هل يكفي أن توصف "قمة أوساكا" بأنها نجحت في تهدئة الأزمات؟! بالقطع لا؛ فأكبر منتدى اقتصادي عالمي يضم نخبة العالم وصفوة قوته الاقتصادية، لا يكفيه أن يتحول إلى فرصة للتلاقي بين مجموعة من الزعماء لا يوجد ما يمنعهم من عقد مثل هذه اللقاءات بشكل ثنائي، هو أجدر بالتأكيد على اقتناص مزايا "ديبلوماسية القمة"، الثنائية أو الثلاثية، المتعارف عليها في الأدبيات السياسية، سواء من حيث كثافة تسليط الأضواء، أم القدرة على اتخاذ قرارات ومواقف حاسمة. لكن من عيوب "ديبلوماسية القمة" أنها إذا فشلت، تُلقي بظلال واسعة من خيبة الأمل، وتُشيع الفشل في الأفق. وهو ما حدث مثلاً في "قمة هانوي" بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والكوري الشمالي كيم جونغ أون، التي عُقدت في شباط (فبراير) الماضي. وربما لذلك، تتلكأ الخطى في عقد لقاءات قمة، ويُفضل البعض الالتقاء على هامش الاجتماعات الموسَّعة، سواء للأمم المتحدة، أو غيرها من المنظمات الدولية، والمنتديات الاقتصادية. على هذه الخلفية، يبدو مشروعاً السؤال عن جدوى قمة "مجموعة العشرين" التي استضافتها اليابان، للمرة الأولى، في مدينة أوساكا في دورتها الرابعة عشرة. وربما يكون جديراً بنا أن نوسع السؤال ليشمل البحث في جدوى "مجموعة العشرين" ذاتها. ومن المعروف للخبراء والمحللين، أن القمم المُجمعة، تتأثر بسلوك الدولة المضيفة، وتوجهاتها، وما تنتهجه من سُبل لتحقيق مصالحها. من هنا، فإن "قمة أوساكا" التزمت أدباً يابانياً جماً، ربما يكون مع أسباب أخرى سبباً في غياب مناقشات جادة، ومراجعات صريحة، للكثير من الأزمات التي تُخيم على الساحة الدولية، وتبث الذعر، من وقت لآخر، في الأسواق المالية العالمية والناشئة. فإلى جانب إهمال بحث التوتر الشديد بين واشنطن وطهران، على رغم آثاره الوخيمة على الاقتصاد العالمي؛ أحجمَ البيان الختامي لـ "قمة أوساكا" عن التنديد بـ "الحمائية التجارية" التي أشعلها الرئيس ترامب في وجه المنافسين جميعاً ولم يستثن منهم الحلفاء التقليديين في أوروبا. إذ اكتفى القادة في بيانهم بـ"الدعوة" إلى "توفير مناخ تجاري حر ونزيه وغير منحاز"، وهو كلام مُرسل لا طائل حقيقي من ورائه، فأميركا ترامب ترى المناخ التجاري "الحر والنزيه" من منظور أُحادي يستند إلى شعار رئيسها الدعائي: "أميركا أولاً". وهو السلوك الذي مكَّنه من تحقيق مكاسب مادية وسياسية، بعضها تمثَّل في العلاقات التجارية مع الشركاء في القارة الأميركية، وبعضها تمثل في ابتزاز إسهامات أوروبية أكبر في موازنة "حلف الأطلسي"، وغير ذلك الكثير، وبعضه ينتظر الدور سواء في علاقاته التجارية مع الصين أو أوروبا أو اليابان، وهي سياسات تحمل فكراً واحداً، بأوجه عدة، ترتكز على تفضيل المفاوضات الثنائية بديلاً عن الاتفاقات الجماعية الواسعة، وهي نبت حقيقي لفكر ترامب الشعبوي المناهض للمؤسسات ككيانات يراها غير مُثمرة، ولا تُقر مبدأ "أميركا أولاً".
لا ينفي ذلك ما جاء في البيان الختامي لقمة من أن النمو الاقتصادي العالمي لا يزال ضعيفاً مع "زيادة حدة" التوتر التجاري والجيوسياسي. كما أن البيان الختامي لم يوضح ماهية الإجراءات والخطوات التي تم إقرارها تحقيقاً لما جاء به من عبارات مطاطة فضفاضة مثل: "نسعى جاهدين لتوفير مناخ تجاري واستثماري حر ونزيه غير منحاز وشفاف ومستقر يمكن التكهن به وإبقاء أسواقنا مفتوحة". ولذلك، رأى بعض القادة أن الفرصة ربما لا تسمح بأكثر من الحديث عن نجاحات سابقة تحققت خارج "قمة أوساكا". إذ نجد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يُصرح قائلا أن "الاتحاد الأوروبي توصل إلى مسودة اتفاق للتجارة الحرة بينه وبين دول أميركا اللاتينية بشروط تتماشى ومعاييره (الاتحاد)". ويقفز هنا سؤال يبدو ساذجاً: هل يمكن أن يصدر تصريح كهذا من زعيم أوروبي حول اتفاق مماثل مع واشنطن ترامب؟! لا شك أن الديبلوماسية اليابانية نجحت في إقناع قادة "قمة أوساكا" في تركيز البيان الختامي علي المبادئ والقواسم المشتركة، وتجنب نقاط الخلاف. وهو أمر يطعن بقوة في جدوى "مجموعة العشرين"؛ خاصة وأنه تم استبعاد تلك النقاط من مائدة المفاوضات، فعلى أي شيء يجتمعون؟ وللتدليل على أن قمة "أوساكا" في أبهى صورها، تنحصر في كونها فرصة لمفاوضات ثنائية "هامشية"؛ تجدر الإشارة إلى أن ترامب هدد قبل القمة بأيام من أن بلاده ستفرض تعريفات جمركية على الواردات من الصين إذا لم يلتقيه الرئيس الصيني شي جينبينغ في أوساكا. وهو اللقاء الذي تم بالفعل وصرح بعده الرئيس الأميركي بأن المحادثات التجارية مع الصين ستستمر ولن يفرض المزيد من التعريفات الجمركية حالياً، كما صرح بعدوله عن منع الشركات الأميركية من التعامل مع العملاق الصيني "هواوي"، وهو ما عده البعض تراجعاً أميركياً وانتصاراً صينياً. وكانت وكالة أنباء الصين الجديدة ("شينخوا") أفادت بأن الرئيس الصيني أبلغ نظيره الأميركي بأنه يأمل بأن تُعامل الولايات المتحدة الشركات الصينية "بشكل مُنصف" (التعبير ذاته وثيق الصلة بأدبيات ترامب في معاركه التجارية)، ما يُشير إلي ميوعة "قمة أوساكا"، وعدم مغادرتها حيز البروتوكول وحدود المبادئ، وهي المبادئ التي لا تحظى بالفعل بتوافق مع القطب العالمي الأوحد. وأكد ذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتصريح قال فيه أن "القرارات لم تحدث انفراجة"، وهو يبدو مُبالغاً في استخدامه تعبير "القرارات". علماً أن بوتين كشف أيضاً عن عمق الخلافات الروسية - الأوروبية بحديثه عن أن "الليبرالية الأوروبية أمر عفا عليه الزمن"، ما استدعى رداً سريعاً من رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي دونالد توسك، يمكن اعتباره بمثابة رسالة مشتركة إلى كل من بوتين وترامب على السواء؛ إذ قال: "المسرح العالمي لا يمكن أن يصبح ساحة يُملي فيها الأقوى شروطه على الأضعف، وحيث تهيمن الأنانية على التضامن، والمشاعر القومية على الحس السليم".
بالفعل، جرت مساومات أفرغت "قمة أوساكا" من مضامينها المُفترضة، وأدت إلى قبول ترامب إعلان القمة "التزام التطبيق الكامل" لاتفاق المناخ الموقع في باريس في عام 2015، مقابل تجنب البيان الختامي انتقاد الحمائية التي تعتمدها سياساته (ترامب)، ولما كان مؤكدا أن "التزام" الرئيس الأميركي لن يتحقق؛ إذ أنه مُنسحب بالفعل من الاتفاقية، يصح اعتبار ترامب البطل الحقيقي للمسرحية التي تابعها العالم من أوساكا؛ وسيتغنى البطل في خضم سباق انتخابات 2020 الرئاسية الأميركية بفشل "مجموعة العشرين" في مجابهة سياساته، فشلاً يعادل ضعف الجدوى من عمل المؤسسات، وانتصار فكرة المفاوضات الثنائية علي الاتفاقات المُجمعة؛ فـ "أميركا أولاً".