لحظة الاستقبال، تلك التي سيتمكن وقتها من أن يضع كثيرا من خطط ومشروعات الناتو للزحف شرقا ناحية حدوده في زاوية قصية، ويمارس ساعتها إملاء شروطه من منطلق قوة لا ضعف. بل على العكس تماما من مزاعم إيران وأحاديثها الزائفة عن مناورات مع الروس في مياه الخليج، فإننا نجد محاولات أمريكية تجري في السر لا الجهر، من أجل استقطاب الكرملين وساكنه إلى الجانب الأمريكي في الصراع مع الملالي.
أحد الأسئلة الواجب طرحها هنا هل الإيرانيون يثقون بالروس، أم العكس؟ الشاهد أنه لا مجال لحسن النوايا بين الطرفين بالمرة، فالروس ليسوا وكما أشار فلاديمير بوتين منذ ثلاثة أشهر تقريبا رجال إطفاء حرائق يتم استدعاؤهم إلى الشرق الأوسط، وقد وصلت الرسالة بلا شك إلى خامنئى وروحاني وظريف وفهموا مقصدها ومرماها جيدا، وإن كان الروس قد فعلوا ذلك في الحالة السورية -وهو ما لم يصرح به علانية بوتين- فإنهم فعلوا من باب الحفاظ على مصالحهم الاستراتيجية العليا، ودرءا لأخطار أكبر، موصولة بالمد الأصولي والإرهابي، والذي كان لابد له وأن يمسك بأهداب أثوابهم.
في الحالة الإيرانية لا يمكن للقيصر أن يقبل بإيران نووية، أو إيران صاروخية جنوب بلاده، أو إيران قوة كبرى مناوئة لنفوذه في جمهوريات سوفيتية سابقة، يمكن أن تسبب لموسكو صداعا هي في غنى عنه بالمرة.
كل ما يصنعه القيصر هو أنه يكسب أرضا جديدة، ومربعات قوة ونفوذ يوما تلو الآخر، أما أن يحشر نفسه في معركة الأساطيل فهذا ما لا يوده ولا يخطط له، فالرجل تحكمه براغماتية عقلانية ومستنيرة.
الخلاصة.. القيصر المنقذ لن يأتي لانتشال الملالي من وهدتهم.