هال براندز - الحكومات الأوروبية ليس بإمكانها الالتفاف على الدولار

  • شارك هذا الخبر
Sunday, July 7, 2019

يمكن للأزمات أن تثير قدراً بالغاً من الدخان والاضطراب؛ لكنها قد تكشف كذلك بوضوح شديد الديناميكيات الأعمق المحركة للأحداث العالمية. ومن هذا المنظور يمكن القول بأن الأزمة القائمة بين الولايات المتحدة وإيران، تكشف النقاب عن معضلة كبرى: أن إدارة الرئيس ترمب تطلق العنان للقوة الأميركية، وفي الوقت ذاته تقلل منها.

من ناحية، ذكَّرت أزمة إيران العالم بحجم القوة الحقيقية التي تملكها الولايات المتحدة في الواقع. الحقيقة أن النفوذ العالمي الضخم الذي تتمتع به الولايات المتحدة لا يأتي من قدراتها المادية فحسب، وإنما كذلك من موقعها في قلب أهم الشبكات العالمية، ضمن المنظومتين المالية والتجارية العالميتين، علاوة على شبكة واسعة من التحالفات الأمنية.

من ناحيته، لطالما آمن الرئيس ترمب بأن واشنطن أصبحت عاجزة، بسبب افتقارها إلى الشجاعة، ورأى أن من سبقوه في منصب الرئاسة كانوا ضعفاء على نحو مفرط، جعلهم عاجزين عن استغلال النفوذ الأميركي. ومن بين السمات الكبرى المميزة لسياساته، استعداده لاتخاذ مواقف صارمة تجاه الأعداء والأصدقاء على حد سواء.

واستخدمت إدارة ترمب التهديد بالتخلي، في تحفيز الحلفاء على إنفاق مزيد من الأموال على المجال الدفاعي. واعتمدت على عقوبات تجارية، أو التهديد بفرضها، لإجبار كوريا الجنوبية والمكسيك وكندا ودول أخرى على تقديم تنازلات تجارية. كما عمدت الإدارة إلى استغلال هيمنة واشنطن على صعيد النظام المالي الدولي، من خلال فرض عقوبات ضد عناصر مارقة، مثل فنزويلا وكوريا الشمالية.

واليوم، نمارس حملة «الحد الأقصى من الضغوط» ضد إيران. والأمر اللافت في هذه العقوبات ليس الضغوط المؤلمة التي تفرضها على الاقتصاد الإيراني، وإنما كيفية إجبار واشنطن الدول بمختلف أرجاء العالم - من حلفاء وخصوم على حد سواء - على التماشي مع سياساتها التي تعارضها غالبيتهم.

المعروف أن الاتحاد الأوروبي والصين وعدداً من العناصر المحورية الأخرى لم تؤيد فرض عزلة اقتصادية ضد إيران، بمعنى أدق: لم ترغب هذه الدول في خروج النفط الإيراني من الأسواق. ومع هذا، فإن اعتمادها على الدولار وحاجتها للدخول إلى النظام المصرفي الأميركي مكَّن واشنطن من مواجهة شركات أجنبية بالاختيار ما بين ممارسة أعمال تجارية مع إيران أو مع أميركا، ما يعتبر في الواقع ليس اختياراً من الأساس. والواضح أن أميركا وحدها القادرة على ممارسة هذا النمط من النفوذ.

ومع ذلك، كشفت الأزمة الإيرانية في الوقت ذاته عن حقيقة ثانية ترتبط بالنفوذ الأميركي في عهد ترمب: أن القدرة على إلحاق الأذى بخصم ما لا تعني بالضرورة القدرة على الوصول للهدف المنشود.

والمقصود هنا أن الدبلوماسية بوجه عام تتطلب مكافأة الضغوط التي تجري ممارستها، بالهدف الذي يجري السعي لتحقيقه. وبذلك نجد أن إدارة ترمب كانت فاعلة في قمع حلفائها وإجبارهم على خطوات لم يرغبوها. على سبيل المثال، من السهل نسبياً دفع كوريا الجنوبية لإنفاق مزيد من الأموال على استضافة قوات أميركية، أو استخلاص تنازلات تجارية متواضعة من المكسيك وكندا، إذا ما أبدت واشنطن استعدادها للمخاطرة بعلاقاتها مع هذه الدول.

ومع ذلك، فإن الإدارة حتى الآن ربما تكون أقل فاعلية بكثير في قمع خصوم أميركا؛ مثلاً، ألحقت العقوبات الأميركية مزيداً من الدمار بالاقتصاد الفنزويلي المنهار أصلاً؛ لكن هذه الضغوط لم تفلح في إقناع نيكولاس مادورو بالإقدام على الانتحار سياسياً. كما مارست واشنطن «الحد الأقصى من الضغوط» ضد كوريا الشمالية عام 2017 ومطلع عام 2018؛ لكن شيئاً بخلاف العمل العسكري بإمكانه إقناع كيم جونغ أون بالتخلي عن الرؤوس الحربية والصواريخ التي تضمن بقاء نظامه.

واليوم، تواجه الإدارة الأميركية مشكلة مشابهة مع إيران، فحتى الآن لم يوضح فريق العمل المعاون لترمب حتى ماهية ما يسعى لتحقيقه: إعادة التفاوض بخصوص اتفاق نووي، أم تقليص النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، أم إسقاط النظام. الأكثر إثارة للحيرة أن مسؤولين أميركيين ذكروا في الفترة الأخيرة أن هدف واشنطن يكمن في إجبار إيران على الالتزام ببنود اتفاق نووي نبذته إدارة ترمب في السابق بالفعل.

تجدر الإشارة إلى أن إدارة أوباما تمكنت في الأصل من إبرام هذا الاتفاق - رغم كل نواقصه - عبر ممارسة ضغوط دولية قوية، مع التواصل في الوقت ذاته مع طهران التي كانت تسعى وراء امتيازات محدودة فحسب. على النقيض، نجد أن ترمب صعد الضغوط لخدمة أهداف غير محددة؛ لكن من المفترض أنها كبرى.

على المدى القريب، أثارت هذه الديناميكية التصعيدية من قبل إيران خطر وقوع صدام بين الولايات المتحدة وإيران. أما على المدى الأطول، فإن سياسة ترمب القائمة على إطلاق العنان للقوة الأميركية، ربما ينتهي بها الحال إلى إضعاف هذه القوة بدلاً عن ذلك.

الحقيقة أن ترمب تمكن من ممارسة القوة الأميركية، فقط لأن غالبية دول العالم لطالما تسامحت إزاء هذا ودعمت دور واشنطن في قلب المنظومة العالمية للأمن والاقتصاد والمال. وبدوره، ضرب هذا التسامح بجذوره في الثقة بأن الإدارة الأميركية، في أغلب الأحوال، تستغل نفوذها بصورة مسؤولة.

من جانبهم، بدأ شركاء تجاريون للولايات المتحدة، مثل المكسيك وكندا، في العمل على تنويع أنماط التجارة لديهم، بحيث لا يتضررون فيما بعد من التقلبات المزاجية لقوة عظمى مشاكسة. كما دفعت الأزمة الإيرانية دولاً أوروبية محورية لإقرار نظام مدفوعات بديل للسماح لشركات أوروبية بالمضي في التعاون تجارياً مع طهران. في الوقت الحالي، لم تثمر هذه الجهود شيئاً، فالحكومات الأوروبية بإمكانها التظاهر بأن بمقدورها الالتفاف على الدولار؛ لكن الشركات الأوروبية تدرك جيداً أن هذا غير ممكن.


الشرق الأوسط